23 نوفمبر، 2024 7:32 ص
Search
Close this search box.

باطل مُشتَهر: ليست فكرة سلمان!

باطل مُشتَهر: ليست فكرة سلمان!

نادرا ماتجد مصدرا أو مرجعا أو كتابا منهجيا من كتب الدراسة، في التاريخ الاسلامي أو السيرة النبوية والمغازي، يتحدث عن غزوة الأحزاب (ألخندق)، إلا ويشار الى أن فكرة حفر الخندق تعود الى الصحابي الجليل سلمان الفارسي (رضي الله عنه وأرضاه). لقد ارتبطت فكرة الخندق بمشورة سلمان الفارسي على النبي (صلى الله عليه وسلم)، حتى غدت هذه معلومة بدهية في اذهان عموم الناس لشدة اشتهارها. والواقع ان كثيرًا من وقائع التأريخ والسيرة النبوية بحاجة الى نقد وتحقيق لبيان ماهو صحيح وما هو وَهْم، وهذه المعلومة بالذات (مشورة سلمان الفارسي) بحاجة الى تمحيص و دراسة وتثبّت من صحتها، لأن فيها أشياء لا تستقيم، ولا يقبلها المنطق. أما مجرد وجودها في كتب السيرة والتاريخ فهذا لا يعني صحتها، لأن المؤرخين واصحاب السير والمغازي كانوا يتساهلون في رواية الأخبار والأحاديث في كتبهم، ولا يلتزمون أحيانا بشروط صحة الرواية والوثوق بها، كما هو معتمد في منهج المحدثين.

ياترى ماهي صحة هذه الرواية (أو المقولة) التي تقول ان فكرة حفر الخندق هي نتاج مشورة سلمان الفارسي على النبي (صلى الله عليه وسلم)، وان النبي استحسن الفكرة ونفذها؟. هل لهذه الرواية أصل؟. ومن رواها؟. وكيف شاعت وترسخت هذه المعلومة في ألأذهان دون ان يتم عرضها على النقد والتحقيق؟.
تعال أخي القارئ الكريم، لننظر في ألأمر:
يعتبر محمّد بن اسحق الذي ولد سنة 80 هجرية أوّل من كتب في السّيرة النّبويّة الشّريفة، وأول من وضع كتابا في مغازي النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكان واسع الإطلاع والمعرفة بالسيرة والمغازي، حتى إعتبروا أن كل من سيكتب عن السيرة النبوية والمغازي بعد إبن اسحق سيكونون عيالا عليه، فهو الرائد والعمدة في هذا العلم. وإبن إسحق هذا حينما تحدث عن غزوة الأحزاب وعملية حفر الخندق التي وقعت في في سنة (5هـ) لم يشر الى أن سلمان الفارسي هو من أشار على النبي بحفر الخندق، وإنما قال: “فلما سمع بهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، (أي بالأحزاب) وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ترغيباً للمسلمين في الأجر…”

إن كان إبن اسحق المعلم ألأول في تدوين السيرة، لم يشر الى مشورة سلمان في حفر الخندق، فمن أين جاءت هذه الرواية اذًا؟!.

الواقدي، محمد بن عمر بن واقد الأسلمي (130هـ – 207هـ ) هو من نُقلت عنه هذه الرواية ، كما نُقلت كذلك عن أبي معشر السندي (95هـ -171هـ) وهو أحد أهم شيوخ الواقدي ومعاصريه، ولا يستبعد ان يكون الواقدي قد نقل هذه ألرواية عن شيخه (أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندى).
فالواقدي يقول : وشاور رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اصحابه وكان يكثر مشاورتهم في الحرب فقال: أنبرز لهم من المدينة، أم نكون فيها ونخندقها، ام نكون قريبا ونجعل ظهورنا الى هذا الجبل ؟- يقصد جبل سلع- فاختلفوا فقال سلمان يارسول الله انا اذا كنا بارض فارس وتخوفنا الخيل ، خندقنا علينا ، فهل لك يارسول الله ان تخندق؟ فأعجب رأي سلمان المسلمين، وذكروا حين دعاهم النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم احد ان يقيموا ولا يخرجوا ، فكره المسلمين الخروج واحبوا الثبات في المدينة. (مغازي الواقدي 2/445).

