18 ديسمبر، 2024 11:56 ص

الرقص مزيج من الحزن والسعادة والخيانة والمعاناة واللقاء والوداع، إنه فتح للقلب، وتحرر للجسد، ومواجهة للعالم.

قبل أن يتعلم الرضع الكلام والمشي يتعلمون التمايل على إيقاع أصوات النقر أو الموسيقى، وينسجمون مع الألحان إلى حد التماهي الحسي والحركي مع كل نغمة، ونلحظ في أحيان كثيرة، كيف يوائم البعض منهم الحركة مع اللحن الذي يسمعه، فيحرك يديه ورجليه ورأسه تجاوبا مع أنغام الموسيقى المختلفة.

وهذا في حد ذاته يدل على أن الرقص ليس مجرد حركات عرضية، بل هو لغة تعبيرية غريزية، تولد معنا، وتعبّر عن مشاعرنا وتعبر إلى أحاسيسنا ووجداننا دون وعي إلى درجة أن الفلسفة اليونانية وصفت الرقص بتطهير للروح، ومن حيث لا ندري نخضع لسحر الأنغام الذي لا يقاوم، فتتحرر أجسادنا وتنعتق أفكارنا وعقولنا من الضغوط، في لحظات الدوران حول النفس والتجاوب مع لغة الجسد.

“الرغبة في الرقص مزروعة بعمق في النفس إلى درجة أننا نقوم بتحريك أقدامنا على الأنغام دون وعي”، هكذا قال الباحث الأيرلندي لورانس بارسونز، وله الحق في ما ذهب إليه، فكل إنسان راقص بطبعه، وفي الرقص نجد أنفسنا التي تتوه عنا في زحمة الحياة ومشكلاتها، ونسترجع روحنا المرحة، ونستعيد تشكيلة رائعة من المشاعر الإيجابية التي تصالحنا مع الواقع وتجعلنا نتقبله على شاكلته.

ومن يرقص أو يمتهن الرقص، يدرك الجمال المخفي والفرح الكامن في الرقص، الذي يجعلنا نتغلب على الأحزان ويُنقي مشاعرنا لنعيش الحياة بوجهها الإيجابي والمشرق.

ولو عدنا عدة عقود إلى الوراء، فإننا سندرك القيمة الحقيقية التي توليها الثقافات المختلفة لهذا الفن الروحي، الذي يحكي عن جوانب كثيرة من حياة الشعوب، ويجمع بين الموسيقى والحركة والتاريخ الثقافي والاجتماعي للحضارات.

الرقص أكثر من تعبير ذاتي عابر، لأنه رافق عملية تطور الإنسان عبر العصور، ويروي الكثير عن طرق تعامل الناس في ما بينهم، ويعكس نظرتهم إلى أنفسهم وللحياة معا. وقيمة الرقص في حياة البشر، تتعدى النظرة الشبقية لانحناءات الجسد وتعاريجه، لتعكس شكلا أكثر عمقا من أشكال التعبير الجمالي، الذي تجتمع فيه حركات الأجساد ونفحات العقول ونبضات القلوب.

الرقص مزيج من الحزن والسعادة والخيانة والمعاناة واللقاء والوداع، إنه فتح للقلب، وتحرر للجسد، ومواجهة للعالم. والمعاني العديدة للرقص يمكن تلمسها من خلال رقصات الشعوب الشهيرة، مثل الرقص الشرقي الذي يعود تاريخه إلى الحضارة الفرعونية، ورقصة الفالس المنتشرة في كامل أنحاء أوروبا ورقصة لافولتا التي تتضمن مستويات مذهلة من الحميمية، ورقصة البولكا البوهيمية الأصل والمفعمة بالحيوية، ورقصة التانغو التي عكست في بداية ظهورها هموم ومشاغل الطبقة الدنيا في الأرجنتين.

ولكن “إذا كنا غير مبالين بالرقص فإننا بلا شك فاشلون، ليس في تفهم الظاهرة السامية للحياة المادية فحسب، بل في تفهم الرمز السامي للحياة الروحية أيضا”، هكذا قال هنري هافلوك ألس، عالم النفس البريطاني، وتعبيره يكاد ينطبق على عالمنا العربي الذي اكتسب فيه الرقص سمعة سيئة، وألحق بفعل حراس الأخلاق الكثر بقائمة المحرمات التي أصبحت تخترق جميع ميادين حياتنا، وتنغّص علينا فسح المسرات التي نلوذ إليها كلما أطبقت علينا الدنيا، وكل ذلك باسم الدين والدين منها براء.

وهناك أكثر من علامة على أن عشق الناس “للرقص المفرح” بدأ يتلاشى، آمل ألا يكون الأمر كذلك.

نقلا عن العرب