22 نوفمبر، 2024 2:23 م
Search
Close this search box.

مرافئُ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي

مرافئُ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي

( الحلقة الرابعة والعشرون )
السَماويُّ يحيى شاعرٌ لامعٌ، أطرب محافل الثَّقَافَة وَفضاءات الأدب بإبداعِه المائز، وَعذوبة قريضه المستمد مِنْ افتتانه بالجمال، وَتشبثه بالحياة، وَتمسكه بالأمل وَالتفاؤل، وَاحترامه الإنْسَان وَحرصه عَلَى الدفاعِ عَنْ قضاياه وَالتعبير عَنْ همومِه، وَهو أيضاً عاشق لعملِه فِي التدريس، فضلاً عَنْ افتتانِه بسبرِ أغوار الحياة بمتعةٍ وشغف منذ نعومة أظفاره، الأمر الَّذِي جعل المطالعة هوايته المألوفة، فكان الكتاب – وَمَا يَزال – ملهمه الأول، يتألق دوماً مَا بَيْنَ يديه وَهو يحمله مَعَه أينما توجه فِي حلِه وَترحاله. وَليس خافياً أنَّ القراءةَ المستدامة تفضي إلى توسيعِ مدارك الإنْسَان وتجعله فِي إطلاعٍ دائم عَلَى مختلفِ التجارب، ولنا أنْ نتصورَ مدى حاجة مَنْ يمتهن الأدب وَنظم الشِعر إلى المطالعةِ الدائمة؛ لأجلِ تنمية الإبداع فِي تركيبِ الصورة الشِعرية وإثراء القصيدة بالجميلِ مِن المفرداتِ وَأكثرها عذوبة. وَتدعيماً لِمَا ذكر آنفاً، فإنَّ الأديبَ المصري عباس محمود العقاد ( 1889 – 1964 ) الَّذِي يُعَدُّ واحداً مَنْ أهمِ الأدباء الَّذين لمعت أسماؤهم فِي القرنِ العشرين، يشير إلى القراءةِ بالقول ” لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمراً فِي تقدير الحساب .. وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة، والقراءة – دون غيرها – هي التي تعطيني أكثر من حياة “. وإسرافاً فِي حبِه للقراءةِ وَشغفه بِمَا يكتنزه الكتاب مِنْ مضامين يضيف العقاد قائلاً ” ليس هناك كتاب أقرأه ولا أستفيد منه شيئا جديدا، فحتى الكتاب التافه أستفيد من قراءته، أني تعلمت شيئا جديدا هو ما هي التفاهة ؟ وكيف يكتب الكتاب التافهون؟ وفيم يفكرون؟ ”.
لـلـطـبـيـعـةِ كِـتـابُـهـا :
الأشـجـارُ حـروف ..
الأنـهـارُ مِـداد ..
والأرضُ الـورقـة ..
لا أحـدَ يُـجـيـدُ قـراءتـهُ
كـالـطـيـورِ
والأطـفـالِ
والـعـشـاق !
*
حَـطـبُـكِ أنـتِ ولـيـس تـنّـوري :
أنـضَـجَ رغـيـفَ قـصـيـدتـي ..
دُخـانُ ظـنـونِـكِ
ولـيـس بـخـورُ احـتِـراقـي :
أسـالَ دمـوعَ حـروفـي ..
ريـحُـكِ ولـيـس شِـراعـي :
أوصَـل سـفـيـنـتـي
إلى الـضّـفـةِ الأخـرى
مـن نـهـر الـقـلـق !

لا رَيْبَ أَنَّ ميلَ السَماوي يحيى إلى المطالعةِ منذ أنْ بدأ خطواته الأولى فِي مرحلةِ الدراسة الابتدائية بتشجيعٍ مِنْ عائلته الَّتِي كانت عَلَى شيء مِن الثقافة وَالكثير مِن الإيمان، قاده إلى سعيٍ دائم لتطويرِ مهاراته فِي فضاءاتِ الأدب وَغيرها مِنْ قنواتِ الثَّقَافَة وَالمَعْرِفة بعد أنْ ترسخت لَديه تلك الهواية فِي مرحلةِ الدرَاسة المتوسطة، حيث أصبح قارئاً نهماً مدمناً عَلَى القراءة، محباً لها، وَشغوفاً بِه نهم. وَليس بالأمرِ المفاجئ القول إنَّ حاجَةَ السَماوي إلى غذاءِ الروح مِنْ أجلِ زيادة آفاق معرفته، وَالارتقاء بفكرِه وَسلوكه، عززت لَديه متعة القراءة وَساهمت فِي تذوقِه للمميزِ مِنْ مواردِ الثَّقَافَة وَالفُنون وَالعُلُوم الإنسانيَّة، فالثَّقَافَة الَّتِي تزين الإنْسَان كما الريش يزين الطاووس بحسبِ مثل روسي، أقرَ بأهميتِها العلماء وَالباحثون وَالمُتَخَصِّصون وَأهل الخبرة، بوصفِها ثمرة المعايشة الحية لأمورِ الحياة وَالتفاعل مَعَ تجاربِها، وَمَا تباين مِنْ خبراتِها؛ لأَنَّها تعبيرٌ عَنْ الواقع، وَأداة للتغييرِ وَالتطوير وَتحرير المُجْتَمَعات البَشَريَّة مِنْ عواملِ الاِسْتِغلال وَالتخلف، حيث يشير مؤلف كتاب الإسلام بَيْنَ الشرق وَالغرب وَأول رئيس لجمهوريةِ البوسنة وَالهرسك بعد انتهاء الحرب فِي بلادِه الفيلسوف الإسلامي علي عزت بيجوفيتش ( 1925 – 2003 ) إلى الثَّقَافَةِ بوصفِها ” الخلق المستمر للذات “، فضلاً عَن قولِه أيضاً فِي مناسبةٍ أخرى مَا نصه ” الحضارة تُعلِّم أما الثقافة فتُنور. تحتاج الأولى إلى تعلم أما الثانية فتحتاج إلى تأمل “، فِيما يرى جواهر لال نهرو ( 1889 – 1964 ) أول رئيس وزراء للهند بعد استقلالها وَخلاصها مِنْ نيرِ استعباد التاج البريطاني أَنَّ الثَّقَافَةَ تُعَدُّ بوصفِها ” اتحاد العقل مع الروح “. وَفِي السياقِ ذاته، يشير الروائي وَالكاتب وَالمترجم ألبرتو مانغويل إلى القراءةِ فِي كتابِه ” تاريخ القراءة “، بوصفِها ضرورة للحياةِ كالتنفس ، فضلاً عَنْ تثبيتِه فِي بدايةِ كتابه آنفاً عبارة ” إقرأ كي تحيا “، ولعلَّ الأمر المحير هُنَا مَا تضمنه هذا الكتاب مِنْ إشارةٍ صادمة – ربما لشعورِ المتلقي – هو أَنَّ المؤلفَ صاغ عبارته بتشكيلٍ سرديّ أميل للمبالغةِ مِنه إلى التصحرِ الثقافي فِي عالمِ اليوم، حيث يذكر مانغويل الارجنتيني المولد وَالكندي الجنسية أَنَّه كلما التقى شخصاً أو رأى مشهداً، شعر أَنَّه قد مر عليه مِنْ قبل؛ نتيجة غزارة قراءاته.
*
لـقـلـبـي حُـجـرتـان ..
فـلـمـاذا لا يـتـسِـعُ
إلآ
لـحـبـيـبـةٍ واحـدة ؟
أنـتِ أيـضـا :
لا شــريـكَ لـك !
*
أعـرفُ تـمـامـاً أيـن يـرقـدُ ” نـيـوتِـن” ..
وأيـن كـان الـحـقـلُ ..
لـكـنْ :
فـي أيِّ تـنّـورٍ انـتـهـتِ الـشـجـرة ؟
وفـي أيّـةِ مـعـدةٍ
اسْــتـقـرّتِ الـتـفـاحـة ؟

