( نداء أو ابتهال من أجل التأمل في أصول العنف ) .. هكذا يصنّف المفكر العراقي فالح عبد الجبار، كتابه (في الأحوال والأهوال) .. والكتاب يتكون من مبحثين
*معاينة تحولات الذات
*معاينة تحولات العالم
وهناك ملاحق تلي المبحثين، سيقتصر أشتغالي على المعاينة الأولى
(*)
في المعاينة الأولى يتناول المفكر فالح عبد الجبار: (انشطار وتمزق وتحول البنية الثقافية – الاجتماعية العربية في القرن العشرين )..أما في المعاينة الثانية فيكون الشغل، حول(انشطار وتمزق وتحول بنية العالم الحيط بنا) ثم يحاول المفكر عبد الجبار : تأثيل اتصالية تشارك بين المعاينتين فيتوصل الى اتصالية متباينة فهي مرة مضمرة وأخرى صريحة ..والسؤال السيسولوجي هنا هو : هل يقصد المفكر فالح عبد الجبار :إن تجميع العالم الذي يؤسسه المجتمع لابد أن يتم أيضا عبر اللغة باعتبارها رامزة، على وفق أداة توثر على ماهو خارج عنها، أي إن هذا التجميع يكون أيضاً، وعلى الأخص متجسدا ومنجزا داخل اللغة ذاتها – بشهادة الفيلسوف كورنيليوس كاستورياديس –
(*)
التطور بنسخته العربية يختزل الزمن الأوربي (فقد انضغطت هذه الانتقالات في أقل من قرن قياسا الى أوربا – عدة قرون – فباتت النظم المعرفية المعرفية المتعاقبة في الزمان متجاورة في المكان/ 17) هنا يتم حرق المراحل التاريخية، كما علمتنا المادية التاريخية. وهنا سيكابد المكان العربي كثيرا وتكون النتيجة (توترات وانشطارات وتشظيات متشعبة داخل البنية الاجتماعية – الثقافية ..) ومنها ينبثق سؤال أزمة الهوية : مَن نحن ؟ بتوقيت افتضاض عزلة الكيانات القبلية والطوائف القديمة والكيانات الحديثة المسماة : الدولة القومية .
من هنا يحق للروائي عبد الكريم العبيدي أن يصرخنا أجمعين (كم أكره القرن العشرين ) فهو قرن الحروب الكونية وغير الكونية والحروب الأهلية وإنقلابات بساطيل العسكر والمستعمرات المسلفنة جمهوريا. ومسالخ الديمقراطيات..
القرن العشرين : جسرٌ يمتد من الأمبراطوريات المقدسة الى حداثة الدولة المركزية ومنها الى الدولة القومية التي استبدلت المواطن المجرد بالرعية، مع الحفاظ على مفهوم المبايعة وتراجع مفهوم الانتخابات .
(*)
المفكر فالح عبد الجبار، ينضّد تراتبية حقلية خماسية لتوترات المعاينة الأولى المنشغلة بتحولات الذات : يرصد في الحقل الأول التوتر البنيوي الثقافي العام من حيث وجود(أنماط ثقافية، متعددة، متصادمة، متراكبة /23) وهذه الأنماط في أحتراب دؤوب من أجل صيانة القار ثقافيا، الراسخ في أنظمة السلوك الجمعي : ميثولوجيا/ اجتماعيا..بالمقابل هناك الحقل الثاني للتوتر المنشغل بمنتوجه الحداثي للثقافة وهو إنشغال مؤسساتي / ثقافي سيؤدي سيادة مطلقة للمؤسسة على حساب الفرد المثقف، المصاب بالتشظية والتجزئة ..أما الحقل الثالث فهو صعود الثقافات الدنيا، من خلال عنكبوت التقانة من جهة والمدعوم بمتغيرات المجتمع المؤدية التسارع الجمعي..وهنا نلاحظ أنّ عنكبوت التقانة أنهت مثنوية النخبة / الجماهير
وأوصلتنا إلى مجتمعية تداولية، الأفراد ليس رعايا بل مواطنين فعنكبوت التقانة نقلت الأقتصاد من العضلة الى المعرفيات .وبشهادة دانيال بيل (الدولة أصغر من تحل المشكلات الكبيرة وأكبر من أن تحل المشكلات الصغيرة)
أما الحقل الرابع فهو أرجحة الثقافة بين
