16 نوفمبر، 2024 8:29 ص
Search
Close this search box.

مع كتابات.. جودت جالي: أعبر عن الحزن كعزاء و مرحلة يجب تجاوزها

مع كتابات.. جودت جالي: أعبر عن الحزن كعزاء و مرحلة يجب تجاوزها

خاص: حاورته- سماح عادل

“جودت جالي” كاتب وقاص ومترجم عراقي، يكتب منذ السبعينيات، من مواليد 1951 في بغداد بقرية الرستمية، مارس التمثيل في فرقة مركز شباب الزعفرانية وفازت الفرقة بالجائزة الثانية في المهرجان القطري لمراكز الشباب عن مسرحية له. كتب الشعر مبكرا وحصل على جائزة في مهرجان لثانويات الكرادة الشرقية وعلى الجائزة التقديرية عن قصيدة له في مسابقة لإذاعة صوت الجماهير. نشر أول قصائده في جريدة “الثورة” كما نشر في “الراصد” و”طريق الشعب” و”الفكر الجديد” و”الثقافة الجديدة” مواد متنوعة.

كان مقلا في الكتابة وميالا إلى الإطلاع وتنمية قدراته اللغوية فرغب بإتقان اللغة الإنكليزية وبعدها تعلم اللغة الألمانية بمجهوده الشخصي وترجم عنها لجريدة الثورة وفيما بعد لجريدة “القادسية” عددا من القصص، ولكن اللغة الفرنسية استحوذت على اهتمامه أكثر فأهمل الألمانية وشرع بتعلم اللغة الفرنسية بنفس الطريقة، وداوم على تقوية معرفته باللغتين الإنكليزية والفرنسية، قراءة، خلال خدمة الاحتياط العسكرية في الثمانينيات، في الجبهة، ومنذئذ ترجم عنهما للصحف والمجلات العراقية، “الثورة” و”القادسية” و”التآخي” و”الثقافة الأجنبية”. إلى جانب ذلك بدأ يكتب القصص وينشرها في الصحف، وفي التسعينيات أخذ يقلل من نشاطه الثقافي حتى انعدم أو كاد.

عاد إلى نشاطه بعد 2003 ترجمةً وكتابةً في الصحف والمجلات موليا اهتماما خاصا إلى الثقافة الشعبية والتراث وكتب وترجم عددا من المقالات لمجلة التراث الشعبي وصفحات الذاكرة والتراث في عدد من الصحف العراقية، وقد أعد لسنوات متابعات ثقافية لمجلة “الثقافة الجديدة”.

صدر له عن دار الشؤون الثقافية كتابان ترجمةً وتحريراً عن الفرنسية.. (نصوص عن بول ريكور) 2012 و (في المنهج الأخلاقي للعمل السينمائي) 2016 . صدر له من مؤلفاته عن دار ضفاف مجموعة قصص (فك الحزن) 2017 و مقالات في السينما (جهات السينما الأربع) 2017، و(الهجاء في الشعر العراقي ومقالات أخرى في الثقافة والأدب) 2017، ومجموعة (ما رواه العجوز حكمان عن الفتى الجميل جوهر) 2018 ومجموعة قصص أجنبية مترجمة (التودد إلى الزوجة) 2018، هو يعكف على إعداد كتب أخرى للطبع.

كتب مقالات باللغة الفرنسية عن كتاب عراقيين وقصيدة رثاء للفنان “مؤيد نعمة” في مجلة (بغداد) التي تصدر بالفرنسية عن دار المأمون، كما نشرت له قصة (الضباع) كتبها باللغة الإنكليزية في مجلة “كلكامش” التي تصدر عن الدار نفسها. حاز على الجائزة التقديرية في مسابقة “سافرة جميل حافظ” الأولى لسنة 2017 للقصة القصيرة عن قصته (ممشى الكالبتوس)، وشهادة تقديرية من إتحاد الأدباء والكتاب في العراق.

