قالوا: ﺇن الكثيرين ممن كانوا حوله، لم يكونوا خالصي الولاء له، بل غالبا كانوا عبئا عليه بدل أن يكونوا مؤيدين وناصرين، جلّهم أهل باطل من النفعيين مذبذبي المواقف، لا يعتمد عليهم في قليل ولا كثير، كثيري الاعتراض عليه كما كانوا كثيري الاعتراض على أبيه من قبل. فهل يرتجى من مثل هؤلاء عزيمة ثابتة ونصرة صادقة للدين وللقيادة الرشيدة . فقد روى المؤرخ الطبري عن الزهري أنه قال: لما بايع أهل العراق الحسن بن علي طفق يشترط عليهم أنهم سامعون مطيعون مسالمون من سالمت، محاربون من حاربت فارتاب به أهل العراق وقالوا: ما هذا لكم بصاحب؟. إذاﹰ منذ البداية تتضح معالم التمرد في نفسية القوم الذين يخاطبهم.
كان هذا هو حال القائد الهمام أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه وأرضاه)، مع قومه الذين بايعوه بيعة لا ﺇخلاص فيها، وﺇذا كان هؤلاء بمثل هذه النفسية المتمردة، فأنى له أن يقاتل بهم خصومه واعداءه فهم أبداﹰ ليسوا موضع ثقه، ولا يمكن الاعتماد عليهم في الحروب. وقد آل الأمر بعد فترة قصيرة الى محاولة اغتياله، واتهموه بالضعف والخور، وجردوا خيمته من كل محتوياتها، وأصابوه في فخذه بآلة حادة ولكن الله تعالى نجاه من الموت، فازدادت قناعته بعدم المضي معهم.
من قال بمثل هذه المقدمة، وهي مقدمة تنطوي على كثير من المصداقية، رتبوا عليها ان هذه الأحوال كانت مدعاة لأن يتخذ الحسن قراره التاريخي ويتنازل عن الخلافة لمعاوية بن ابي سفيان (رضي الله عنه)، فهو مجبر ومكره ولا يستطيع مواجهة معاوية بعسكر ضعيف متمرد صعب الانقياد.
هل كان جيشه ضعيفا؟:
اقول: ما ورد اعلاه صحيح ومقبول ولكن هذا ليس كل الحقيقة، وهو ليس السبب ألاساسي ألذي من اجله ترك الحسن المواجهة، صحيح انه كره جنده ومقتهم ورغب في الخلاص منهم، وهوالنابه الذي لم ينس رأي أبيه فيهم، وما لقيه من عنت معهم ، ولكنه ألآن هوالخليفة المسؤول عن ﺇصلاح ألأوضاع، فان كان هنالك خلل في جيشه أو في حاشيته فعليه تلافي ذلك والعمل على تنقية جيشه وحاشيته ممن ليسوا أهلاﹰ للثقة، وانما هذه المعطيات (ألمقدمة أعلاه) أكدت له صحة توجهه نحو الصلح، ولم تكن السبب المباشر الذي من أجله مال الى الصلح. لأننا يجب ان لا ننسى هنا أمران أساسيان:
الأول: أن هنالك العديد من القطعات الكبيرة في جيشه كانت مخلصة له وتأتمر بأمره ومستعدة لتنفيذ ما يأمر الى أبعد مدى، وهي تطالبه وتحثه باستمرار على مواجهة الشام. فهو قائد لجيش قوامه أربعين الف، وفي بعض الروايات خمسين الف مقاتل أو أكثر ، حتى قال عن قواته (كانت جماجم العرب بيدي تحارب من حاربت وتسالم من سالمت).فهو غير هياب ولا متردد ولا قليل عدد.
الثاني: انطلاقه بجيشه وكتائبه فعليا باتجاه الشام فقد كان عازما على اخضاع الشام لسلطته، واكمال مسيرة أبيه الشهيد (رضي الله عنه وارضاه)، فلو كان ضعيفا وجيشه مهزوز لما فعل، وقد كان الحسن البصري عارفا بقوة جيش الحسن (رضي الله عنه) فيما نقله عنه البخاري في صحيحه في وصفه جيش الحسن فقال: (استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال). كما ورد عن معاوية وعمرو بن العاص انبهارهم بحجم وقوة الكتائب التي قدم بها الحسن (رضي الله عنه). حتى قال عمرو:”إني أرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها”.وقال ابن تيمية ( رحمه الله): (كان بمقدور الحسن رضي الله عنه أن يقاتل معاوية رضي الله عنه بمن كان معه ….. ولكن الحسن رضي الله عنه كان ذا خلق يجنح إلى السلم). فقد كانت جبهته قوية وهذا يدحض مزاعم الذين قالوا أن الحسن كان ضعيفاً ومكرهاً على الصلح. فليس هنالك شيء يجبره على الصلح والتنازل، فهو الخليفة الشرعي الشجاع ومعه قوة عسكرية لا يستهان بها.