أعـرف أن الـعـبـيـدَ
هـم الـذيـن شــيّـدوا :
الأهـرامَ ..
سـورَ الـصِّـيـن ..
وجـنـائـن بـابـل ..
لـكـنْ :
أيـن ذهَـبَ عَـرَقُ جـبـاهِـهِـم ؟
وصُـراخُـهـم تـحـت لـسْـعِ الـسّـيـاطِ
أيـن اسـتـقـر ؟

بخلافِ اعتقاد البعض مِنْ أَنَّ السَماويَ ” ولد وِفِي فَمِه ملعقة مِنْ فضة “، فإنَّ الواقعَ الفعلي، وَمَا أفضى إليه بحثي المعمق فِي هَذَا المنحى يؤكدان أَنَّه ابن بِيئَة فقيرة وُقد ولد مِنْ رَحمِ المعاناة، فَلَمْ يجد نفسه فِي بحبوحةٍ مِن العيش، وَلَمْ تكن أسرته في فيضٍ وَوفرة منذ ولادته، حيث وصل تنقّل عائلته ” أربع عشرة ” مرة فِي فضاءاتِ مدينة السَماوة؛ لغرض السكن بمنازلٍ مؤجرة تتناسب مَعَ دخلِ والده ” رحمه الله “، وَلَمْ يَسْتَقِرْ لَهَا حال إلا فِي سبعينياتِ القرن الماضي حين ترك والده مهنة البقالة وَافتتح مكتباً لبيعِ الحصى وَالرمل، وَعملَ مقاولاً ثانوياً مَعَ الشركةِ الروسية الَّتِي قامت بتحديثِ معمل سمنت السماوة، حيث تولّى تجهيزها بهاتين المادّتين. ومِنْ المعلومِ أنَّ السَماوةَ تُعدّ منجماً لإِنْتَاج الإسمنت؛ بالنظرِ لتوفرِ المواد الأولية الداخلة فِي هَذِه الصِناعة وَالمتمثلة بحجرِ الكلس وَالتراب العادي واطئ الكبريتات فِي صحراءِ السَماوة، وَوجود الجبس عَلَى ضفافِ بحيرة ساوة، الأمر الَّذِي يلزم الحُكُومة المَحَلِّيَّة المثابرة وَالجهد سعياً فِي الوصولِ إلى جعلِ محافظة المثنى عاصِمة العراق فِي إِنْتَاجِ الإسمنت. ولعلَّ مِنْ بَيْنَ الأدلة الَّتِي تثبت مَا أشرنا إليه بخصوصِ نشأة السَماوي فِي بِيئَةٍ فقيرة هو مَا ذكره الأديب سلام إبراهيم عَنْ زيارته إلى مدينةِ السَماوة للقاءِ السَماوي يحيى بعد فراق دام بضع سنوات، وَالَّتِي كان يظن أَنَّ مبيته وَصحبه فِي شقةٍ موقعها وسط السوق تعود لأهلِ السَماوي، حيث تحدث عَنها إبراهيم بعد أربعة عقود مِنْ ذلك التأريخ بالقول ” تصورت أن والد يحيى من أثرياء السماوة وعلى خلاف مع يحيى لتوجهه اليساري، وهذا ما بقى في ذاكرتي من تلك الرحلة الشبيهة بحلمٍ بحسبِه، لكن يحيى فِي لقائي بِه نهاية عام 2017م، حكى لي قصة أخرى خلال الأمسية التي أقيمت تكريماً للسماوي – يقصد أمسية بيت النخلة فِي الدنمارك – عن فقر أهله المدقع، وتنقلهم في بيوت مستأجرة “.
*
الـسـفـيـنـةُ غـرقـتْ ؟
لا ذنـبَ لـلـمـيـنـاءِ
إنـهُ ذنـبُـهـا !
لا ذنـبَ لـهـا ..
إنـه ذنـبُ الـمـجـاديـف !
لا ذنـبَ لـلـمـجـاديـفِ ..
إنـه ذنـبُ الـسّـواعـد !
لا ذنـبَ لـلـسّـواعِـد ..
إنـه ذنـبُ الـرّأس !
آه ..
كـم مـمـلـكـةِ عـشـقٍ انـدثـرتْ
لأنَ ” رأسـاً ” واحـداً
رمـى الـفـتـيـلَ فـي الـغـابـةِ
لِـيُـذيـبَ الـجـلـيـدَ الـمُـتـجـمِّـدَ
فـي عـروقـه ؟!