تَتابع بعد ذلك كتاب التاريخ والسير في نقل ماقاله الواقدي و أبو معشر من أن سلمان هو من أشارعلى النبي (صلى الله عليه وسلم) بحفر الخندق. ونأتي ألآن إلى فحص هذه الرواية و نقدها:
أولا- لا سند صحيح لهذه ألرواية عن الواقدي أو عن أبي معشر السندي، فالواقدي نفسه تحدث علماء الحديث فيه واتهموه بالكذب وأنه متروك الحديث، وأبي معشر كذلك منكر الحديث ومتروك. ثم إن كل من جاء بعد ذلك، ونقلوا عنهما، كإبن هشام، والحافظ إبن حجر، والطبري، وأبن كثير، وإبن ألأثير وغيرهم، لم يسق أحد منهم سندًا للرواية. فكيف يمكن ألجزم بصحتها وقبولها؟، لذا فهي على هذا ألأساس ساقطة لا أصل لها؟.

ثانيًا- إبن هشام صاحب الكتاب ألأشهر والأوسع انتشارأ والمعروف بسيرة إبن هشام والذي هو تنقيح وتهذيب لسيرة إبن اسحق (المفقودة) حينما تحدث عن حفر الخندق قال: “يقال إنّ سلمان الفارسي أشار به على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)”. الروض الأنف (6/ 272). فبالإضافة إلى إن إبن هشام لم يسق سندًا، فقد إبتدأ عبارته بقوله (يقال إنّ سلمان الفارسي) ، وهذا يعني انه هو نفسه غير متأكد من هذه المعلومة، فتخصيصه هنا لإسم مُعيّن قول ضعيف، وعبارته هنا عن سلمان لا يعتد بها.

ثالثا- لو كان سلمان صاحب الفكرة لنقلها الصحابة لأهمية الفكرة ونجاعتها، وما أدته من دور في حماية المدينة، وان لا يقتصر النقل على الواقدي وشيخه أبو معشر بعد ربما أكثر من (150عامًا) على الموقعة (غزوة ألأحزاب)، إذ لا يعرف ان هنالك من حدّث بهذه الفكرة من اهل المغازي ورواة الحديث المعروفون بالتثبت من أمثال موسى بن عقبة (68 هـ -141هـ) وابن اسحق (85 هـ – 151هـ) وغيرهم، عن أحد من الصحابة.

رابعًا- رواية الواقدي والتي تكاد تكون هي ألأساس في انتشار هذه الفكرة، هي نفسها يستشف منها ما ينفي ان يكون سلمان (رضي الله عنه) هو صاحب الفكرة، وإليك التفصيل:
الواقدي يقول : وشاور رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اصحابه وكان يكثير مشاورتهم في الحرب فقال أنبرز لهم من المدينة أم نكون فيها ونخندقها أم نكون قريبا ونجعل ظهورنا الى هذا الجبل ؟-يقصد جبل سلع- فاختلفوا فقال سلمان يارسول الله انا اذا كنا بارض فارس وتخوفنا الخيل ، خندقنا علينا..(الواقدي 2/445). فالرسول هنا يطرح خيارات المواجهة المقبلة. فإذا اضفنا الى عبارة الواقدي، عبارة المقريزي والذي مهد بعبارة الواقدي وأضاف: (وكان سلمان يرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يهم بالمقام بالمدينة – ويريد ان يتركهم حتى يردوا ، ثم يحاربهم على المدينة وطرقها، فاشار بالخندق فأعجبهم ذلك). ( المقريزي 1/220) بهاتين الروايتين تتضح لنا الصورة التي كانت في لقاء النبي التشاوري مع اصحابة .
فرواية الواقدي وتكملتها عند ألمقريزي تشير إالى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان قد وضع امام اصحابه عدة خيارات أو طروحات في كيفية الدفاع عن المدينة:
أ- هل يخرجون للقتال خارج المدينة؟ (كما فعلوا يوم أحد)،
ب- هل يبقون داخله المدينة –على حدودها – ويتموضعوا بخندق يعيق تقدم العدو؟،
ج- أم يتمترسوا في سفح (جبل سلع) لحماية ظهورهم ويواجهوا عدوهم من خلال جهة واحدة محددة (أي المنطقة الوحيدة ألمكشوفة أمام ألأعداء وهي تمتد لبضعة كيلومترات)؟.