ايثار ماعند الله على مغانم الدنيا:
كان الحسن في نشأته منذ البداية محبا للسلم ميالا ﺇليه، ولهذا نجده كان يخاطب أباه علياً (رضي الله عنه): ويقول له (يا أبت، دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين ووقوع الاختلاف بينهم) ولطالما شعرالحسن بالأسى لِما حلّ بالمسلمين من خلاف وانقسام، وما دار بينهم من قتال منذ خمس سنين، وهو يتذكر وعد جده له بانهاء الخصومة، ويأمل توحيد كلمة المسلمين ورصّ صفوفهم، وإن تطلب الأمر تقديم تضحية جسيمة كالتنازل عن الخلافة. انه مستعد للتضحية بمنصبه في الخلافة من أجل مصلحة الأمة ووحدة الصف، انه قدوة المسلمين في ترك الصراع على السلطة في الدنيا، و طلب ما عند الله واحتساب الاجر والمثوبة في الآخرة، فالكرسي والجاه والسلطة لن تخدع الحسن، فهو أرفع من ذلك وأعلى، انه خير مثال يضرب لمن يتولون المناصب من بعده والى يومنا الحاضر، خير معلم للأجيال في الزهد في الجاه والسلطان والملك ان كان هذا الزهد يحقق صلاح الأمة ويصون وحدتها ويحفظ كرامتها ودمائها.
سار معاوية بعساكره وكانوا اقل من جيش الحسن بكثير، حتى التقيا غرب الكوفة، فنظر الحسن إلى كثرة ما معه من الجند وهم في دروعهم يستعدون لضرب أقرانهم من أهل الشام، وما سيترتب على ذلك من دماء غزيرة ستهدر، وكيف يطاوعه ﺇيمانه والفريقان مسلمان، فخشي رضي الله عنه أن يأتي القتلى (من أي طرف كان) يوم القيامة تشخب أوداجهم، كلهم يستعدي اللّه، فيم هريق دمه؟؟، ومثل هذا الموقف قطعا يرعب التقي الصالح، ليس لذاته فقط وانما لما سيحل بالأمة من هدر لدماء عزيزة، وهو قادر على ان يحول دون وقوع ذلك، فرغب يقيناﹰ من كل قلبه في حقن الدماء، وايثار الآخرة على الدنيا، حتى ولو على حساب حقه الذاتي، وآثر أن لا يقدم على الله تعالى وبرقبته دم لمسلم، فقد تعلم من رسول الله ان حرمة دم المسلم اشد من حرمة هدم الكعبة، فلم لا يبادر إلى طلب الصلح، ان كان ذلك سيصلح الأمة.
وقد جاء في البخاري أيضاً أن معاوية (والي الشام آنذاك) هو الذي بدأ بطلب الصلح عندما رأى كتائب الحسن، وقال: (إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم)، وبعث إلى الحسن رجلين من قريش هما عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز يفاوضانه على الصلح. وسواء أكان الحسن من عرض الصلح اولاﹰ أو معاوية، فان هذا يؤكد أن الطرفين كانا غير راغبين في سفك الدماء، وعلى اي حال فكلاهما مجتهد يطلب الحق.
هل كان مكرها ؟.
نجحت المفاوضات وتنازل الحسن عن طيب خاطر عن أعلى منصب في الأمة وترك الخلافة لمعاوية فكان بحق سيداﹰ كما وصفه رسول الله، فبعمله هذا وحّد صفّ الأمة وحقق نبوءة النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) التي اعلن عنها يوما حين كان الحسن صغيرا وأخذه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى المسجد فصعد به المنبر وأجلسه إلى جواره، وقال لأصحابه مادحا ومستبشرا به:( إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ ) فما قام به الحسن يرضي الله ورسوله.
ألارادة الربانية:
وجاء بعد ذلك من يقول: ان الحسن كان مكرها وأبدوا انزعاجهم من فعل الحسن في قبول الصلح والتنازل عن الخلافة !!. واقول: ياللعجب كيف تعترضوا وتنزعجوا وصاحب الشأن لم يعرف عنه أنه صرح بشيء من ذلك ولو تلميحا. ثم اليس اعتراضكم هذا اعتراض على ارادة الله وقضاءه؟.وتكذيب لخبر النبي بنبوأته (صلى الله عليه وسلم)،في سيادة الحسن، لقد حقق الحسن بالصلح قضاء الله وارادته التي اخبر بها المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، الم يقل النبي الموحى اليه من الله على سبيل الفرح وألاستبشار بحفيده: ( إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ ) فما ادراه (صلى الله عليه وسلم) لو لم يكن هذا وحيا .لقد كان الحسن قريبا من النبي الى ان بلغ سن الثامنة، وكلمات المصطفى ترن في أذنيه، والنبي يربيه على يديه ويوجهه ويتوسم فيه الخير ويعده ليصل الى هذه المرحلة التي يستطيع فيها ان يجمع الأمة. فداك ابي وأمي يارسول الله كم أنت حريص على اجتماع الأمة ووحدتها.