إذا كنا نركن إلى القولِ الَّذِي يسلم إنَّ الإحصاءاتَ لا تعطي صورة كاملة بوسعِها المُسَاهَمَة فِي فهمِ مُشْكِلة الفَقر، فلا رَيْبَ أَنَّ الفَقرَ يُعَدّ مِنْ أكثرِ الظواهر فتكاً فِي حياةِ الأمَم وَالشعوب؛ إذ لا تقتصر تأثيرات هذا الوباء الْمُجْتَمَعي عَلَى الحالتينِ الاقْتِصَادِيَة أو الاجْتِماعِيَّة فحسب، وَإنما تتعداهما إلى حزمةٍ متشابكة مِن الآثارِ الموجعة الَّتِي مِنْ شأنِها المُسَاهَمَة فِي شيخوخةِ الْمُجْتَمَعات الإنسانيَّة وَالتعجيل بهلاكِها. وَيرى المتخصصون تفرد الفَقر كظاهرة اجْتِماعِيَّة تتساوى مِنْ حيث الشمول في تعدّيها عَلَى حقوقِ الإنْسَان؛ نتيجة تعدد سلبية آثارها الكارثية، وَالَّتِي مِنْ أكثرِها خطورة عَلَى الْمُجْتَمَعِ البَشَريّ هو مَا يخيم عَلَى فضاءاتِ العِلْم وَالثَّقَافَة. وَبالاستنادِ إلى هَذَا الاستدلال يمكن الجزم بأنَّ البؤسَ الَّذِي عاشته الْمُجْتَمَعات المَحَلِّيَّة فِي بلادِنا كان لَه دورٌ مؤثرٌ فِي تشكيلِ وَعيها السِّياسِيِّ، وَهو الأمر الَّذِي يفسر انخراط أبنائها – وَمِنْ بَيْنَهم يحيى السَماوي – فِي صفوفِ حركة اليسار العراقي بشكلٍ مبكر؛ لأجلِ تحقيق حلم الطبقات المقهورة فِي إقامةِ دولة تظللها الحرية وَيسودها العدل وَالرفاه.
*
هـي الـتـي
رأتْ كـلّ شيء ..
فـأخْـبَـرَتْـنـي عـنـي
*
أمِـنْ مـاءٍ جـسـدُك ؟
كلما حـاصـرني الـعـطـش
أقـبّـله فـأرتـوي !
أنـامـلـي الـيـبـيـسـةُ تـغـدو فـراشـات
حـيـن تـمـسّـدُ يـاسـمـيـنـه ..
يـسـيـلُ الـضـوءُ مـن بـلّـورك
مُـضـيـئـاً لـشـفـتـيّ
الـطـريـقَ نـحو حـقـول الـتـيـن والـزيـتـون والـكـرز !
*
الـجـالـسـون فـي الأبـراج الـعـالـيـةِ والـقِـمـم
رؤوسُـهـم مُـنـحـنـيـةٌ
لـكـثـرة تـحـديـقـهـم نـحـو الأسـفـل ..
نـحـن الجـالـسـيـن فـي الأوديـة والـسـفـوح
رؤوسُـنـا مُـرتـفـعـةٌ دائـمـاً
لـتـحـديـقـنـا نـحـو الأعـالـي !
*
عَلَى الرغمِ مِنْ أَنَّ السَماويَ الَّذِي ارتشف قهوة الأدب مبكراً، عاش وَترعرع فِي كنفِ عائلةٍ كادحة وَمكافحة بالكاد توفر أدنى احتياجاتها الأساسية, فضلاً عَنْ استحالةِ إيجاد مكان ملائم فِي منزلِه – وَلو بالحدود الدنيا – يسمح لَه بممارسةِ هوايته فِي المطالعةِ وَالكتابة الأدبية، إلا أَنَّ ذلك لَمْ يحد مِنْ عزمِه فِي المثابرةِ عَلَى طلبِ العلم وَالسعي إلى الحصولِ عَلَى مواردِ المَعْرِفة، حيث كان يعمل جاهداً مِنْ أجلِ تحقيق مرامه، وَمِنْ بَيْنَ تلك السبل ذهابه مَعَ بعضِ أترابه فِي أوقاتِ الظهيرة مِنْ أيامِ الصيف القائظ إلى منزلِ صديقه الوَدُود الشاعر وَالفنان التشكيلي عباس حويجي، وَالَّذِي كان وضع عائلته المادي يتيح له تنظيم حياته بشكلٍ يجعله قادراً عَلَى ابتياعِ الكتب، فضلاً عَنْ توفيرِ البِيئَة الملائمة للمطالعةِ وَممارسة هوايته فِي الفنِ التشكيلي، حيث كان دَخلُ عائلته جيداً؛ جراء عمل والده فِي تجارةِ الحبوب، بالإضافةِ إلَى أَنَّ عددَ أفراد عائلته قليل، الأمر الَّذِي مكنه مِنْ اِسْتِغلالِ غرفة الضيوف الَّتِي يشار إليها محلياً باسْمِ ” البراني ” أو ” الديوانية ” فِي متابعةِ هواياته المفضلة وَنشاطاته الَّتِي يحبها، مَعَ العرضِ أنَّ تلك الحجرة كانت مزودة بمروحةٍ سقفية وأرائك خشبية وَبَدن – بمثابةِ البراد المعتمد فِي الوقتِ الحاضر – لحفظِ الماء بأوعيةٍ وسط الثلج الملفوف بالأكياسِ النسيجية. وَيقيناً أنَّ جميعَ تلك المواد وَعَلَى الرغمِ مِنْ بدائيتها وَبساطتها، لَمْ تكن يومذاك متاحة فِي منزلِ السَماوي يحيى وأغلب مجايليه.
*
لـم يـكـن ” عـلـمـاً فـي رأسِـهِ نـار ” ..
لـكـنـه مـشـهـورٌ أكـثـرُ مـن الجميع
فـهـو الـوحـيـدُ الـكـامـلُ نـقـصـاً
فـي مـديـنـةٍ
جـمـيـعُ أهـلِـهــا نـاقـصـو الـكـمـال !
ظـافـرٌ بـالـرذائـل كـلـهـا ..
غـريـبٌ عـن الـشـرف ..
لا تـحـزنـي يـا تـفـاحـتـي الـحـلال :
أعـرفُ أنّ مـاءَ غـســيـل ثـيـاب الـمـومـس
أطـهـرُ مـن أن يـكـون حِـنّـاءً لـشـاربـهِ
لـكن فـضـلـهُ عـلـى الــعـهـر كـبـيـر ..
فـلـولاه
مـا كـنـا سـنـعـرفُ
أن بـعـضَ الـمــخـانـيـثِ
يـحـيـضـون
فـيـطـمـثـون مـن ضـمـائـرهـم !
هـل كــان كـتـابُ الـلـهِ
ســيُــقـدِّسُ شـهــدَ الـنـحـلـةِ
لـولا
قـذارةُ الـخـنـزيـر ؟
*
ليس خافياً أنَّ محاولاتِ السَماوي يحيى قصد تطويرِ أدواته الشِعرية وَصقل مهاراته، منحته حافزاً للتفاعلِ مَعَ عالمِ القراءة وَالأدب، حيث مَا يَزال شغوفاً بالإقبالِ عَلَى ابتياعِ الكتب الورقية، حتى مَعَ ظن الكثير مِن النخبِ الثقافية أَنَّ زمنَها انتهى. وَضمن هَذَا المعنى استوقفتني عبارة للشاعر البحريني قاسم حداد يقول فِيهَا ” المعرفة التي لا تنميها كل يوم تتضاءل يوماً بعد يوم “؛ إذ أَنَّ القراءةَ بالاستنادِ إلى المُتَخَصِّصين تحفّز العقل، وتخلق الكثير مِن التجارب، فالثقافة مِنْ وجهةِ نظر الروائي والكاتب المسرحي الفرنسي – المولود فِي بيئة جزائرية شديدة الفقر مِنْ أبٍ فرنسي وَأم إسبانية – ألبير كامو ( 1913 -1960 ) هي ” صرخة البشر في وجه مصيرهم “. وَالمذهلُ فِي الأمرِ هو مَا أثبتته الدراسات العِلْميَّة مِنْ نتائجَ تشير تحديداً إلى أَنَّ القراءةَ الأدبية تُكسب العقل وَظائف معرفية عدة، فضلاً عَنْ أَنَّ مُتعةَ القراءة تفضي بحسبِ الأدبيات العلمية إلى مضاعفةِ تدفق الدم فِي مناطقٍ عديدة مِن الدماغِ البشري، وَثَبَتَ أيضاً أنَّ ” دراسة الرواية الأدبية والتعمق في التفكير بقيمتها مِن الأعمال الفعالة للعقل “. وَفِي هَذَا السياق يشير الأب الأديب يوسف جزراوي إلى صديقِه السَماوي يحيى بالقول ” ينامُ ابو علي وفي عينه قافية، ويفيق وفي بؤبؤ عينه الثانية رباعية. إنّه المتأرّق دائمًا وأبدًا، ينام ولا يرتاح. إنّه إبن الشعر، إبن الأرق، إبن المحبة والإبداع العراقي. يقرأ كثيراً وينام قليلاً، معلّق على جدران الغربة، غارق في ذاكرة الوطن “. ويضيف جزراوي أيضاً مَا نصه ” ….. ولا يخفى على أحد بأنَّ العربية الفصحى ظلت أداته المفضلة لإظهار فكره الراقي ونفسه السمحة وإيجاد أسلوبه الخاص لتعبيره الأدبي الذي يتسم بالمحبة الكونية. فهو حين يقف على منصة المنبر تلقاه كبلبلٍ جريح يُرفرف بصمتٍ وهو يُغرد اناشيد المحبة والسلام، وحين تقرأ له تلتمس استعداده للتضحية من أجل الغايات النبيلة والأهداف السامية. وَيضيف الجزراوي أيضاً مَا نصه ” ولا بُدّ لي أن اعترف أنَّ الرجلَ حين تجمعك به محطات الوجود ستجده من الوزن الثقيل في الشعر والثقافة والإنسانيّة واخلاقيات الحياة “. وَفِي المنحى ذاته تخاطبه الشاعرة العراقية رند الربيعي بالقول ” استاذنا ومعلمنا الفاضل يحيى السماوي دائما حين اقرأ لك اجد كل ما هو يشبع الرغبة الادبية عند المتلقي ويجد الاصالة في الكلمة والرصانة في اللفظة او المفردة التي تستخدمها في قصائدك المميزة ذات الطابع السماوي “.
*
ثـمـة وقـوفٌ أسـرعُ مـن الـرَّكـضِ ..
هـذا مـا قـالـه الـبـئـرُ لـلـجـدولِ
فـي وصـفـهِ الـنّـاعـور !