إلى الحوار:

(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف طورته؟

• الشغف بالكتابة يبدأ عادة عندما يشعر الإنسان بالميل إلى القراءة، إلى اكتشاف ما هو موجود على صفحة المخطوط أو المطبوع، لعل الانبهار بدأ بالمجلات ذات الصفحات الكبيرة والمليئة باللوحات والمناظر الطبيعية وصور النساء الجميلات، هذه المجلات، الروسية كما أتذكر، كان يجلبها لي ابن عمي وأنا في السادسة من عمري، وبتأثيرها تشكل عندي أيضا الميل إلى الرسم، وقوي هذان الميلان باكتشافي في تلك المرحلة أيضا مكانا يرمي فيه قساوسة يديرون كلية قريبة أكواما من الكتب والمجلات المزينة بالصور والرسوم، وباللغتين العربية والإنكليزية فكأني اكتشفت كنزا! عندها تشكل عندي الميل الثالث وهو تعلم لغات أجنبية. هنا يأتي دور الموهبة لتشتغل على هذه الإمكانيات في تكوين الشخصية الأدبية والباقي يعتمد على الظروف الموضوعية والذاتية.

(كتابات) لك مجموعة قصصية بعنوان (فك الحزن) هل أصبح الحزن ثيمة من ثيمات السرد العراقي في الوقت الحالي في رأيك؟

• نعم، ذلك صحيح تماما ولكن ثيمة الحزن تاريخية في السرد العراقي وهذا موضوع آخر. بالنسبة لي.. من المفيد، لتوضيح أكثر، الإطلاع على المقال المستفيض المحكم الذي كتبته الدكتورة “هناء خليف” عن مجموعة (فك الحزن) ونشر في موقع الناقد العراقي وعلى صفحتي وصفحة الدكتورة بعد ذلك بعنوان (جماليات الحزن وفضائله)، وما كتبه الأستاذ الناقد “جاسم عاصي” عن المجموعة أيضا ونشر في جريدة الصباح وفي عدد تموز 2018 من الثقافة الجديدة بعنوان (سرديات الحزن وتفكيكها). أردت أن أكتب قصصا واقعية، والواقع محتقن بالحزن، ولكني أردت أيضا أن أعبر عن الحزن كعزاء ودواء وقبل كل شيء مرحلة يجب تجاوزها. من جانب آخر يصعب تجنب إغراءات استكشاف جماليات الحزن وهذا ما حاولت فعله.

(كتابات) في مجموعة ( ما رواه العجوز حكمان…) في قصة “قبر جماعي” رصدت جرائم السلطة في حق المعارضين وتفتيش الاحتلال الأمريكي للقبور الجماعية من خلال قصة حب.. حدثنا عن ذلك؟

• هذه القصة مختلفة عن جميع القصص التي كتبتها، وأنا أردتها مختلفة، قلت في نفسي لماذا لا أكتب قصة بطلها منتم لحزب السلطة أو انتهازي. من الناحية الشخصية أزعم أنه نقيضي ولكنه في القصة إحدى شخصياتي وعلي أن أمنحه فرصته في الكلام. كان علي تصوير الصراع النفسي الذي يمر به، الشخصية الرئيسية الذي جعله طموحه المهني وإيثاره السلامة أن يساير حزب السلطة ويدخل في تقاطعات مع ابنة عمه التي يحبها ومع ابن خالتها الذي ينتمي إلى المعارضة السرية ويشارك في انتفاضة 1991 والذي يمتزج حبها له بميل فكري مشابه لميله.

هذا تحد قبلته مرة ولم تتكرر هذه التجربة ولكني أرى أنه من المناسب، وتوجد إمكانية في النص لذلك، أن أطور القصة إلى رواية. بالمناسبة هذه القصة نشرت سابقا على موقع إتحاد الأدباء بعنوان “الرميم” وقد أجريت عليها تغييرات من بينها العنوان.

(كتابات) لما اخترت مجال الترجمة؟

• لأترجم للقارئ قصصا تمنيت لو أني كاتبها، ولأقول ما لا يمكنني، لأسباب سياسية ومحاذير اجتماعية، قوله في نص بقلمي، والترجمة بعد كل شيء وسيلة مضمونة للحصول على عائد مالي وهذا، استخدام الترجمة كوسيلة مساعدة للمعيشة، أعتبره السبب في استنزاف طاقتي وموهبتي وسنينا من عمري قضيتها دون إنجاز إبداعي أو بإنجاز دون الطموح.

(كتابات) هل تجد صعوبات في ترجمة النصوص الأدبية.. ولما؟

• أصلا أنا لا أضيع وقتي ولا أُقدم على قراءة نص إذا لم تتوفر لدي معلومات عنه مقدما، تسوغ تناولي له ولا أترجم إلا النصوص التي تتماشى مع ذائقتي وليس مع الموضة السائدة. النص المفضل لدي هو الواقعي. بعد هذا لا أعتقد توجد صعوبة.