ولا بد لمن يطرح الخيارات ان يعزز تلك الخيارات بالتفاصيل وبالسلبيات والإبجابيات. ففكرة الخندق إذًا كانت واضحة في ذهن النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو من بادر بطرحها للمناقشة مع أصحابه، وهكذا إنشغل ألأصحاب بالمناقشة، ثم اختلفوا في أي الخيارات افضل، ويبدوا أن سلمان وربما غيره كذلك التقطوا ما يمكن ان يميل اليه الرسول القائد (صلى الله عليه وسلم) من الخيارات، وأحسوا ان خيار اتخاذ الخندق هو الرأي الذي يرجحه (صلى الله عليه وسلم) ، فبادر سلمان بعرض (فكرة التخندق في فارس) تأييدا لرأي الرسول ودعما لخياره. فالرسول (صلى الله عليه وسلم) هو صاحب الفكرة وانما جاءت مقولة سلمان عن تخندق اهل فارس في وقتها المناسب كتوضيح وتأكيد لرأي يطرحه الرسول للمناقشة. وقطعا في تلك اللحظة وقد استجمع ألصحابة خيوط الموقف كان لا بد لهم من ان يستحسنوا الفكرة، لجملة أسباب:

1- انهم بحاجة الى تدبير عسكري وخطة دفاعية تمكنهم من حماية المدينة، وكون هذا التدبير سبق وخضع للتجربة عند ألاقوام ألأخرى، فهذا يعني انه أحرى بالقبول في تلك اللحظة.

2 – فهي فكرة نبوية بإمتياز وقد تكون الهاما من الله عز وجل، أو ربما يكونوا غالبهم أو جميعهم قد احسوا بما أحس به سلمان الفارسي (رضي الله عنه) من أن ألرأي النبوي يميل لها كوسيلة دفاعية. فإقتنعوا انها هي ألأجدى وألأنسب.

3 – لا بد انهم وهم يستعرضون خيار الخروج خارج المدينة، وحسهم المرهف في استشفاف مايميل اليه النبي قد تذكروا مخالفتهم للنبي (صلى الله عليه وسلم) يوم أحد واختيارهم الخاطئ بالخروج خارج المدينة، والذي كان درسًا قاسيًا لهم بعدم مخالفة الرسول مجددًا، فكرهوا فكرة الخروج هذه المرّة.

4 – التمترس بجبل سلع لا يجعلهم قادرين على توفير قوات دفاعية كافية لحماية خط ألجبهة في الشريط الحدودي للمدينة بالكامل والذي يمتد لعدة كيلومترات، فعدد المقاتلين غير كافٍ، والتمترس بالجبل سيوفر حماية للمقاتلين، ولكن قطعًا ستوجد ثغرات قد يخترقها أو يتسلل منها العدو للمدينة، وفيها النساء والأطفال والعجزة.

خامسًا- هنالك إشارات ودلائل أخرى في مغازي الواقدي نفسها تؤكد ان رسول الله هو صاحب الفكرة، فلماذا يتم فقط تناقل واشهار جزئية (غير دقيقة) من ان سلمان هو صاحب الفكرة!!. الواقدي ذكر ان هنالك رسالة موجهة من ابي سفيان إلى النبي بعد معركة ألأحزاب، وأن ألنبي(صلى الله عليه وسلم) رد عليها ( ولسنا في معرض البحث عن صحة هذه الرسائل ولكن مناقشة ماجاء في الواقدي حول الواقعة بإعتبار أن المؤرخين وكتاب المغازي والسير قد اعتمدوا غالبا على رواية الواقدي في أنها فكرة سلمان الفارسي). يقول الواقدي أن ابي سفيان بعث برسالة تهديد للنبي جاء فيها: (لقد سرت إليك في جمعنا، وإنا نريد ألا نعود أبدًا حتى نستأصلكم، فرأيتك قد كرهت لقاءنا، وجعلت مضايق وخنادق، فليت شعري من علمك هذا؟)، فرد عليه-النبي- برسالة جاء فيها:( وأما قولك: من علمك الذي صنعنا من الخندق؟ فإن الله ألهمني ذلك لما أراد من غيظك وغيظ أصحابك ) مغازي ألواقدي (2/492). فالخندق من الهام الله لنبيه، وليست فكرة أحد من الناس، وما أدلى به سلمان من مشورة كان قد وافق ودعّمَ هذا ألإلهام والهدي النبوي الشريف.