ثـمـة ركـضٌ أبْـطـأ مـن الـوقـوف ..
هـذا ما قـالـه جـبـلُ الـحـقّ
فـي وصـفـهِ
غـزالَ الـبـاطـل !

ثـمـة بـيـاضٌ أكـثـرُ عُـتـمـةً
مـن قـعـر بـئـرٍ فـي لـيـلٍ يـتـيـمِ الـقـمـر والـنـجـوم :
بـيـاضُ الأكـفـانِ و” الـبـيـتِ الأبيـض ” مـثـلاً …

ثـمـة سَـوادٌ أكـثـرُ بـيـاضـاً مـن مـرايـا الـصّـبـاحِ :
الـحَـجَــرُ الأسـودُ ومـقـلـتـاكِ مـثـلاً ..

يمكن الجزم بأنَّ السَماويَ كان يتأملُ عَلَى نحوٍ مثمر فِي كيفيةِ متابعة مستقبله، حيث كان فِي حلمٍ دائم، يَبْدُو بمفاهيمِه الجوهرية متناغماً مَعَ رؤيةِ الروائي العالمي ” باولو كويلو ” المولود فِي البرازيل عام 1970م، وَالَّذِي نشرت مؤلفاته في أكثر مِنْ مائة وَخمسين دولة، وترجمت إلى أكثرِ مِنْ خمسينِ لغة، وَبيع مِنهَا أكثر مِنْ ثلاثين مليون نسخة، وَالَّتِي نصها ” لا يستطيع الإنسان مطلقاً أن يتوقف عن الحلم.. الحلم غذاء الروح كما أن الاطعمة غذاء الجسم… نرى غالباً خلال وجودنا أحلامنا تخيب، ورغباتنا تحبط، لكن يجب الاستمرار في الحلم وإلآ ماتت الروح فينا “. أو مثلمَا يقول نجيب محفوظ الَّذِي يُعَدّ أهم الشخصيات فِي مجالِ كتابة الرواية الَّتِي ابتليت بالمصائب ” كيف نضجر وللسماء هذه الزرقة، وللأرض هذه الخضرة، وللورد هذا الشذا، وللقلب هذه القدرة العجيبة على الحب، وللروح هذه الطاقة اللانهائية على الإيمان؟، كيف نضجر وفي الدنيا من نحبهم، ومن نعجب بهم، ومن يحبوننا، ومن يعجبون بنا؟ “، فالسَماوي يحيى كان حريصاً عَلَى إكمالِ دراسته الجامعية فِي كليةِ الآداب ليحققَ طموحاته وَيصبح لهُ شأن فِي الحياة؛ لأنهُ أرادَ فعلاً مِنْ أعماقهِ أنْ يلبسَ ثوب التدريس، فكان لهُ مَا أرادّ بعد أنْ حصلَ غَلَى شهادةِ البكالوريوس فِي اللغةِ العربية عام 1974م، فغدا جديراً بالاشتغالِ فِي حقلِ التدريس مدرّساً لمادةِ اللغة العربية فِي ” إعداديةِ السماوة “، بالإضافةِ إلى الاستمرارِ بِعملِه فِي ميدانِ الصحافةِ وَالإعلام. وَقد كان حقاً سعيداً وَمستمتعاً فِي ممارستِه لِمهنةِ التدريس الَّتِي أحبها، وَشغفَ بِهَا حتى حدود العشق، حيث كان يحاور طلابه، ويعيش معهم، متقمصاً أعمارهم وَمستويات وَعيهم؛ إذ كانت علاقته الإنسانيَّة بِهمْ تُنسيه الكد وَالتعب اليومي، وَمَا يَزال للآن مؤمناً بتلك السجية المستنيرة عَلَى الرغمِ مِمَا جلبت لَه لاحقاً مِنْ مُشكلاتِ مَعَ بعضِ الإدارات المدرسية، حيث كانت إحداها السبب فِي نقلِه إلى ثانويةِ التحرير بمدينةِ السماوة، فالسَماوي يحيى كمَا وصفه الأب الأديب يوسف جزراوي بالقول ” إنَّ السماويّ يحب العربية ويتقنها حدّ الإبداع، ولا يرضى بسواها لكتابة أدبه الغزير… هو نجمةٌ مضيئةٌ ومشعةٌ في سماء الأدب العربي المُعاصر، سراجه لا ينضب زيته، ولا تنطفئ فتيلته، سكب معاناته الإنسانيّة والوطنية في قصائدَ حلّق خلالها بأجنحةٍ لا تحدها سموات، عصرَ فيها قلبه، ومنح من وهج شرايينه كتابات أفرغها في قلبِ القارئ العربي، ليعطيه طاقة روحيّة، وهو يترجم له أحاسيسه ومعاناته، بل قُلّ أحزان شعبه ومحنة بلده ” وَيضيف أيضاً ” هو شاعر وَأديب وَناقد وَباحث، يمتشق القلم لينشر مبادئه وقناعاته المُختمرة بفرن الاعماق بلغةٍ تشد القارئ وتحفر الإبداع فيه، لغة يعجنها ويصقلها لتأتي طوّاعة بين يديه، فميزته لا تكمن في تمكنه من اللغة العربية وحسب، بل في القدرة على استخراج تركيبات لغوية ساحرة. فعندما تتزاوجُ لغة الإبداع بصاحبها فإنّه من غير شك ستولدُ القصيدةُ ويولدُ النصّ الأدبيّ وتولد القطعة النثرية بأبهى حلّة، وكيف إذا كانَ المبدعُ قد انغمسَ في تفاصيل عالقة في جسد الذاكرة لتكتب همّ الوطن ومعاناة الشعب من حاكم أرعن وساسة لا يفقهون من الحياة إلآ الفساد والقتل والتعصب “. وَمثلمَا أشار إليه الشاعر الدكتور ابراهيم الخزعلي بالقول ” إن الأعمال الخالدة في الأدب، هي تلك التي تحتوي على مضامين انسانية نابعة من أحاسيس صادقة ممزوجة بالألم والمعاناة، وليست تلك الأشكال الجمالية التي لا تحتوي على أية قيمة مضمونية، أو بعيدة عن المصداقية، وهي مجرد ترف برجوازي .. فمن يقرأ السماوي إنساناً ونتاجا، لم يجد فارقا بينهما .. فالسماوي هو نتاجه، ونتاجه هو السماوي، وهذه هي قمة القيمة الإبداعية “. كذلك أشار إليه قارئ كريم اسْمه علي موسى‏ – يَبْدُو أنَّه كان عَلَى معرفةٍ قديمة بِالسَماوي – بمداخلةٍ نشرت فِي أحدِ المواقع الإلكترونية بالقول ” قامة شامخة وشاعر كبير عراقي أصيل، وطني حد نخاع العظم، صامد كالجبل الأشم، لم يتغير، ولم ينحن لجنس بشر، محب للجميع، رقيق الاحساس، شفيف عذب حلو المعشر، أبي النفس “.