(كتابات) هل الترجمة في رأيك كتابة إبداعية أكثر من كونها نقل حرفي لنص ما؟

• لم أفكر في هذا كثيرا، ولم أحاول تأمله من ناحية تنظيرية. أنا عموما، على حد قول الراحل الكبير “محمد الماغوط”، ما بحب الفلسفة، ولا التنظير، مع شديد احترامي للمشتغلين في التنظير ولمن يحب قراءة الفلسفة والنظريات. بكل بساطة أترجم نصا أرى أني قادر على نقله إلى العربية دون التفكير في مشاكل الخلق الإبداعي وإعادة كتابة النص وما إلى ذلك، ولكن هذين، الخلق وإعادة الكتابة، ربما يجريان تلقائيا عن طريق الموهبة.

(كتابات) ما رأيك في حركة الترجمة في الوقت الحالي في المنطقة العربية.. وهل تعاني من مشكلات؟

• حركة الترجمة لدينا نشطة ولكنها لم تتخلص كثيرا من عيوبها التاريخية، من انبهارها بالموضات والتيارات، وتبعيتها في مؤسسات الترجمة الرسمية إلى الأيديولوجية المهيمنة والمصالح السياسية التي تقرر الاهتمام بنتاج جهة وإهمال نتاج غيرها. الآن التيار السائد في سوق الكتب الأدبية هو ترجمة نتاجات من البلدان التي كانت تسمى العالم الثالث، وترجمة ما يتعلق بالأقليات الإثنية والجنسية والثقافات التي كانت تعامل سابقا هامشيا.

(كتابات) لما تعتبر ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى ضئيلة.. وهل هناك أسباب لذلك؟

• التوجه إلى مخاطبة الآخر والتثاقف معه عن طريق ترجمة النتاجات الأدبية إلى اللغات الأخرى يتطلب وجود واقع ثقافي صحي لدينا، ويتطلب وجود الثقافة عموما كمؤسسة اجتماعية وجزء من بنية المجتمع نفسه، عندها سيتوفر دعم بشري ومادي وتخرج حركة ترجمة الأدب من المحدودية ومن صيغة تشبه كتيبات التعريف السياحي لأدبنا.

(كتابات) في مجموعة (التودد إلى الزوجة) لما اخترت موضوع واحد تترجم على أساسه النصوص؟

• قد تكون مجرد صدفة بدت المجموعة هكذا أو لأني لي اهتمامات محددة في اختياراتي فبدت القصص متقاربة في الثيمة إذا كان هذا قصدك، ولكن القصص ترجمت على فترات مختلفة وفي ظروف مختلفة ولا رابط بينها من النوع الذي تفضلت به. يعني لم تكن توجد فكرة مشروع أو قصدية لجمعها معا. كل ما في الأمر هو هذه ما استطعت جمعها من القصص التي ترجمتها خلال ثلاثين عاما. يرجى مراجعة (كلمات لابد منها في آخر كتاب التودد إلى الزوجة).

(كتابات) في رأيك هل تشهد الثقافة العراقية نهضة؟

• أخشى أن أقول أن النهضة التي نراها معظمها، باستثناء مواهب فردية وأسماء، هي نهضة استعراضية، مشهدية وفقا لمنطق مشهدية (المجتمع الاستعراضي) للفرنسي “جي ديبور”، تستغل الازدهار في وسائل النشر والطباعة، وتسهيلاتهما، لا بل استسهالهما، لانفجار كمي وعددي. مع ذلك فالتراكم الكمي يفرز تغييرا نوعيا بالتأكيد. فلنكن متفائلين بقدرة الثقافة العراقية على طرح تغيير نوعي شامل غير الحرية المكتسبة، بعد سقوط النظام السابق، في اختيار المواضيع وصيغ الخطاب.

(كتابات) احكي لنا عن كتابك في النقد السينمائي؟

• كتاب (جهات السينما الأربع) 2017 إصدار دار ضفاف ليس كتابا تنظيريا أو تفصيليا في الجوانب الفنية للأفلام، بل أقرب إلى العرض وتوفير المعلومات للقارئ عن خلفية الفيلم التاريخية والفكرية وبعض الجوانب التي تحبب مشاهدة الفيلم للقارئ، أما الكتاب النقدي إذا صح التعبير فهو (في المنهج الأخلاقي للعمل السينمائي) 2012 إصدار دار الشؤون الثقافية العامة، وهو مجموعة مقالات مترجمة عن الفرنسية وموضوعه العام واضح من العنوان.

