العيشُ مرٌّ والحياة أشدّ مرارة .. منذُ ثلاث سنين أعملُ في هذا الكشك المتنقل الصغير الضيّق ، يملكه / راضي / وهو شرقيّ جشعٌ يرتدي وجهاً ماكراً ، وجمع أموالاً طائلة بالغشّ والحيلة . لكنْ، لا يعنيني هو وسلوكُه واسلوبه في شيء ما دام لا يرمي في وجهي حجراً ولا يؤذيني . غدا الكشكُ بيتي اُحبّه أكثرَ من غرفتي التي تنطوي على جسدي وقت راحتي ، وعلى أسراري ، وتستقبلُ بعضَ أصدقائي عند الحاجة . صرتُ اُمضي داخل هذا الصندوق الخشبي أكثر من عشر ساعات في اليوم . سواء ٌ أكان الجوّ ماطراً أم صحواً أم عاصفاً يغشاه الثلج ، أم صيفاً حامياً أم شتاءً .. كلُّ سعادتي في العمل . وبرغم أنّ الكشك قميءٌ هزيلٌ الا أنه يدرّ على صاحبه ستة آلاف كرونة يومياً ولي منها ثلاثمئة وخمسون . أعرفُ أنّ الكبابَ الذي أبيعُ خليط ٌ من البطاطة والبصل والأصباغ واللحم الرديء ، يقوم بصنعه رجلٌ حريفٌ ماهرٌ غشّاشٌ من الطراز الأول . بيدَ أنّ كتلة اللحم الطويلة تبدو بعد الشواء ذا منظر جذّاب وطعم لذيذ يتهالك عليه الشبابُ والعجائزُ والسكارى وروّاد الليل : / مذاقه طيّب / هكذا تقولُ الطالبة ُ الجامعية .أمّا التشيلية المتسكعة التي تراها العيونُ مخمورة ً دوماً وتلوبُ في حنايا المدينة فتُرددُ في سعادة : / إنّه ألذُّ من الطعام الذي أطبخه أحياناً في البيت / لا أدري أهي تُجاملني أم تودّ التقرّب مني أم أنّها صادقة ؟ أمّا سعرُه فغال ٍ ، مع ذلك الإقبالُ عليه شديد ٌ .أحياناً أعمل حتي حلول الفجر واصادفُ أصنافاً من المشرّدين والسُّكارى وهم يترنّحون ويُغنّون ويشتمون ويتعاركون ، ثمّ يهدّهم التعبُ وينامون على المصاطب المنتشرة حول الساحة ، وأحياناً على البلاط .
أمّا اذا سألني رجالُ الصحة عن مُحتويات الكباب فأقول لهم : / أنا مُجرّدُ عامل ولستُ مسؤولاً عن نوع الكباب / وأظنّ أنّ / راضي / رتّبَ اموره معهم . لذلك يكون الكشكُ بمنأى عن موجات التفتيش الصحي التي تكدّرُ أوضاع الأكشاك والمطاعم المتنقلة الصغيرة . ولأني في حاجة الى المال ولديّ عائلة تحتاجني في بلدي فأني اتقاضي خمسة ً وثلاثين كرونة عن كلّ ساعة . ، بينما أجرُ أيّ عامل مثلي في مكان آخر لا يقلُّ عن سبعين كرونة . يُضافُ اليه العطبُ الجسدي والمرض وأيامُ العطل . وبرغم التعب والسهر وبعض ساعات الدراسة فأنا سعيدٌ ، ولسوف استقبلُ عروستي بعد أيام ويكون لي بيتٌ / عشٌّ آمنٌ يستقبلُ أصدقائي وضيوفي / وشاع خبرُ زواجي ، وفرح مَنْ يعرفني من الأحبة ، وقد تبرّع بعضهم بالعمل نيابة عني خلال اسبوع عُرسنا. وساعدوني في نقل متاع البيت الجديد … ما عدا / راضي / الذي صارت نظراتُه مُريبة يبتسمُ مثل افعوان . ثمّ حدستُ أنه يُبيّتُ لي أمراً حين تغيّر سلوكُه ، حتى نبراتُ صوته احتقنت . وعرفـتُ أنّه يُضمرُ لي شرّاً . وخشيتُ أنه سينصبُ لي شرَكاً ليُسهل عليه طردي . فيما زاد عددُ الشباب العاطلين ، يحومون حول الكشك مثل اسراب الذباب . وهم مستعدون للعمل بنصف أجري . فمتطلباتهم كثيرة لا تسدّ حاجاجتهم الشبابية الإضافية . صارت لهم صديقاتٌ ينبغي أن يصرفوا عليهن / الشربُ والسهر والسيجاير والطعام / فما تريدُ الفتاة من الصديق غير ذلك ؟ غبئذ ٍ أخشوشنَ سلوكُ وكلماتُ صاحب الكشك . لهجتُه قاسية خارج اطر آداب العمل .وكم حاولتُ أن أكظم غيظي وأكون حليماً . الّا أنّ تصرفه تجاوز الحدّ . وحين أقدّم له الحساب في اليوم الثاني يرميني بابتسامة ثعبانية . وتوقّعـتُ ما كان يُدبره لي سرّاً لإقصائي وطردي .واستغل غيابي اسبوعاً بمناسبة زواجي .لا أدري كيف انقضى الاسبوع ، فساعاتُ الفرح أشبهُ بفقاعات تطيرُ في الهواء ثمّ تنفجرُ أوتختفي .