مُـتَّـهَـمٌ بـيـقـيـنـي فـي مـحـكـمـةِ الـظـنـون ..
حـزنـي الـشّـاهـدُ عـلـيَّ
ولـيـس مـن فـرحٍ يُـدافِـعُ عـنـي !

أيـهـا الـرّاعـي أعِـرنـي مـزمـارَك
لأنـشَّ بـهِ ذئـابَ الـوحـشـةِ
عـن بـقـايـا خِـرافِ طـمـأنـيـنـتـي !

*

مـنـذ دهـورٍ وهـو يـصـرخ ..
لـم يـسـمـعـه أحـد
لـيـس لأنـه يُـصـفـق بـيـدٍ واحـدة ٍ ..
ولا لأنـه مـثـقـوبُ الـحـنـجـرة ..
إنـمـا
لأنـهـم اعـتـقـلـوا الـهـواءَ
فـي قـاعـةِ الـوطـن

*

كـلُّ ضـغـائـن الـعـالـم
أضـعـفُ
مـن أن تـهـزمَ
قـلـبـيـن مُـتـحـابَّـيـن
بالاستنادِ إلى مَا تيسر لَيَّ مِنْ شهادات، وَلاسيَّما أحاديث طلبته الَّذين ارتقى الكثير مِنهم سلالم التطور فِي مَا تباين مِنْ ضروبِ الأدب، مَا أظنني مبالغاً إنْ قلتُ أَنَّ عشقَ السَماوي للتدريس انعكس بصورةٍ إيجابية عَلَى تطويرِ الأداء فِي حقلِ التَّرْبِيَة بِمدينتِه، فضلاً عَنْ محاسنِه للطلبةِ الَّذين غرس فِي نفوسهِم بذرة القدرة عَلَى النجاح والسعيّ الحثيث لتَنْمِيَةِ مواهبهم وَتطوير قدراتهم، حيث تعودوا عَلَى النظرِ إلى الدراسةِ بطريقةٍ إيجابية؛ مكنتهم لاحقاً مِنْ التبحرِ فِي بطونِ كتب العُلُوم وَالتمتع بالتجوالِ فِي سوحِ الثَّقَافَة وَالفُنون. يضاف إلى ذلك انعكاس برنامج العمل هَذَا عَلَى أساليبِ التعامل مَعَ أقرانِه مِنْ المدرسين. وَتدعيماً لِمَا ذكر آنفاً، فإنَّ السَماويَ وَمِنْ خلالِ استعراض مَا أُتيح لَيَّ مِنْ أقوالِ بعض مجايليه وَالنظر فِي شهاداتِ آخرين مِنْ طلبته، أبدع فِي أدائِه كمدرس للُغَةِ العربية. ولعلَّ مِنْ بَيْنَ أبرز وَأهم الدلائل عَلَى إبداعه هو اعتراف مُدِيرِيَّة الإشراف التَرْبَوِيّ فِي محافظةِ المثنى بالنهجِ الَّذِي اختطه فِي طرائقِ التدريس؛ إذ أوكلت إليه أكثر مِنْ مرةٍ مهمة إقامة دروس نموذجية لطلابِه يحضرها مدرسو وَمدرسات اللغة العربية فِي المحافظة، وَلاسيَّما فِي درسِ النحو، حيث كان يقوم بتأليفِ قصيدةٍ تتضمن أبياتها مَوْضُوع الدرس، وَمِنْ خلالِ شرح القصيدة يتم استنباط القاعدة النحوية، كما يتم معرفة بحر القصيدة وَتبيان السمات الأسلوبية وَالبلاغية، بالإضافةِ إلَى رسمِ مواضع الهمزة وما الى ذلك؛ فأصبح ” الدرس النحوي ” درساً فِي ” النقدِ وَالبلاغة وَالمطالعة ” مَعَ حرصه – المتعمد – عَلَى إنسانيَّةِ النص وَإشاعة الفكر الإنسانيّ التقدمي وَثَّقَافَة المَحَبَّة وَالتسامح كبديلٍ للأمثلةِ الجامدة وَالشعارات الَّتِي كان يتضمنها كتاب القواعد أو النحو.
فِي وقتٍ لَمْ يعد فِيه بيتُ شعر أحمد شوقي المشهور ” قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا… كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا “، حاضراً فِي أذهانِ الكثير من التربويين فِي بلادِنا؛ لِتيقنهم مِنْ أنَّهُ أصبح فِي خبرِ كان بوصفِه مِن الأبياتِ الشِعرية الَّتِي لا ينسجم مضمونها مَعَ مَا يجري حالياً فِي أروقةِ مدارسنا بفعلِ تمرد الطلبة عَلَى أساتذتِهم وَعدم مَنحهم المستوى المطلوب مِنْ ” التقديرِ وَالاحترام ” بتشجيعٍ مِنْ بعضِ أولياء الأمور المتفاعلين مَعَ فوضى ديمقراطية المحتل، وجدت مِن المناسبِ استعراض بعض مناقب السَماوي التَرْبَوِيَّة، فالمذهلُ فِي الأمرِ أَنَّ مهنةَ التدريس أكسبت السَماوي صداقات واسعة وَحميمة مَعَ الطلاب، وَأكـاد أجـزم أن هَذَا التفاعل الإيجابي كان مِنْ بَيْنَ الأسباب الَّتِي حببت الأدب لعددٍ كبير مِنْ طلابه الَّذين أصبح لبعضهم اليوم حضوره الكبير فِي المشهد الإبداعي العراقي كالأدباء وَالشعراء قاسم والي، إياد أحمد هاشم، نجم عبيد عذوف، باقر صاحب، كاظم الحصيني، الدكتور عبد الرحمن كاظم زيارة، الشهيد المناضل كاظم وروار وغيرهم كثيرون.

سَـحَـبَـتْـنـي مـن مـرايـا شُـرفـةِ الـفـنـدقِ نـحـو الـقـاعِ صـخـرةْ

فـتـشــبَّـثـتُ بـحـبـلٍ مـن دخـانٍ كـلـمـا أنـفـثُـهُ :
يـنـفـثـنـي آهـاً وحـسـرةْ

فـتـلاشـيـتُ كـمـا فـي الـبـحـرِ قـطـرةْ

أيـهـا الـعـابـرُ مـن فـضـلـكَ : هـل ألـقـيـتَ نـظـرةْ

حـولَ هـذا الـبـحـرِ والـشـرفـةِ والـشـارعِ والـبـئـرِ
فـإنـي ضـائـعٌ أبـحـثُ عـنـي مـنـذ أنْ سَــلَّـمَ وادي الـنـخـلِ لـلـعـاصـيـن أمـرَهْ