تسليع السوق —————- أحتكار الدولة المؤدي إلى ——– مأسسة الثقافة الحديثة
هنا يتضاءل دور المثقف ويتشظى وأحيانا يتقهقر، فهذا التقسيم للعمل المعرفي يجسد جورا باهضا، وهكذا تتنامى وتتسع وتتعملق سلطة المعرفة المؤسساتية التي ستنتج ثقافات التسلية المرئية عبر الفضائيات كما ترتبط الثقافة ارتباط وثيقا بالسوق كبضاعة. وهناك الجانب الثاني من العملة ذاتها ..(أن صناعة المعلومات أو صناعة الثقافة، حسب اقتراح أدورنو وهابرماس : تشكل الآن القطاع الرابع الجديد، الذي تتجه إليه الرساميل وقوى العمل المتخصصة على نحو متزايد /58)
ومن أزمة الهوية العربية: يتشكل/ يتوتر ،الحقل الخامس: مَن نحن وإلى أين ؟..ويرى المفكر فالح عبد الجبار: أن هذا التوتر الخماسي متداخل ومترابط أوصلنا الى العنف الثقافي بين الأطراف الثقافية ..هنا يتوقف المفكر عبد الجبار عند مفهومين مترابطين فيما بينهما : مفهوم الثقافة ومفهوم المثقف . وينقل لنا المفكر عبد الجبار (160 مفهوما متباينا للثقافة / ص25) ثم يعيننا بمقترح مفهومي وهو كالتالي (..ثمة إمكانية لتعيين مفهومين للثقافة، الأول عام واسع، فكري – مادي أي يشمل المنتجات الفكرية والوسائط التكنولوجية، والثاني خاص، أضيق، يختص بمنتجات الفكر وحده ) ..
(*)
أتوقف عند الثقافة الأبجدية وهي التمرحل الثاني بعد الشفاهية التي تعد التمرحل الأول ومرحلة الأبجديات هي من أخصب المراحل المعرفية فهي (التي أنتجت الأديان الشاملة والفن والأدب والفلسفة/ 30) وفي هذا السياق يلتقط المفكر عبد الجبار فيلسوفا عظيما مثل هيغل الذي يرى في هذا النسق الثلاثي : الفن – الدين الفلسفة: تطور الروح المطلق عبرلحظات تطورية من الوجود المحض، إلى الجوهر، وصولا الى المفهوم ، ويرصد هيغل (تحول الروح عبر دين الفن عن صورة الجوهر ليدخل في صورة الذات، لأن دين الفن ينتج شكل الروح، فيضع هذا الدين إذا ً في داخله الفعل أو الوعي – الذات / 718- هيغل / فنومينولوجيا الروح )
: لكن أوربا نفسها سرعان ما خذلت : قمة الميتافيزيقيا الموضوعية هيغل ففي 1861 أنحسرت سعادة الفلسفة حتى موطنها ألمانيا..- بشهادة أريك هوبزباوم / ص448- عصر رأس المال . هيغل الذي أكتشف مثلث الديالكتيك في : جدل الفكر – جدل الطبيعة – جدل الإنسان، ولم ينتصر لهيغل سوى رأس البروليتاريا : كارل ماركس حين أعلن (إنني أعلن على الملأ أنني واحد من تلاميذ هذا المفكر العظيم / هوبز باوم)
(*)
ويرى المفكر فالح عبد الجبار أن لبنية الثقافة الأبجدية أبطالها( الشاعر، الفقيه، والفيلسوف) وأن التوتر في الثقافة الأبجدية يكشف عن بنية متفاعلة / متصادمة ولا فرق بين مصير سقراط ومعركة الغزالي / ابن رشد، وفي هذه اللحظة التاريخية يرى فالح عبد الجبار(لقد تحورت بنية الثقافة الأبجدية في تاريخ الرقعة العربية بانهيار حقلها العقلي، أو انتهاء النظر الفلسفي، وبقاء ما اصطلح عليه بالمعرفة النقلية: توقف النظر الفلسفي، توقف علم الكلام، زوال الصوفية الفلسفية، ) ثم يشخص السبب كالتالي ( لايرجع ذلك كما نعتقد، الى خصوصية جوهرية، لاعقلية في الثقافة العربية – الاسلامية الكلاسيكية، بل فرضية أخرى ترى في حروب الحضارات: دمار بغداد، (كدمارأثينا، بالنسبة للحضارة الاغريقية) زعزعة الاستقرار بفعل التعاقب المدمر للسلالات(غزوات القبائل البدوية)..
