لكل شيء بداية، تتبعها قمة، يليها زوال، وقديما قالوا دوام الحال من المحال. عندما ينطلق طائر من عشه باحثا عن رزقه فتلك بداية، فيطير فيعلو، وعندما يصل أعلى مبتغاه فتلك قمة، وكلُّ قمةٍ مصيرُها الى زوال مهما طال الزمن أو قَصُر، ولا أعتقد أنّ شيئا يغادر هذا الثالوث الأزلي، فالطائر شيء وحكم العرب للأندلس الذي دام ثمانية قرون شيء، والدولة العثمانية شيء، والاتحاد السوفيتي شيء، وحاسوبي القديم الذي تركته في بغداد شيء، والأركيلة شيء، وقهوة الصباح شيء وسبحان من هو شيء ليس كمثله شيء.
ربما يقول قائل بأن الأشياء تتطور وربما يتغير شكلها وتتنوع وظائفها فلا تكاد تشبه أصلَها وهذا أمرٌ لا جدالَ فيه، فشريط الأغاني الذي كنت أسمعه في طريقي الى مدينة الطب قرب باب المعظم تطور حتى اندثر فلا أجد له أثر وأنا في طريقي الى مستشفى آخر في مدينة اُخرى في بلد آخر، ولكن المبدأ واحد وإن تغيرت الأشكال والأحوال، الرحلة من البداية الى القمة التي يتبعها زوال.
والإنسان شيء، له بداية وإن اختلفت رواية الأديان الإبراهيمية عن الدارونية، فنظرية النشوء والتطور لدارون هي نظرية لا أكثر ولا أقل والأدلة التي أدرجها العالم في كتابه “في أصل الأنواع” عام ١٨٥٩ يستطيع أي باحث علمي أن يفندها بدقائق، ولا أرى سببا للمتعصبين لها الا ايمانهم بها الذي لا يختلف عن تعصب أتباع الديانات الإبراهيمية لنظرية الخلق، بل ربما التقت النظريتان بنظرة متسعة الزاوية، يقول الرب تعالى في العهد الأخير: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُون” وهذا بالضرورة يعني أن هناك اجناسا عاشت على الأرض قبل الأنسان المعاصر ربما كانت من فصيلة القردة العليا مرورا بالهومو هابيلس ثم الهومو إريكتس وانتهاءً بالشكل الحالي الذي تراه في المرآة صباح كل يوم والذي يسمى هومو سيبيان. ما علينا من هذا كله، فالقصد تبيان الرحلة الى القمة، وفي هذا يرى البروفيسور في قسم التاريخ في جامعة القدس يوفال نوح هراري في كتابه الذي أصدره العام الماضي بعنوان ترجمتُه الى “الانسان الاله ـ ملخص في تاريخ المستقبل” الصادر بالإنكليزية، أنّ للتطور الحاصل في القرن الحادي والعشرين في كل نواحي الحياة تأثيرات لا مجال لحصرها ولا يمكن إنكارها على تطور الانسان الحالي، فالتطور في مجال الطب على سبيل المثال سيدفع الإنسان الى تقوية حواسه السليمة أصلا بدلا من إصلاح المتضرر منها، والطب الحالي تمكن خلال أقل من خمسين عام فقط من رفع معدل حياة الانسان الى الضعف تقريبا، وتحديد الخارطة الجينية للإنسان سيقود المقتدرين ماديا للتخلص من الجينات الضارة المسببة للأمراض وربما طالت أعمارهم الى ١٥٠ سنة وسيصبح ضروريا زيادة عمر تقاعد الإنسان الى ١٢٠ سنة مثلا ومن الممكن أن يكبرك مديرك في العمل بقرن من الزمان! وربما أصبحت خارطتك الجينية مطلبا أساسيا عند التقدم الى وظيفة معينة، فإذا تقدم الى وظيفة شخصان متساويان بالدرجة العلمية والخبرة وكان احتمال إصابة أحدهما بجلطة دماغية أعلى من الآخر سيكون منطقيا أن ترجح كفة المتقدم ذي الخارطة الجينية الأفضل، وربما دفع ذلك القرار الشخص المرفوض أن يرفع دعوى قضائية مطالبا بالمساواة الجينية!
لا تستغرب يا صديقي فحتى الماضي القريب كانت فكرة الموبايل ضربا من الخيال أما الآن فبعد حمد الله والمرحوم ستيف جوبز تستطيع والدتي في بغداد أن ترى أحفادها على الهواء مباشرة.
قامت صحفية أمريكية مؤخرا بزيارة موقع تدريب للجيش الأمريكي، طُلبَ منها الرمي على أهداف متحركة على شكل صور لإرهابيين، وكفتاة لم تلمس سلاحا رشاشا من قبل كانت النتيجة متوقعة وهي الفشل الذريع. بعد ذلك ألبسوها خوذة بداخلها مجسات تسلط إشعاعا على مناطق معينة في الدماغ، تقول الصحفية: أحسست بصفاء غريب واختفت كل الأفكار التي تدور في رأسي وأصاب أطرافي خدر خفيف لم اعر له بالا، ماذا تتخيل النتيجة؟ أصابت الأهداف كلها بنسبة ١٠٠٪. ربما أصبح العزف على الآلات الموسيقية لا يتطلب دروسا وجهدا، كل ما عليك فعله أن تشتري الخوذة المخصصة للآلة الموسيقية التي تود العزف عليها من موقع أمازون الالكتروني.