لـم أجـدنـي فـي دجـى الـبـئـرِ وبـطـنِ الـذئـبِ والـحـوتِ
فـهـل فـتَّـشـتَ عـنـي ؟
إنـنـي الأعـمـى الـذي هـيَّـأ قـبـلَ الـمـوتِ قـبـرَهْ
كان السَماوي صادقاً فِي مهمته التَرْبَوِيَّة وَالمتمثلة فِي سعيِّه الحثيث للمُسَاهَمَةِ بِبناءِ أجيالٍ محصنة بالعلمِ وَمدركة لقيمةِ الثَّقَافَة وَتأثيرها، بَيْدَ أنَّ كُلَّ مَا فعله لَمْ يكن ذا أهمية فِي صلبِ تفكير إدارة تَرْبَوِيَّة تَنْهَل مِنْ معينِ النظام الشمولي فكراً وَممارسة، حيث فوجئ بقرارِ نقله مِنْ الآفاقِ الَّتِي يجد نفسه فِيها إلى ” مُدِيرِيَّة بَلَديَّة السَماوة “، موظفاً لا عمل له. وَبعد مضي سنة دراسية كاملة قضاها فِي العملِ بمُدِيرِيَّةِ البَلَديَّة، استعاد السَماوي يحيى فرحاً صُودِر منه كيدا فِي أعقابِ إعادة خدماته ثانية إلى قِطاعِ التَّرْبِيَة بسببِ حاجة التَّرْبِيَة يومذاك إلى المدرسين. وَقد مكث فِي التدريسِ سنوات عدة، حتى شروع النظام الحاكم فِي التعاملِ مَعَ هَذَا القِطاع الحيوي بالاستنادِ إلى نهجِ ” التبعيث “. وَحين أعلن السَماوي امتناعه عَنْ الإنتماءِ للحزبِ الحاكم، تم نقله وظيفياً إلى مكتبِ ” بريد السَماوة ” ليمارس فِيه وظيفة ” رزّام رسائل “، عَلَى الرغمِ مِنْ أَنَّه كان باعترافِ ” مُدِيرِيَّة الإشراف التَرْبَوِيّ ” وَإدارة المدرسة وَطلابه، مدرساً ناجحاً لدرجة أنَّ مُدِيرِيَّةَ الإشراف التَرْبَوِيّ كانت تكلّفهُ سنوياً بإقامةِ درسٍ نموذجي لطلابِه، بحضورِ مدرسي وَمدرسات المحافظة؛ إذ فوجئ ذات صباح بأمرٍ صادر مِنْ ” مُدِيرِيَّةِ تَّرْبِيَة محافظة المثنى ” بإنهاءِ علاقته بالتدريس؛ إستنادا للأمرِ الوزاري ” المرقم 42051 وَالمؤرخ فِي الثالثِ مِنْ تموز عام 1980م “، وَ الَّذِي يقضي بنقلِ خدمته الوظيفية مِنْ ” مدرس ” إلى ” رزّام رسائل ” فِي مكتبِ بريد السَماوة. وَالمذهلُ فِي الأمرِ أنَّ السببَ المعلن فِي أمرِ نقل خدماته – وَعدد آخر مِنْ زملائِه – هو مقتضيات ” المصلحة العامة “، إلا أَنَّ غيرَ المعلن هو : رفضه وَزملائه الإنتماء لحزبِ البعث الحاكم.

لـسـتُ وحـدي أجـلـسُ الان عـلـى سـاحـلِ ” هِــنْـلي بـيـجْ ”

أرمـي الـمـوجَ والـرمـلَ بـأحـجـارِ الـنـدَمْ

لـسـتُ وحـدي فـأنـا فـي قـلـبـيَ اللهُ

وفـي عـيـنـيَّ بـحـرٌ

ويـدي تـحـمـلُ أوراقـاً وتـبـغـاً وقـلـمْ

وبـأعـمـاقـي جـبـالٌ مـن هـمـومٍ

وسـهـولٌ مـن ألـمْ

لـسـتُ وحـدي ..

إنـنـي فـردٌ ولـكـنْ بـيـن أضـلاعـي شـعـوبٌ وأمـمْ

كـيـف أشـكـو وحـشـةَ الـوِحـدةِ والـبـحـرُ صـديـقـي

ونـديـمـي الـصـمـتُ ..

هـل يـشـكـو صـريـرَ الـريـحِ مـزمـارُ الأصَـمّْ ؟

الشابُ الثوري المهووس بالثورةِ الَّتِي أكلت نفسها فِي مطلعِ ستينيات القرن الماضي، وَالَّذِي وصفَه – بعد عقود مِنْ تلك الأيام – الأب الأديب يوسف جزراوي بالقول : ” السَماوي كالحجر الذي رفضه البناؤون وأصبح رأسًا للزاوية “، انتظم في مهنةِ رزم الرسائل بمكتبِ بريد السَماوة – لا عَنْ رضىً وَلا طيب خاطر – بعد أنْ تسببَ وعيه الوَطَنِيّ وَانغماسه فِي حركةِ اليسار عيشه خارج أسوار بِيئَة التَّرْبِيَة الَّتِي أحبها وَشغف بفنونِها حد العشق، فضلاً عَنْ مثابرتِه وَجهده الكبير، ومَا مِنْ شأنه الإثقال عَلَى أسرتِه مِنْ أجلِ التشرف بالانتماءِ إلى أروقتها ورسم ملامح الإبداع فِي فضاءاتِها، بَيْدَ أنَّ التضييقَ عَلَيه وَجعله بعيداً عَنْ طلبتِه، فضلاً عَنْ وضعِه تحت أنظار عسس السلطة ومخبريها السريين وَكتاب التقارير الإخبارية، لَمْ يبعده عَنْ همومِ شعبه، فكانت سياط أمن السُّلطة الَّتِي تجرى عَلَى ظهورِ آلاف العراقيين المطالبين بالكرامةِ وَالحريةِ تترك ندبات عَلَى جسمِه وَتعرج أخاديدَ عَلَى وَجهه.

قـالَ لـيْ الأعـمـى : أنـا أرضٌ يـبـابْ

لـيـس يـعـنـيـنـي إذ أشـرقـتِ الـشـمـسُ
أو الـبـدرُ عـن الـشـرفـةِ غـابْ

مـا الـذي تـخـسـرهُ الـصـحـراءُ إنْ جَـفَّ الـســرابْ ؟
السَماوي يحيى وجد نفسه ثانيةً بعيداً عَنْ تدريسِ طلبته أعلام الشعراء العرب كالمتنبي وَالبحتري وَامرئ القيس وَأبي تمام وَالنابغة الذبياني وَالمعري وَابن الرومي وَغيرهم، بعد أنْ أنيطت به مهمة لا تمُت إلى المؤهلِ العلمي فِي مجالِ اختصاصه أو نشاطاته المَعْرِفية وَاهتماماته الأدبية بأيِّ صلة؛ إذ أجبر عَلَى العملِ فِي عزلِ الرسائل وَرزمها فِي أكياسٍ قبل أنْ يبعثها بنفسِه – وَأحياناً سائق الدائرة أو عامل الخدمة الَّذِي يشار إليه محلياً باسْمِ الفرّاش – ليلاً إلى محطةِ القطار مِنْ أجلِ إرسالها إلى المدنِ الأخرى. وَأَدْهَى مِنْ ذلك أَنَّ السَماويَ لَمْ يستقر بِه الحال هكذا طويلاً؛ إذ سرعان مَا أصبح مكبلاً بقيودِ العزلة القسرية عندما جرى نقله إلى وظيفةِ ” أمين مخزن القرطاسية “، وَالَّتِي يقتصر واجبه فِيها عَلَى تجهيزِ مكتب البريد بالورقِ وَأقلام الحبر الجاف وَبقية القرطاسية، حيث كانت معاناته حملاً ينوء بِه ظهره؛ لأَنَّ ذلك المخزن لَمْ يكن إلا عبارة عَنْ غرفةٍ ضيقة معزولة مِنْ أجلِ عزله عَنْ بقيةِ الموظفين وَالموظفات. وَعَلَى الرغمِ مِنْ أنَّ لقسوةَ تلك الأيام وقعاً فِي ذاتِ السَماوي، فقد كان هناك مِن المواقفِ مَا اخترق جدران عذاباتها بلمسةِ جمالٍ إنسانيَّة تعكس الأمل وَتدفع للتسامحِ والتكافل وَالمودة الَّتِي بوسعِها المُسَاهَمَة فِي زرعِ الثقة بقلوبِ الآخرين، وَرُبَّما القدرة عَلَى التأثيرِ فِي إعادةِ النظر بالحياة وَتغيير بعض المفاهيم، وَلا أدلَّ على ذلك مِمَا جعل إحدى زميلاته فِي دائرةِ البريد تضمين محتويات حقيبتها اليدوية ” أبره وَخيط وَأزرار “؛ لأجلِ إصلاح ملابسِه الممزقة بفعلِ مَا يتعرض لَهُ مِنْ ضربٍ وَركلات وَغيرهَا خلال حفلات الاستجواب شبه الشهرية فِي دائرةِ أمن البلدة، فضلاً عَنْ تمكنه مِنْ كسبِ وَد الموظفين وَالعمال هناك؛ إذ عَلَى الرغمِ مِنْ العزلةِ الَّتِي فرضت عَليه، فإنَّ بعضَهم اصبح متعاطفاً مَعَ الحزبِ الشيوعي، فكان السَماوي يبيعهم خلسة جريدة ” طريق الشعب ” وَمجلة ” الثقافة الجديدة “، مَعَ العرضِ أَنَّه كان شديد الحذر فِي التعاملِ مَعَ الآخرين؛ لِعلمه بوضعِه تحت مراقبة أجهزة أمن النظام وَعسسه. وَضمن هَذَا الإطار للسَماوي يحيى قول جميل نصه : ” نحن – الصعاليك – مثل نبات الأثل، نزداد انتشاراً وَتوغّلاً فِي الأرضِ كلما حاولتْ مناجل الجبابرة اجتثاثنا “.