وهنا يبرز سؤال: هل كان هنالك من سبيل أمام الحسن أفضل وأشرف وأكرم وانجح وأكثر ﺇيثارا من ألاختيار الذي اختاره طوعا بلا ﺇجبار من أحد؟، فالسبيل الذي سلكه، سبيل لم يكن فيه ذلة او مهانة بل رفعة وكرامة، وتبييض لوجوه المؤمنين وحقن لدمائهم، وصون للأمة، وبقي قراره وسيبقى والى قيام الساعة، شاهدا على روعة وكرم وخلق ونبل وفروسية وزهد وﺇيمان هذا الخليفة العظيم . فلماذا هذا اللوم الطائش وألانزعاج من فعله وتضحيته بالمنصب. فموقفه أعلى وأجل من المنصب، رجل استعلى على المناصب، والرجال مواقف، ولعل من يلومه انما يفعل كؤلئك الذين يلومون آدم عليه السلام ويحملوه المسؤولية عن ﺇخراج البشر من الجنة، والواقع يقول ان لومهم لآدم خطأ فادح، فهو لم يخرج البشرية من الجنة لأنه خلق للأرض، كتب الله ذلك وأخبر الملائكة بذلك قبل أن يخلقه، ولم يخلق ليوضع ﺇبتداء بجنة الفردوس، والجنة التي نزل فيها بعد خلقه ﺇنما كانت جنة مرحلية يتدرب فيها آدم على التعايش مع زوجه والتعرف على النعم المادية ونعمة الطاعة، وسوء المعصية، والتعرف على العدو الأزلي ومكائده كي يحذر من وساوسه وألاعيبه حينما تجمعهم الأرض. فلا بأس على آدم ، وكذا لا بأس على الحسن(رضي الله عنه وأرضاه).
لنفترض جدلا ان الحسن انشغل بالحرب مع أهل الشام، ما الذي كان يمكن أن يحصل في العراق بغيابه؟. ألا يستغل الخوارج الذين أنهكوا الدولة على زمن أبيه، وشغلوها وأرهقوا المواطن وأرعبوه، فما زال خطرهم جاثما خلف خطوطه العسكرية، الا يستغل هؤلاء الفرصة ويستولوا على البلاد؟ . ان الحسن وهو الشخصية الشجاعة بقدراته القيادية العسكرية، وحنكته السياسية والأخلاقية، بالتأكيد قد تنبه لخطورتهم ولم يسقطهم من حساباته، وآثر الصلح بعد ان وازن ألأمور واختار ان لا يترك الفرصة للخوارج وللمتربصين بالأمة. وليكون جيش ألأمة واحدا لمواجهة النوائب.
دخل معاوية الكوفة بعد اتمام الصلح وخطب بها، فبايعه الجميع، وسمي ذلك العام سنة 40هـ عام الجماعة, فقد اجتمعت الكلمة في سائر الأقاليم والأمصار على خليفة واحد وتمت البيعة له واستبشر المسلمون بهذا الصلح الذي وضع حدا لسفك الدماء ولتتوحد من جديد راية المسلمين بعد طول قتال وخلاف.
ترك الحسن الكوفة بعد تنازله وبيعته لمعاوية، ورجع بمن معه من أصحابه وبني هاشم إلى المدينة المنورة، وترك السياسة ولم تكن له أي رغبة في تولي أي منصب سياسي، واستقر بالمدينة، وكان جميع أهل البيت وعميدهم الحسن محل الإجلال والتكريم من معاوية، وعاش الحسن بعد الصلح عشر سنوات، ولم ينقل عنه أي شيء يشير الى ندمه أو ﺇعتراضه او طعنه بالصلح. ولم ينكث العهد والاتفاق واستمرت العلاقة بينهما حسنة وايجابية على أحسن مايرام، وكان مستبشرا ومرتاحا بما حصل. وكان الحسن يزور معاوية، وكان معاوية يعرف للحسن قدره في كونه سيدا كما سماه رسول الله، ولذا كان يغدق العطاء للحسن. وكان الحسن يقبل عطاياه، وهكذا فصفاء الود بينهما في هذه السنوات العشر من شأنها أن تدحض المزاعم التي تقول بأن الإمام الحسن كان مكرهاً على الصلح، وأن جيشه كان ضعيفاً مقارنة بجيش معاوية أو ان هنالك بغض وعداء بين الطرفين.
لقد كان هذا الصلح خطوة اساسية للاستقرار ولعودة الفتوحات الى مجراها السابق، بعد ان توقفت بعد استشهاد عثمان (رضي الله عنه) ووقوع الفتنة وانقسام الأمة. وآن ألأوان لتتفرّغ الدولة للقضاء على فتنة الخوارج الذين كانوا بلاءﹰ داخلياً قد يعصف بجسد الأمة ﺇن لم يوضع له حد. وليمضي معاوية عشرين سنة اخرى في الحكم دون ان يعكر صفو الاستقرار الداخلي معكّر.