يقول البروفيسور هراري أن المخلوقات عبارة عن معادلات حسابية لوغاريتمية ولكل مخلوق معادلته الخاصة والسر في تفوق الأنسان على بقية الكائنات هو تفوق معادلته اللوغاريتمية، بل أن لكل إنسان معادلته الخاصة يتفوق بها او يتأخر عن أقرانه، فكل الأحاسيس والمشاعر ما هي إلا إشارات عصبية ومواد كيميائية يفرزها الجسم في الأحوال المختلفة، وقد يسأل سائل بأن نفس الإشارات العصبية والمواد الكيميائية موجودة عند بقية الحيوانات وربما تفوقت الحيوانات على الإنسان فالحوت يستطيع ان يسمع صوت حوت آخر على بعد ١٠٠ كيلو متر ويملك الوطواط نظام رادار متطور على كثير من أنظمة الدفاع الجوي، فلماذا تفوق الإنسان؟ يعود السبب والكلام للبروفيسور هراري الى الثورة الفكرية التي حدثت قبل ٧٠ ألف عام والتي مهدت للثورة الزراعية قبل ١٠ الاف سنة فكانت المعرفة التراكمية التي توجها اختراع الكتابة.
وبما أن الثورة الحاصلة في مجال المعلومات لا حد لها ولا يمكن إيقافها، سيتعين على الإنسان أن يتعامل مع كم هائل من المعلومات يوميا عبر الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية التي تخللت معظم مفاصل الحياة، فالسيارات ذاتية القيادة هي حقيقة وليست حلما والثلاجة التي تتصل بمحل البقالة القريب تباع في الأسواق، ويستطيع موقع كوكل ان يتنبأ بوباء الأنفلونزا قبل النظام الصحي في بريطانيا بمعدل عشرة أيام عن طريق مراقبة الكلمات التي يدخلها الناس في هواتفهم وحواسيبهم الشخصية.
الاحتمالات بلا نهاية والمشككون في قابلية الذكاء الاصطناعي على الخلق والأبداع وقفوا مشدوهين وهم يستمعون الى سمفونية موسيقية قام بها حاسوب متطور ظنا منهم أنها للموسيقار العالمي باخ.
هل يستطيع الذكاء الاصطناعي كتابة قصة أو رواية؟ ربما علينا ان ننتظر.
ستصبح التجارب الانسانية والمشاعر لا أهمية لها في عالم تحكمه المعلومات والكلام للكاتب أيضا.
(سيري) التطبيق المعروف في أجهزة آيفون ربما سيبدأ بتكون علاقات مع تطبيقات اُخرى لأناس آخرين فحواسيبنا ستعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا وتحديد المواعيد وربما تحديد شريك الحياة المستقبلي سيكون طبقا لمعلومات جمعتها أجهزتنا الإلكترونية.
شعرت بالقلق وقليل من الخوف وأنا أقرا هذا الكتاب واحتجت ان اذكر نفسي أن هذا كلام فقط حتى وصلت الى الفقرة التي يدعوني فيها الكاتب الى الصمت والتوقف عن القراءة والتفكير لأقل من دقيقة، فوجدت انه من السهل جدا ان أتوقف عن القراءة ولكني لم أستطع إيقاف أي فكرة صغرت ام كبرت، ثم يبدأ الكتاب بسرد تجارب عن نجاح توقع أفكار أي شخص من خلال مراقبة تدفق المواد الكيميائية داخل الدماغ، فزاد القلق وكثر الخوف حتى تحول الى فزع عندما بدأ الكاتب حديثه عن تفوق المعادلات غير العضوية (الحاسوب) على المعادلات العضوية ( الانسان) في التعامل مع المعلومات وربما تمردت الحواسيب على سيدها عن طريق خلل بقصد أو من غير قصد ايذانا بما أراه القمة التي تترأس الثالوث الذي أوردته في بداية كلامي وما بعد القمة إلا زوال.
أفكار مجنونة ولكنها مبنية على عوامل وحقائق نعيشها يوميا، وربما سيكون عالمنا العربي في أمان من كل هذا ونحن نتربع بجدارة على المركز الأخير في سلم التطور بعد أن كانت مدن العرب حواضر للإنسانية يقصدها طلاب العلم من كل أقطار الدنيا.
أذكر أني كنت سمعت في محاضرة أن هناك جماعة كانت تسمى الأرأيتيون مشتقة من جملة: أرأيت لو؟ ربما عاشت في العصر العباسي كانوا يناقشون أفكارا ثائرة وصفوا على أثرها بالجنون من قبل العامة منها: أرأيت لو طار الأنسان في الفضاء فكيف له تحديد اتجاه القبلة؟ وغيرها كثير وهذا السؤال على بساطته وسذاجته يدل على استخدام المنطق في التحليل والبحث الفلسفي بين السبب والنتيجة وهذا يدل عندي على تفوق الفكري لتلك الجماعة المنسية التي ربما قلدها كاتبنا الذي حققت مبيعات كتبه ملايين الدولارات.
كم وددت لو ترجمت كتابيه: “الانسان: ملخص في تاريخ الإنسانية” و ” الانسان الاله: ملخص في تاريخ المستقبل” ولكنني بعد نقاش مع والدي نصحني بأن لا أفكر بهذا الأمر خصوصا بعد أن تنبأ الكتاب بظهور دين جديد تكون المعلومات فيه مقدسة وذات سلطة مطلقة، فالتهمة ستكون جاهزة وهي الالحاد والانكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة. ولم يكن الكاتب متعصبا لرأيه بل انه في نهاية كتابه تركني مع أسئلة ثلاثة: هل المخلوقات معادلات وما الحياة الا تعاملات للمعلومات؟
ما أكثر أهمية: الذكاء أم الوعي والشعور؟
ماذا سيحدث للأنظمة السياسية والمجتمعات عندما سيتحكم بها معادلات ذكية لا حيوية؟
عسى ان تكون رحلتكم بدايتها هانئة وقمتها صافية ونهايتها مطمئنة.