سادسًا- لو كان سلمان (رضي الله عنه) هو صاحب الفكرة، لكان من الطبيعي ان يوكل النبي الى سلمان مهمة تنفيذ هذه الفكرة، بإعتباره الخبير بها. لكن الواقع يشهد ان النبي عمل بنفسه في تنفيذ هذا المشروع الدفاعي، فقام باستطلاع الخط الحدودي وتحديد مواضع وممرات الخندق وقسم الواجبات بين المهاجرين والأنصار لكل عشرة اشخاص حفر 40 ذراع (مايعادل اثنان ونصف متر للشخص الواحد) ، وأن قاطني المناطق التي سيمر بها الخندق عليهم ذات الواجب، وقام بالاشراف وألمشاركة في الحفر بنفسة، وتفتيت الصخور الضخمة التي كانت تعترض مجرى الخندق، وظل مرابطا حتى انجاز المهمة… فتولى العبئ ألأكبر بكل بجهد لتحقيق فكرته واستثمارها في رد عدوان المعتدين.

سابعًا- مانقل عن أبي سفيان حين تفاجأ بوجود ألخندق قوله: هذه مكيدة لا تعرفها ألعرب!. قد تكون مدسوسة في سياق الحدث، وكأن من صاغها يريد بها أن ينتقص ألعرب على لسان اكبر سيد من سادات قريش والجزيرة في زمانه، بأن العرب لا شأن لهم بالتخطيط العسكري ولا يعرفون مكائد الحرب!، وعلى إفتراض صحة هذه المقولة جدلا، كيف يمكن أن تصدرعن أبي سفيان أو غيره الذين كانوا يجوبون آفاق الجزيرة والشام والعراق واليمن في تجارتهم صيفًا وشتاءً؟، ألم يشاهدوا الخنادق والتحصينات حول المدن والحصون والقلاع في المناطق التي يمرون عليها ، والتي كان يحتلها الرومان والفرس؟، فيتعلمون منها فن التعبئة والدفاع في الحرب.
ثم دعك من المدن خارج الجزيرة ودعنا نتسائل عن اقرب منطقة لمكة، أليست ألطائف هي أقرب مدينة الى مكة وصلات اهل مكة والطائف بينهما وثيقة، ألم يكن لأهل الطائف خندقا حول حصون مدينتهم واجهه المسلمون عندما حاصر النبي مدينة الطائف، الا يعلم ابا سفيان وكل أهل مكة بهذا الخندق! ألم يفكروا بالغرض الذي من أجله اتخذه أهل الطائف. انها مكيدة عرفها العرب قطعًا، وبالتالي يكون أهل مكة جوار أهل ألطائف قد عرفوا أهمية اتخاذ الخندق وألغرض منه. وقد ذكر الشاعر بجير بن زهير بن أبي سلمى ،وجود هذا الخندق في شعر له في يوم حصار الطائف فقال:
لم يمنعوا منا مقاما واحدا … الا جدارهم وبطن الخندق

وعلى هذا ألأساس فالقول إنها مكيدة لا تعرفها ألعرب!؟، مقولة فيها نظر. وعلى أي حال، فإن قيل انها فكرة في الغالب مقتبسة من الفرس أو الروم، فهذا لا يعيب العرب ولا يعيب الرسول في ألإقتباس من ألآخرين، فقد اقتبس الرسول واستعمل ادوات واسلحة من الأمم الأخرى مثل: نصب المنجنيق لهدم ألأسوار، وحفر الخنادق لاغراض دفاعية، والاحتماء بالدبابة الخشبية لاحداث نقب في جدران الحصون، والحسك الذي يعيق تقدم الخيل وهو اشبه بعمل الالغام في الوقت الحاضر، والسيوف الهندية … نعم، قد لا يكون عرب الحجاز على معرفة ببعض هذه الأسلحة الآ بعد استعمال الرسول لها في غزواته، لكنها من جانب آخر كانت معروفة للعرب في الشام مثلا، فلماذا التعميم بأنها مكيدة لا تعرفها ألعرب!!.

ثامنا- هذه السياقات والعبارات التي أوردها ألواقدي مثل: {مكيدة لا تعرفعها العرب/ المكيدة فارسية/ ألعِلم في فارس/ سلمان الفارسي أشار بفكرة الخندق/ سلمان الفارسي من أهل ألبيت (ناقشنا هذه المقولة في مقال سابق بعنوان:باطل مشتهر: لماذا سلمان من آل البيت)/…إلخ، وغير هذه العبارات كثير } كلها تصب في سياق مدح وتمجيد الشخصية الفارسية!، وعلى حساب تهوين الشخصية العربية، وسلب لإستحقاقاتها. وكل ذلك يثير الريبة في من سرب مثل هذه المقولات الى التاريخ والسيرة، ويشي بالشك في صحةهذه الروايات والغرض منها.

أحدث المقالات

أحدث المقالات