(*)
في حين يذكر المفكر فالح عبد الجبار، سقراط وابن رشد فهو يميز بين نظامين معرفين : الأول : نظام معرفي يقوم على قاعدة العقل البشري : سقرط .أما ابن رشد: فنظام معرفي يقوم على الوحي . نلاحظ أن المفكر عبد الجبار: لايجغرف المعرفيات. بل يشخصن هويتهما المعرفية : سقراط جهويا ينتسب للعقل البشري
أما ابن رشد فينتسب للوحي وهذا هو الانتساب العام، لكن ابن رشد مرحليا ينتسب لحقبة (العقل المستقيل في الإسلام ؟) أما حصر كل ماجرى للعقل العربي الإسلامي بسبب غزوات القبائل البدوية : فغير مقنع، وهنا أقترض من المفكر جورج طرابيشي وأقول (أن مأساة أفول العقلانية العربية هي مأساة داخلية، ومحكومة بآليات ذاتية، وغير قابلة للتعليل بأي،، حصان طروادة،، أيدلوجي أو ابستمولوجي متسلل من الخارج/ 424- جورج طرابيشي)…يتفق المفكر فالح عبد الجبار مع الذين سبقوه في هذا المضمار حول انهيار الحقل العقلي وانتهاء النظر الفلسفي وبقاء ما اصطلح عليه بالمعرفة النقلية: وتوقف النظر الفلسفي، وتوقف علم الكلام وزوال الصوفية الفلسفية، ان هذا الرصد الدقيق، أعنى هذا المتغير الفادح الذي يطلق عليه المفكر فالح عبد الجبار(تحورت بنية الثقافة الابجدية في تاريخ الرقعة العربية) سيطلق عليه المفكر طرابيشي:(تحول) وهو (تحول من إسلام الرسالة الى اسلام التاريخ، أي من الإسلام الذي كان الرسول بموجبه مشرّعا له، إلى الإسلام الذي صار الرسول بموجبه هو الشارع) والفرق بين الإسلامين أعني إسلام الرسالة وإسلام التاريخ، يكاد يقترب من القطع المعرفي فقد انتقل الاسلام نقلة لاهوتية يرى المفكر طرابيشي أن الإسلام انتقل (من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث).. وماجرى من غلبة إسلام الحديث ،هناك من يراها فيها رؤيته للصيرورة التاريخية التي هي (ليست وليدة الأحداث التاريخية المعزولة، بل وليدة نسيج حدثي واجتماعي،أي مسار تاريخي كامل/ 87- العفيف الأخضر- إصلاح الإسلام) وسب الانهيار العقلي الذي يرصده المفكر فالح عبد الجبار تراه قراءتي المنتجة : اتصالية تباين عقلي بين (عقل يتعقّل النصوص وعقل ٌ يُعقلن النصوص )..والمسافة شاسعة جدا بين العقلين
*فالح عبد الجبار/ في الأحوال والأهوال / دار الفرات / بيروت/ ط1/ 2008
*كورنيليوس كاستورياس/ تأسيس لمجتمع تخيليا/ ترجمة ماهر الشريف/ دار المدى /ط1/ 2004/ دمشق
*هيغل /فنومينولوجيا الرّوح/ ترجمة وتقديم د. ناجي العونلّي/ مركز دراسات الوحدة العربية/ ط1/ بيروت 2006
*جورج طرابيشي/ العقل المستقيل في الإسلام / دار الساقي/ بيروت – لندن / ط2/ 2011
*جورج طرابيشي/ من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث / نفس دار النشر/ ط 1/ 2010
*إريك هوبز باوم/ ترجمة .د. فايز الصباغ/ مركز دارسات الوحدة العربية/ عمان – الأردن/ ط1/ 2008
*العفيف الأخضر/ إصلاح الإسلام/ منشورات الجمل/ ط1/ بيروت