الـلـيـلُ مـصـلـوبٌ عـلـى نـافـذتـي
والـفـجـرُ يـرتـدي عـبـاءةً مـن الـغـيـومْ

جَـفَّ بـريـقُ الـبـدرِ ـ فـي عـيـنـيَّ ـ والـنـجـومْ

وهـا أنـا : مـئـذنـةٌ صـامـتـةٌ
وضـحـكـةٌ حَـزَّ صـداهــا خـنـجـرُ الـوجـومْ

لابُـدَّ مـن خـمـرٍ جـديـدٍ غـيـر خـمـرِ الـتـمـرِ والـتـفـاحِ والـكـرومْ

خـمـرٍ إذا شــربـتُـهُ أصـحـو ـ ولـكـنْ تـسـكـرُ الـكـأسُ ـ
وتـنـجـلـي بـهِ الـهـمـومْ

عَـتَّـقَـنـي فـي طـيـشِـهِ أمـسـي
وعَـتَّـقـتُ غـدي فـي غـفـلـتـي ..
فـهـل أنـا ” ثـمـودُ ” ؟ أمْ ” سـدومْ ” ؟
إذا كان بمقدوري استعارة المعنى مِنْ بيتٍ شعري لأبي الطيب المتنبي نظمه قبل أكثر مِنْ ألفِ عامٍ عند خروجه مِنْ مصر عَلَى أيدى جماعة مِنْ قطاعِ الطرق كان قد هجا كبيرهم بقولِه : ” وَكَمْ ذَا بِمِصْرَ مِنَ المُضْحِكَاتِ .. وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالبُكَا “، فإنَّ مِنْ المضحكاتِ المبكيات الَّتِي يمكن أنْ تُساهم فِي رسمِ صورة للواقعِ العراقي أيام النظام السابق هو أنْ يغادرَ السَماوي يحيى مربي الأجيال – قسراً أيضاً – وظيفته الَّتِي كان يعاني فِيها العزلة وَيجبر لتأديةِ خدمةِ ” الإحتياط ” فِي محرقةِ حرب الخليج الأولى، فِي زمنٍ كان يُعفى فِيه المدرس مِنْ هذه الخدمة، حيث كان أقرانه مِن المدرسينِ وَالمعلمين يعيشون بعيداً عَنْ جبهاتِ الموت وَخنادقها بفضلِ قرارِ النظام استثناء المدرسينَ مِنْ مواليد عام ( 1949 ) مِنْ أداءِ الخدمة العسكرية كجنود احتياط، فكان أنْ سيقَ إلى مطحنةِ القادسية ليبقى ثمان سنين؛ بالنظرِ لزوالِ العذر الرسمي الَّذِي يوجب أنْ يكون المستثنى منتظماً فِي قِطاعِ التَّرْبِيَة وَالتَّعْلِيم، والمتأتي مِنْ رفضِه خيانة مبادئه وَالانتماء لحزبِ البعث.

لأنَّ عـيـنـيـكِ عـمـيـقـتـانِ عُـمْـقَ الـكـاسْ :
صـرتُ ” أبـا نـؤاسْ ” !
*
لأنَّ عـيـنـيـكِ حـديـقـتـايَ فـي الـيـقـظـةِ
و ” الـبُـراقُ ” إنْ أسـرى بـيَ الـعـشـقُ إلـى جـنـائِـنِ الأحـلامْ :

صـرتُ نـديـمَ الـوردِ والـطـيـورِ
والـسّـادِنَ فـي مِـحـرابِ شــيـخـي ” عُـمَـرِ الخَـيّـامْ ”
*
لأنَّ عـيـنـيـكِ بُحَـيْـرَتـانِ من ضـوءٍ تـشـعّـان بـكـلِّ الـفـصولْ :
صارَ فـمي مِـئـْذنـةً تـُمَـجِّـدُ الـسّــنـبـلََ في الحـقـولْ
*
ليس خافياً أنَّ ركونَ السلطة إلى قرارٍ ” أسطوري ” يقضي بتحويلِ تَرْبَوِيٍّ حاذق – يعتمد نظم الشعر لغة مَعَ البِيئَة الَّتِي يعيش فِيها وَيتواصل بِه مَعَ البَشَريَّة – إلى رزامِ رسائل، يعكس مِنْ دُونِ أدنى شك أنَّ متخذه لَمْ ينل الحد الأدنى مَن الأهلية، وقد زُجَ فِي أروقةِ إدارةٍ مهمة لا يفقه فيها شيئًا. ولعلّ مِن المناسبِ اليوم، وَنحن فِي رحابِ استعراض بعض ذكريات تلك الأيام الإشارة هُنَا إلى أنّ تقدمَ الأمَم وَالشعوب يعود إلى طبيعةِ معطيات الإدارة المعتمدة فِيها، حيث أَنَّ بوسع الإدارة العِلْميَّة إنجاح المُنَظَّمَات داخل المُجْتَمَع؛ نتيجة مقدرة آلياتها عَلَى اِسْتِغلالِ المَوَارد البَشَريَّة وَالمادِّيَّة بفاعليةٍ وَكَفاءَة عالية. وَمصداقاً عَلَى مَا تقدم يمكن الاستشهاد بكثيرٍ مِن الدولِ الَّتِي تمتلك المَوَارد المَالِيَّة وَالبَشَريَّة، لكنها مَا تزال منضوية تحت خيمة الدول المتخلفة بسببِ النقص فِي خبراتِها الإدارية. يُضافُ إلى ذلك أنَّ نجاحَ خطة التَّنْمِيَة الاقْتِصَادِيَة وَالاجْتِماعِيَّة، وَتحقيقها لأهدافها يتوقف عَلَى حُسنِ استخدام مَا مُتاح مِن المواردِ المادِّيَّة وَالبَشَريَّة.
*
لأنّ عـيـنـيـكِ وديعـتانِ كـالأطـفـالِ فـي مـديـنـتـي ..
تـُضاحِـكانِ الـنـخـلَ فـي الـبـسـتـانِ والـنـجـومَ فـي الـسـمـاءْ :

صرتُ مـيـاهـاً فـابْعـثـيـني للعـطـاشى مـاءْ
*
لأن عـيـنـيـكِ تـُحِـبّانِ الـسّـنا
وتـكـرهـانِ الـدمَ والـخـنـجـرَ والـبـارودَ والـظـلامْ :

غـنّـيـتُ لـلـعـشـقِ وللأطـفـالِ والـسّـلامْ
*
لأنـنـي ابـتـدأتُ مـنـكِ رِحـلـةَ الـمـعـراجْ :

دعـوتُ أنْ يُـورِثَـنـي مـصـيـرَهُ ” الـحلاّجْ ” !