قصة (فك الحزن)..

ل”جودت جالي”

جلس هناك، في غرفة صغيرة جعلها مكتبا له في منزله، حيث وضع منضدته، ومذياعا، وجهاز تلفزيون صغيرا، وخزانة كتبه التي تضم مراجعه الهندسية، هناك حيث رتب منذ سنين ركنه الخاص لإنجاز تخطيطات هندسية كهربائية للشركات الصغيرة، ولقراءة مجلات علمية فيما يشغل التلفاز أو المذياع بصوت واطئ كعادته. لكنه هذه المرة جلس، دون قراءة أو مشاهدة لتلفاز أو استماع لمذياع، ينصت إلى أصوات النسوة تأتيه من غرفة الاستقبال، منخفضة، مهمهمة. فهم، وهو في مكانه، ما يجري. كانت زوجته مع زائرتين من الجيران تحاولان إقناعها بأن تنزع ثوب الحداد على ولدها الذي قتل قبل حوالي عام. نظر من النافذة التي لا تطل، من حيث يجلس، على شيء سوى جدار الجيران العالي، إلى الطابوق العاري الكالح، وهو يصغي إلى الأصوات التي تتدافع بهمس.

تذكر اليوم الذي جلب فيه ابنه الوحيد إلى البيت جثة هامدة وقد ثقب الرصاص رأسه وصدره إثناء معركة نشبت في شارع الحي بين جماعتين مسلحتين قتل فيها معه صاحب محل العطور الذي ذهب ولده ليشتري منه قنينة عطر. وضعه في تابوت عند استلامه من المستشفى وأوصى من معه من أولاد أقربائه أن يحولوا، عندما يوضع التابوت في البيت لتبكي عليه النساء، بين أمه وبين فتحه لكي لا ترى وجهه المشوه. لم يطل وقوفه مع الرجال أمام البيت وطلب حمل التابوت خارجا، وعندما شرعوا بتغسيله قبيل دفنه لم يسمح لها أن تنزل من السيارة إلى أن تم تكفينه. لقد فاجأه وأضناه نواحها، وهي المرأة التي عرف فيها الهدوء والبكاء الأقرب إلى الصمت.

في ذلك اليوم الذي طُرق فيه الباب على عجل وفتحه ليجد نفسه أمام جار له يخبره بارتباك بمقتل ولده، فتماسك وعاد إلى الداخل ليجلب بطاقة الهوية ونقودا ويخرج ليتحقق من صحة الخبر، كانت هي في غرفة النوم ترتب الملابس التي جمعتها من على حبل الغسيل. نظرت إليه، تلاقت نظراتهما للحظة. كانت قد سمعت إطلاق الرصاص البعيد دون أن يقلقها سماعه، رغم ما تشعر به من أسف وخوف على الناس، لأنها اعتادت أن تسمعه بين الحين والآخر، وهي تعرف أن ما يحدث في الشارع من فوضى عند حدوث قتال لا يبلغ بيتهم الصغير، المنعزل في نهاية زقاق، إلا أصداؤه. لكن غياب الابن ورغبة الأب المفاجئة في الخروج أثارا في نفسها التوجس. رأى كيف توترت ملامحها شيئا فشيئا، اتسعت عيناها، وامتقع وجهها، وألقت بالملابس من يديها ولم تزد على أن سألته (ماذا حدث يا جليل!؟) صرخت بعدها دون أن تنتظر منه جوابا.

تصبح ذكرى مقتل ابنهما شريكتهما القاسية المحببة المدللة، مرشدة عواطفهما، ومدبرة أيامهما المتوحدة، قساوتها تعزز حلاوة الحزن، والأسى المتبادل، فيخدمانها بحرص الذي لا يملك في الدنيا تأمينا على حياته سوى رضا مخدومه. تحل بينهما كالسيدة في بيتها، وكأنها تقيم في غرفة ابنهما التي كانا قد رتباها في حياته لتكون عش زواجه فإذا بذكراه تصبح بعد موته، في عيونهما، أرملة يرعيانها إكراما له ووفاء. أمه تتحين الفرص لتصعد إلى غرفته حيث زمن الحزن عصي على القياس والتنظيم، وحيث الماضي هو الجدران والأثاث، والذكريات تفاصيل تعاد ولمسات تستعاد دون انقطاع، وحيث المكان للابن بديل عنيد تفخر الأم به وبعناده، تسوي فراشه مرارا وتكرارا، وتعدل صوره على جدرانه، وتتفقد ثيابه وتعيد كل يوم ترتيبها وحفظها في دولابه، وتداري مشاعره، وتلملم كلماته التي تنطق بها أشياؤه. تحرص أن لا تزعج قيلولته، وأن لا تنهره لكلمة متبرمة قالها يوما كما نهرته يومها، تعده أن لا ترد له طلبا بعد و لا تحول بينه وبين رغبة مهما شطت وغالت.

