في البدء كانت الكلمة، ولا أظنها إلا قول كُـنْ، وللنون في تلك الكلمة أسرار لا يحيط بها الا قائلها.
فِي إحدى زوايا السماء دائمة الاتساع يولد ذلك النحيف المنير نونا تسمى هلالا خطت بالقلم وما يسطرون، فتسيل النُّون حبرا نحن كلماته، نحن أفعاله وأسماؤه وحروفه، بَعضُنَا معرّف وبعضنا نكرة، بَعضُنَا يجزم بحول وقوة السكون، والآخر يستثنى من كل خير فيكون منصوبا أو في محل نصب، وربما أُضيفُ لأدوات النصب المعروفة، المسبحةَ واللحيةَ ووسمَ الجبهة المصطنع وبعضا من ثيابٍ أنيقة وأجسامٍ رقيقة وشعراتٍ ناعمة رشيقة كأنها سرابٌ بقيعة يحسبه الظمآنُ ماء.
بَعضُنَا قد يُرفع محظوظا لموقعه لإنّ سجلَّ الزمان قد أكرمه، وآخر يُجر جرا الى ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يرها، وبعضنا يَسأل ويُسأل. وبعضنا متعجب مترقب كجملة لا محل لها من الأعراب.
نحن كلمات يقرؤها الزمان على الهلال فيزداد الهلال سمنة حتى إذا بلغ حد التخمة أصبح بدرا.
البدر والزمان صديقان، يتحدثان، يتحاوران، يتسامران، يتجادلان، فيتفقان أو يختلفان، واختلافهما هذا يحدث في نفس الموعد دائما، فيعيد البدر عطية الزمان أي كلماته، فيزداد البدر رشاقة فيرجع نونا كما ابتدأ أولَ خلقِه، فيشتاقُه صاحبُه فيقصُّ عليه بعضَ أخبارِنا ليرجعَ بدرا فتكتمل الدائرة التي لا تغادر أحدا.
الدائرة شاهدة صامته ترقبنا كعجوز افترشت عتبة دارها يعرفها حتى نمل الأرض، يجاورها فنجان قهوة ما نفد من ألف عام، تلف التبغ طفلا في قماطه، تدلله تلاعبه وتختمه بلسانها قبل أن ينام في مهد من قصدير قديم. عجوزنا هذه تعرف كل شيء فمذياعها الذي شاخ معها لا يفارقها فكأنهما توأمان سياميان، هو يتحدث وهي تشكل حلقات الدخان ولم يحدث أبداً أنّ أحداً قد سمع صوتها.
الدائرة مشهودة، كيف لا والكلُّ يربطُ بها أحداثَ حياتِه منذ يوم مولده الى مماته. وللنون حوادث وأخبار، تناقلتها الآثار والأسفار من مختلف الأقطار والامصار، أذكر منها قصة أحد عباد الله الأخيار، يونس الذي حمل النونَ حرفا وركبه حوتا وكان من المسبحين، فأرسله ربُّه الى مائة ألف أو يزيدون، الى مدينة ذات نونين – نينوى ـ جاورتها أخرى أصغر منها مقدار نون واحدة ـ نمرود ـ اٌرسل اليها إبراهيم، ومع تعاقب الدوائر ابتليت المدينتان بأصحاب رايات ريش الغراب الذين لم يقرؤوا السورة التي مطلعها نون الى قوله ” وإنك لعلى خلق عظيم ” فأحرقوا الأرض وأماتوا الزرع وأهلكوا الحرث والنسل، فنسفوا منارة بناها من باسمه نون ـ نور الدين زنكي ـ واغتصبوا بوابة نون آشور ـ نركال ـ التي يبكي تحت حطامها حَزَناً الثوران المجنحان اللذان حرساها من الجان منذ قديم الزمان فغلبهما شياطين الانس الذين طافوا يَسِمُون بيوتَ ملحِ الأرض وأصحابِها المسيحيين بنون خبيثة يستحي منها الهلال، باركها عدو جاثم في الشرق له أذرع أخطبوط، وآخرُ باتجاه بحر الروم ذو مُلكٍ مبسوط يخشى سورة الإسراء. ذاك مذياع جدتنا العجوز إن لم تصدق، فلا أظن أنّه قد تحدث بأنّ ريشة غراب قد وصلت يوما ديار ساسان وأبناء يعقوب.
أهي حرب على النون؟
مقبرة النون وأنبياؤها الأربعون يتساءلون ولا يجابون، وسؤالهم مبرر بسيط: لِمَ لَمْ تشملنا عنايةُ الباصات المضللة بالطائرات الشقراء التي تحمي راكبيها فلا يستطيع حتى الحسد من دخول حرمها العفن؟ سمع السؤال ذلك العارف الفقير بجلبابه المرقع وقلنسوة رأسه الأصلع فسكر من خمر السؤال، فالخمر ما خامر العقل، شرابا هواءا كلاما أو ألما، لا فرق فالمعنى واحد، وأخذ بالدوران حول ألمه حتى ذابت منه القدم، وأنشد يقول:
يا نزيف نون الهلال لا تحزن ولا تنتظر شهادة الحق ممن لا فمَ له، فالعدل استثناء والظلم في اغتناء وقد فاز من تخلى عن الصورة وتعلق بالمعنى ” سبحان ربك الأعلى “، فالنون في الميزان لم يكتمل رسمها ولم يحن أوانها، “فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا”.