بعد عودي الى العمل بيومين حدثَ ما كنتُ توقعتُه ، فأوعز الى أحد أعوانه ممنْ يعملُ معه في أحد مطاعمه بتنفيذ الخطة التي حبكها . كان هذا الرجلُ يدخل الى الكشك في أي وقت يشاءُ ويساعدني أحياناً . خرجتُ من الكشك للحديث مع صديق جاء يستشيرني في أمر ما ، وربّما كان ذلك مُدبّراً ، أثناء غيابي قطع الرجل كمية كبيرة من كتلة الكباب الواقفة على سيخ سميك على ارتفاع متر ورماها في برميل القمامة الكبير المُغطي . حين عدتُ الى الكشك غادرني على عجل . القيتُ نظرة حولي فلم الحظ شيئاً غير عادي . لكني فطنتُ الى نفاذ الكباب بعد ثلاث ساعات ، بينما كان الواردُ في الدخل أقل من المعتاد بألف كرونة أو أكثر . فليس من المعقول أن يسرقني ولا إخاله يتصرّفُ معي بخسّة . في الواحدة فجراً / وأنا أعيشُ في دوّامة من الفكر / أضربُ أخماساً في أسداس حضر / راضي / على غير عادته . ظهر مثل رجل بوليس . كان صديقُه يخالسنا النظرعن بُعد ، قلتُ مع نفسي : / تبّاً لك يا (…….) لقد وقعتَ في الشرك .وعرفتُ بعدئذ ٍ أنّ رجله هرّب كمية من اللحم وأخفاها في مكان ما . وقف الى جواري يحسب الدخل وبصوت لئيم خاطبني :/ هناك نقصٌ في حدود الف ومئتي كرونة / كان ينظرني بشراسة وغد ٍ لئيم تكادُ نظراتُه تخترقُ جلدي . احتدمتُ وفار دمي ، وعليّ أن أكتم صوتَ غضبي . قلتُ وأنا أنظرُ الى رجله المُتواطيء معه : / لمَ لا تسأله ؟ / اشرتُ بيدي تُجاهه . ردّ بحدّة : / ما دخله وأنت المسؤولُ عن كلّ شيْ / … / لقد خرجتُ لأحدّث صديقاً وقع في مشكلة ، حين عدتُ أحسستُ بنقص في كمية اللحم ، وكان غادرني بسرعة / قال بمكر : / ليس لديك دليلٌ ضدّه / عندئذ تخلخل توازني وصحتُ فيه : / منذ شهر اُحسُّ أنّك تُدبّرُ لي مكيدة ً، كلّ شيء فيك كان يشي بذلك ، نبراتُ صوتك ، سلوكك ، لهجتُك الشيطانية ، أعرفُ أنّك تُريدُ طردي ، لتُوظفَ أحد اؤلئك العاطلين وبنصف أجري . أنا أعرفُ الاعيبك أيّها النذل لذلك سأتركُ العمل فوراً / نزعتُ صدريتي ألقيتُها في وجهه . لكنّه أراد ان يُهديء غضبي وصُراخي قال :/ لا اريدُ أن تترك العمل ، سوف تبقى ، لكنّي سأقطع منك المبلغ الناقص / عاد اليّ شيءٌ من الهدوء ، وكان ردّي : / هذا قراري ، ذلك يعني أنك أثبتّ عليّ جريمة السرقة ، أنت رجلٌ قذرٌ ومحتالٌ ومتآمرٌ . كان ينبغي عليك أن تكون شجاعاً وتقول : / سأستغني عنك ، وهناك عمالٌ آخرون يعملون بنصف أجرك …… أسمعْ أيّها اللئيم ، لقد لجأت الى حيلة ساذجة لا تنطلي على أحد ، تفضّلْ معي / سحبتُه معي نحو برميل القمامة وفتحتُ غطاءه واريتُه اللحم المسروق الذي أخفاه ذلك النذل داخل كيس أسود سميك ، وليس في كشكنا مثل هذا الكيس ، لقد رأيتُ قبل أيام رزمة منه في صندوق سيارته ، لا أدري كيف فطنتُ للبرميل ، لعلّه اقربُ اليه من أيّ مكان ولا يخطر بالبال لإخفاء اللحم/ الا أنه جابهني بحدّة وكان يُريد دفع التهمة عنه وعن نفسه : / ربّما قمتَ أنت بذلك / .. / ولمَ أفعلُ ذلك ؟ مَنْ يريدُ تحمّلَ الخسارة ؟ اذهب اليه واسأله أو استدعي البوليس للتحقيق وسينالُ المُقصّر جزاءه ، أنا مستعد ، هيّا اطلبهم / عندئذ تخاذل وأطرق يُفكّر وكيس اللحم أمامنا . قلتُ بهدوء : / اذهب اليه ، شمّ رائحة يديه القذرتين / عند هذا الحدّ كان الختام ُ، اعطيتُ لهما / للنذلين / ظهري وتركتُهما الى غير ِرجعة نظيفاً ناصع الثياب والإهاب . وفي وسعي عاجلاً أم آجلاً أن أتحدّاه ، واُدخلَ اصابعي في عينيه دونما خوف ، وسأفعلُ ذلك ……..