كان جليل يراقب توغلها في متاهة التوجع، ويخشى عليها من أن تغتال نفسها، من أن تبتلعها لحظة يحلو فيها للموجوع الاستسلام للنهاية فيجدها ميتة. هو أيضا يصعد إلى الغرفة بين الحين والآخر لكن صعوده كتفقد الأمين لعهدة عزيزة لديه أكثر مما هو صعود إلى المبكى. لا يستطيع أن يتقبل أن يكون الحزن شرطا للحياة و جوازا للموت، ويبدو له بقاء قامته منتصبة ورأسه مرفوعا نوعا من الوفاء لكرامة هي كل إرث ولده. يعيل صبره و يعاتبها بشيء من القسوة إذ يرى اصفرار وجهها و احمرار عينيها، وهي تفهم، تفهم أنه لفرط حبه لها لا يريدها أن تتحول الى شجرة للدموع ومثابة للنحيب، فتبكي، تبكي هذه المرة إشفاقا على عجزها و توسلا بإرادة فارقتها. كانت قد طلبت منه أن يسمح لها بالنوم في غرفة ابنها إذا أرادت ذلك ولم يعترض مقدرا أن هذا سيساعدها في التخفيف من الحزن الذي إكتض به صدرها، لكنه أدرك فيما بعد أنها ذهبت إلى أبعد مما يجب مع الحزن بحيث أصبحت العودة إلى الحياة الطبيعية أشق عليها من الحزن نفسه، بحيث غدا الحزن رفيقا مستبدا يدعي أنه الدليل إلى الوفاء و لا دليل غيره. في الصباحات أو المساءات التي تجمعهما كان يحاول أن يجد لاجتماعهما مسرات لا تلقى من سطوة الحزن اعتراضا، مسرات كالاحتجاج المسالم… تعليق على مناسبة عند الجيران أو خبر عن الأهل، مديح لمهارتها في إعداد طبق شهي أو لترتيب شأن من شؤون المنزل، وكانت هي تبتسم، يفتر ثغرها عما هو شبيه بالسرور، سرور مجامل… هذا فقط..

لا تمل المرأتان، بكل ما أوتيتا من مهارة الجدل، من تجريد زوجته سعاد من كل عذر بصوتين أنثويين، يبدوان عبر إصغائه المتضامن معهما، كالشمس غير المرئية التي تخلع بلطف ذهبها على طابوق جدار أيامهما العالي الأجرد. لا تمل المرأتان من محاولة إقناعها بخلع الثوب الأسود ولبس الثوب الذي جاءتا به لفك حزنها، ولا تنيان عن الترديد

-حرام عليك لبس السواد كل هذه المدة… لا تعذبي ولدك… سيفرح لك وهو في قبره… كلنا فقدنا أعزاء.

ربما لمستا أخيرا منها لينا ووعدا بخير. انصرفتا بعد أن تبادلتا معها الكثير من القبل كأنهما بذلك تأخذان منها عهدا وموثقا. سمع الباب الخارجي يفتح ويغلق، وسمع صوت خطواتها وهي تعود إلى غرفة الاستقبال. توقفت الخطوات للحظات ثم تواصلت مقتربة، ودخلت عليه سعاد وهي تحمل الثوب بين يديها مطويا. نظر إلى قماش الثوب، أزرق بورود رمادية، اختيار موفق لإنتقالة محتشمة من حياة الحداد إلى حياة واعدة بألوان أكثر بريقا وانفتاحا. شعر بأن هذه هي اللحظة المناسبة ليأخذ بيدها، ليكسر قشرة التردد التي تزداد صلابة حولهما، ليتخطى معها حاجز الاستسلام اللا مرئي، السميك مع ذلك، لهموم تتقمص الذكرى، الى حقيقة الحياة، حقيقة أن لا أحد يعيش الى الأبد، ولا شيء يدوم، وعلى الأحياء أن يواصلوا ما كان الراحلون جديرين به، أن يواصلوا التمسك بالحياة. هي أيضا كانت بمجيئها إليه حاملة الثوب، تتوق لأن تخطو خطوة لا مسافة لها لو لم تكن باتجاهه وتقول كلمات لا معنى لها إن لم يسمعها هو. قالت له بخجل:

– أنظر يا جليل هذا الثوب الذي جلبتاه لي.