لَمَا كانت الإدارة تشكل عصب الدَّوْلَة وَالسُّلطة، وَتجسيدها الأمثل، فإنَّ الإدارةَ السليمة تفرض عَلَى المدراءِ وضعِ الشخص المناسب فِي المكانِ المناسب؛ تحقيقاً للعدالةِ وَمراعاةً لظروفِ العمل وَمتطلباته، إلى جانبِ قدرات الفرد وَإمكانياته. وَيَبْدُو جلياً أنَّ صاحبَ ذلك القرار ” المعجزة ” لَمْ يصل للإدارةِ بالاستنادِ إلى َكفاءته أو خبرته، وَإنما أرتقى سلالم المنصب الوظيفي بأجراءٍ إداريٍّ خاطئ أو بمحضِ الصدفة أو بانتهاجِ سبلٍ لا تقيم وزناً للإمكانات، وَلا تعول عَلَى مَا يلزم مِنْ مهارات. وَلا أَكتُمُ سراً عندما أقولَ أَنَّ مِنْ بَيْنَ أهم العوامل الَّتِي أثارتني للحديثِ عَنْ تلك الحادثة المؤلمة الَّتِي تجرع مرارتها الكثير مِنْ الوطنيين وَالاحرار هو التخبط الَّذِي يخيم عَلَى المشهدِ السِّياسِيِّ المَحَلّيّ؛ نتيجة لافتقارِ القيادات الإدارية إلى التَّخْطِيط المنظم وَالمتقن الَّذِي يرتكز عَلَى فهمٍ عميق لأهميةِ عملية التَّنْمِيَة وَدورها المرتجى فِي مهمةِ بناء الإنْسَان وَرقيه وَتطوره، بالإضافةِ إلى مَا مِنْ شأنِه النهوض بالبلادِ اقْتِصادِياً وَاجْتِمَاعِياً وَثقافيا، وَصولاً إلى النهضةِ الحقيقية الشاملة. وَلعَلَّ فِي مقدمةِ تلك الاخفاقات هو الخيبة فِي مواكبةِ التطوير بمختلفِ جوانب العملية التَرْبَوِيَّة وَالتَّعْلِيميَّة، بِمَا يضمن تبنى المتفوقين وَالنابغين وَدعمهم؛ لأجلِ تمكينهم مِنْ تطويرِ ملكاتهم وَتنمية قدراتهم بِمَا يُساهِمُ فِي الارتقاءِ بالبلاد. وَليس أدل عَلَى ذلك مِنْ أَنَّ أستاذَ اللغة العربية الَّذِي قدر له أنْ يعملَ فِي رزمِ الرسائل مرغماً، لَمْ يقتصر عطاؤه عَلَى تركِ بصمة فِي المشهدِ التَرْبَوِيّ العراقي، حيث مكنه مداد يراعه أنْ يصبح بعد سنوات أحد أهم العنوانات داخل الخارطة الشعرية الَعرَبيَّة بفضلِ تنوع نتاجه الشِعريّ مَا بَيْنَ القصيدة العمودية الَّتِي عشق كتابتها منذ بداياته الأولى وَمَا بَيْنَ القصيدة الحرة الَّتِي يتنقل فِي تفاعيلها، فضلاً عَنْ تخطي صيته وَشهرته الصعيد المَحَلّيّ وَالعربي، مثلما يشهد بذلك المترّجَم مِنْ أعمالِه إلى لغاتٍ عدة، إضافة إلى الرسائلِ وَالأطاريح الجامعية لنيل شهادتي الماجستير والدكتوراه في جامعاتٍ إيرانية وهندية؛ بالنظرِ لكونِ مضامين أعماله الشِعرية نابعة مِنْ إحساسٍ صادق وَعميق مفعم بالحبِ وَالجمال واحترام الإنْسَان وَالدفاع عَنْ قَضايَاه.

إنَّ لـقـاءً قـصـيـراً
يـمـنـعُ زَعَـلاً طـويـلاً ..

فـتـصـدَّقـي عـلـيَّ ولـو بـ ” شِـقِّ لـيـلـةٍ ”
أشـربُ فـيـهـا خـمـرَ أنـوثـتـك بـكـأس رجـولـتـي

كـلُّ قُـبـلـةٍ تـتـصـدَّقـيـنَ بـهـا عـلـيَّ :
سـأجـزيـكِ بـعـشـرةِ أمـثـالـِـهـا
ذات سَماوة، سأل السَماوي وَالده : ” هل جرّبت الجندية يا أبي ؟ “. وَمِنْ دُونِ حاجة الحاج عباس ” طيب الله ثراه ” إلى وقتٍ للتفكير أجابه على الفور : ” نعم يا ولدي… حاولت التملص منها فلم أستطع؛ لأَنّيَ لم أكن وحيد العائلة فأعفى، ولا ثرياً فأدفع البدل النقدي..! “. وَمِنْ المؤكّـدِ أنَّ كلماتَ الحاج عباس كانت أكثر مِنْ إجابة عَلَى سؤال، فالمتمعن بمضمونِها الإنساني يعي جيداً أَنَّ الدفاعَ عَنْ الوطنِ محصور بالفقراء. ولأَنَّ جوابَ الوالد كان بمثابةِ صفعة لولده، سأل يحيى والده ثانية ببراءةِ الفتوة : ” لكن الفقراء لا يملكون بيوتاً فخمة وسيارات ونقوداً كثيرة .. المفروض أنْ يكون الأثرياء أكثر دفاعاَ عن الوطن؛ لأنهم تنعّموا بخيراته… أليس كذلك يا أبي؟ “، إلا أَنَّ الجوابَ كان بحاجةٍ إلى تفكيكٍ لألغازِه فِي ظلِ مَا اكتنفه مِنْ غموضٍ أوقع الفتى السَماوي فِي حيرةٍ مِنْ أمره، حيث أجابه الحاج عباس بِمَا نصه : ” سيأتيك القوس بلا ثمن فاهتمْ بدروسـك! “. ولقد جاء القوس فعلاً، لكنه كان بأثمانٍ باهظة، وَليس مِنْ دُونِ ثمن كما اعتقد السَماوي. وَأنا أتأمل بعض تداعيات ” قوس ” السَماوي يحيى، لا أعرف كيف قفزت إلى خاطري إحدى رسائل الروائي وَالصحفي الفلسطيني غسان كنفاني ( 1936 – 1972 ) إلى الأديبةِ السورية غادة السمان، وَالَّتِي نصها ” ويبدو أنَ هناك رجالا.. لا يمكن قتلهم إلا من الداخل “.

أحدث المقالات