18 ديسمبر، 2024 11:15 م

(ملامح المدن المؤجلة) لنوفل أبو رغيف

(ملامح المدن المؤجلة) لنوفل أبو رغيف

بشكل عام، يعتمد الشعراء على منهجين في اختيار قصائدهم بين دفتي كتاب يطلقون عليه ديوانا او مجموعة شعرية. المنهج الاول حينما يفكر الشاعر بطريقة ترابط السلسلة التي تتداخل حلقاتها. فيكون بين النص والنص علاقات تتصف بالاتساق والتماسك، تتداخل في فضاء عام مشترك. وهنا قد تولد فكرة الديوان في قدحة واحدة بصورة غائمة ملتبسة في البدء، ثم تتضح الارض تحت قدمي الرائي مع خطواته المتتالية. هذا المنهج يعتمد الكتاب كمشروع، بحيث تتوزع الرؤيا الى نصوص متشاكلة فنيا وفكريا. اما المنهج الثاني فيعمد فيه الكاتب الى تجميع نصوص متزامنة او متباعدة زمنياً بطريقة تنظر الى كل نص وكأنه عالم مكتفٍ بذاته ومنفصل عن بقية النصوص. من هذه الزاوية سنرى على أي المنهجين اعتمد الشاعر نوفل ابو رغيف في انتقاء نصوصه في كتابه الموسوم (ملامح المدن المؤجلة- ط1- بغداد-2008)، وهو السؤال الذي سنجيب عنه في ختام مقالتنا هذه.

معظم قصائد المجموعة (البالغ عددها خمس عشرة) قد اعتمدت عمود الشعر العربي كشكل. فيها السمة الغالبة: المنبرية: الموسيقى عالية النبر، و (الصوتية) تحاكي الاذن وتتقصى رضاها، وفضاء الالقاء حاضر في كل جملة او تركيب (قرئت قصيدة رغم هذا الخريف، ص123 في مهرجان المربد 1998).. في الاغلب الأعم لا تتيح القصائد المنبرية  فسحة للتأمل بحيث تكون الصور رهينة للوزن ومقيدة بالقافية. ورغم ان الشاعر حاول كسر الطوق عبر تقصي الصور المفاجئة واستثمار المجاز إلا انه مكتف لا يطير إلا بجناح واحد، خاصة انه اختار قصائد (موضوع) لا قصائد (ايحاء)، بمعنى ان الفحوى او المحتوى نافر بائن قرين بــ(اللافتة). ويزيد من هذا التصور وثوقا اختيار ابو رغيف لكلمات تخونها المعاصرة (مقترنة بزمن صحراوي) وكذلك وقوف الشاعر في موقف الفارس الذي يمتطي صهوة جواده، وهي زاوية نظر لا تنتمي الى العصر الحديث. يضاف الى ذلك ما في الكلمات من مألوفية في قصائد التفعيلة وتقصي التقفية المتتابعة التي تحيل الغنائية الى الايقاع والتقفية اكثر منها الى البوح الداخلي الحميم. سيفتقر النص في هذه الحالة الى قدرته على وضع قارئه في حالة (تأمل) أو (دهشة) تلك التي يلغيها التوقع لما يمكن ان يكون عليه البيت الشعري، لانها تمسه من سطحها الصوتي، ولا يستوقف القارئ شيء سوى سيل النغم، بحيث يحاصره من جهة المعنى الواضح ومن جهة الالفاظ في جرسها الموسيقي وتقيدها بالوزن، فتختفي الصورة الذهنية، او الحسية او البصرية إلا فيما ندر من القصائد.. مثل (تجليات مؤجلة- ص95) التي تغتني بالبوح الشفاف لو انها انتهت عند البيت: (سنكسرُ باب الصباح البعيـــــــد/ ونأتي فهذا المساءُ الأخير) لأن ما بعدها اجترار وتكرار، ولكونها قد وصلت الذروة التي لن تستطيع القصيدة الوصول اليها فيما سيلي من ابيات.

في (بيان هام- ص21) شكل نثري من ناحية الايحاء العام للنص مع اقترانه بالمباشرة والوضوح الى درجة المطالبة بمنح الوطن لنا في خاتمة النص. وفي قصيدة (في حضرة تموز آخر- ص27) نص عمودي بلغة من بين الكلمات المستخدمة فيها (جياد، الأصيلات خيلنا، خيل الحرب، اسرجتُ) والتي يتحجر فيها الوزن في قالب لا يتم فيه أي انتقال او تحوير. وفي (باتجاه الألق- ص39) اتسمت التفعيلة (او ما يطلق عليه الشعر الحر) بالوزن الراقص والتقفية المترادفة وبساطة التركيب اللغوي. في حين نعود الى العمود الشعري في قصيدة (في باب الامير- ص47).. ونذهب بعيدا في (جوازات- ص73) لما يشبه النبضات او النصوص القصار جدا..  وهكذا لا يستقر الشكل ويتنقل من نمط شعري الى اخر على امتداد المجموعة بكاملها.

ونعود لنسأل هل ان (ملامح المدن المؤجلة) لنوفل ابو رغيف يندرج ضمن (مشروع رؤيا) أم (تجميع قصائد؟). من خلال زاوية النظر، والمواضيع، والأشكال الفنية والأسلوبية المستخدمة في هذه المجموعة الشعرية يمكن القول انها تنتمي الى التجميع العشوائي لا الى المشروع الرؤيوي، مفتقرة الى ابسط مقومات الشعرية المعاصرة.

وهنا لي وقفة مع النقد:
يقع النقد في اربعة انماط عامة حينما يتناول بالقراءة شاعرا او كاتبا معاصرا للناقد. ثلاثة منها تعتمد بالتوالي على ما هو خارج فني- ادبي في القراءة: العلاقة الشخصية، الصلة الايدلوجية و المنفعة المتبادلة خاصة اذا كان الشاعر في موقع اداري او وظيفي يتيح للتملق منه فوائد لناقده. هؤلاء سيكونون ايجابيين في تناول الشعر والشاعر وسلبيين في علاقتهم بالموضوعية. سيركبهم الهوى وستطيع اللغةُ رغباتهم..

بعض القراءات النقدية تنجذب مقدما الى الشخص المنقود وموقعه قبل المادة الادبية. ونتيجة العلاقات والنفاق يتم تفخيم نتاج ما على حساب آخر، ويصبح الكذب (النقدي) والمبالغة وتضخيم الامور وتحريفها عن مسارها امرا طبيعيا. بحيث أن نتاجا عاديا يصعد الى مرتبة التجريب والتجديد، ويُهمل النتاج المتميز لا لشيء إلا لأن المصلحة اقتضت ذلك وليس الابداع. هنا يبرز دور المنهج الرابع في مقاربة النصوص، سواء في اكتشاف جمالياتها او بإلقاء الضوء على هناتها. والدرس الأكبر: علينا ان نحترم ذواتنا، وعلى ابداعيةُ الابداعِ ان تفرض نفسَها، ولتكفَّ الاقلامُ عن تحولها دكاكين.