نهض وتناول الثوب منها. أرسله على طوله وقربه من جسمها، ألصقه بجسمها جاعلا يديه على كتفها حاجبا عن نظره السواد كله . قال لها بابتهاج:

– الله يا سعاد.. ثوب بمنتهى الجمال…ليست لديك فكرة كم سيكون رائعا عليك!

هزتها هذه الكلمات المأمولة، وانطلق من فمها المبتسم صوت ككركرة الطفل، قصيرة وسريعة، ثم… فجأة… استعاد وجهها وجومه، وكأنها لامت نفسها على التمادي في إظهار فرحتها الأنثوية، وجذلها لما اعتبرته إطراء. أخذت الثوب منه وأعادت طويه وهي مطرقة قليلا، ساهمة. انسحبت وتوجهت نحو غرفة ابنها صاعدة السلم بخطوات بطيئة ونظرات مصوبة إلى الأعلى. لم تنزل من غرفة ابنها إلى أن حل الليل. ذهب جليل إلى المطبخ وأعد لنفسه عشاء خفيفا، وشرب قدحا من الشاي، وقضى بعض الوقت يروح ويجيء. فكر أن يصعد ليجلس معها ويحاول، من خلال أحاديث مسلية، أن يشرح لها أن العناد ليس هو كبرياء الحزن، لكنه عدل عن نيته، قائلا في نفسه أنها قد سمعت اليوم ما يكفي. بعد قليل انقطع التيار الكهربائي. شغل مصباحا كهربائيا يعمل على البطارية وضعه في فسحة السلم على منضدة وهو يتمتم “ستنزل بعد قليل… ستنزل..”، وأشعل مصباحا نفطيا ذهب به إلى غرفة النوم، قلل ضوءه ووضعه على منضدة صغيرة، وانطرح على جنبه في الفراش، موليا وجهه ناحية الجدار. فكر… “هل جرحت مشاعرها؟ هل كان علي أن أتصرف تصرفا آخر أكثر لياقة أو لباقة؟ أن أستعمل كلمات أخرى؟ أم أتركها لحالها؟ ولكنها هي التي جاءت الي طالبة رأيي …”. أسئلة كثيرة تترجرج في ذهنه المتماوج بين اليقظة والنعاس. انتبه إلى صوت باب غرفة الابن يفتح، وأصغى إلى الخطوات الأليفة تنزل السلم، ثم، انشدّ متوترا إلى الصرير اللطيف لقبضة باب غرفتهما، وأحس بها تقترب، تنحني عليه، تصعد إلى السرير، تتمدد خلفه، لصقه تقريبا، نحوه، أحس بيدها تستقر على زنده، وسمع صوتها المتهدج وهي تسأله:

– هل سيكون ابننا مسرورا يا جليل؟

– مسرور لأي شيء يا سعاد؟

– لأني فككت حزني؟

– ماذا يقول لك قلبك؟

-…. لا أدري … قل لي أنت!

– ما الذي يتمناه ابن لأمه؟

– ………………

– لا تخجلي من نفسك يا سعاد ولا تخافي منها… هل يقبل ابننا أن يكون حزننا عليه بيتا بلا باب أو نوافذ؟

التصقت به. أحاطته بذراعها.

– هل ظهر لك في المنام يا جليل كما يظهر لي؟

– ربما كان الأب يختلف عن الأم لحكمة أرادها الله.. لم يفارقني في يقظتي يوما. أتصدقين يا سعاد أننا حين نريد مغادرة البيت لأمر ما… للتسوق أو لزيارة أهلنا.. أحيانا يخيل إلي أننا نسيناه وحده في البيت فتتوقف يدي للحظة وأنا أقفل الباب بالمفتاح مصدقا ما خيل إلي.

زادت من احتضانها له واضعة راحة يدها على صدره. تصاعدت نبضات قلبها على ظهره. نظر إلى يدها التي استقرت على موضع قلبه، ورأى ردن الثوب الجديد يلتمع حول ساعدها المستقر على خصره، فأغمض عينيه وراح في اطمئنان عميق.

2009

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة