خاص: كتبت- سماح عادل
“فاطمة مرنيسي” روائية وعالمة اجتماع وكاتبة نسوية مغربية، ولدت 1940 في فاس، وألحقها والدها في المدارس العربية الوطنية الخاصة التي أنشئت في ذلك الوقت، حتى لا يدرس أبناء الوطنيين في مدراس فرنسا المستعمرة، أكملت دراستها في الرباط ثم درست العلوم السياسية بجامعة “السوربون” في باريس ثم نالت شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع بجامعة “برانديس كنتاكي” أمريكا، ومنذ الثمانينات أصبحت أستاذة علم الاجتماع في جامعة “محمد الخامس” بالرباط.
إنتاجها الفكري..
اهتمت أعمال “فاطمة المرنيسي” بالدين الإسلامي والمرأة، وتحليل تطور الفكر الإسلامي والتغييرات الاجتماعية الحديثة، كما كانت ناشطة في المجتمع المدني حيث كافحت من أجل حقوق النساء وتحقيق المساواة، وقد أصدرت خمسة عشر كتابا، وحاضرت في جامعات ومنتديات فكرية عربية وغربية، وحازت على جوائز كبرى، وأسست جمعيات ونوادي ثقافية، ووفقا لتصنيف أجرته صحيفة “الغارديان” البريطانية بمناسبة اليوم العالمي 2011 أدرج اسم “فاطمة المرنيسي” ضمن لائحة المناضلات الـ100 الأوائل الأكثر تأثيرا في العالم.
ضد تأويلات الفقهاء..
تقول الباحثة التونسية “رجاء بن سلامة” عن “فاطمة المرنيسي”: “لم تكن تكتب أبحاثا أكاديمية تقرأ لتوضع على الرفوف، بل كانت تكتب لتتحدى فكرة سائدة متحجرة، كتبت ضد كذب المحَدثين وتأويلات الفقهاء في “الحريم السياسي: النبي والنساء” (1987)، وكتبت ضد أفكار الفطرة والماهية البيولوجية في “ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعية” (1987)، وكتبت ضد النسيان المنظم في “سلطانات منسيات: النساء رئيسات الدول في الإسلام” (1990)، وكتبت لتشرح أسباب الخوف من الحرية في “الخوف من الحداثة: الإسلام والديموقراطية” (1992) وكتبت لتبين استبداد فنتازمات الحريم في الغرب في “هل أنتم محصنون ضد الحريم” (1998). ربما تكون بعض أفكارها رافدا من روافد “النسوية الإسلامية” التي تفيد القضية النسوية نسبيا في الواقع، ولا تنتج، وفق رأينا، أطروحات مقنعة في البحث، لكن فكرها وحياتها لا يمكن أن يختزلا في هذا التيار. كانت شامخة باعتزازها بالثقافة المغربية”.
إعادة قراءة الواقع..
ورأى الباحث اليمني سعيد سالم الجريري، أستاذ الأدب العربي بالجامعة الهولندية، أن: “للمفكرة فاطمة المرنيسي مشروعها الفكري الذي أخلصت له جهدَها، حيث كانت أعمالا فكرية متصلة مع حركة النضال النسائي في بلدها بخاصة وفي الوطن العربي بعامة، وكانت المرنيسي متصلة مع جوهر المنجز الفكري والواقعي في الثقافة العربية الإسلامية في قضية المرأة وحقوقها السياسية والاجتماعية والإنسانية. وعلى رغم رصانة طرحها الفكري لم تكن مؤلفاتها بمنأى عن التلقي المستريب من السلطات السياسية والدينية والاجتماعية لما يتسم به منهجها من مواجهة لأيديولوجية التابوات المهيمنة. شخصيا كنت أجدني بعد قراءة كل كتاب من كتبها أعيد قراءة الواقع والتاريخ والمستقبل مستنيرا بخطواتها المضيئة”.
أميرة ثائرة..
ويصفها الروائي المغربي “الحبيب الدائم ربي”: “فاطمة المرنيسي لم تكن مجرد كاتبة أو عالمة اجتماع أو مناضلة فحسب، وإنما كانت أيضا أميرة ثائرة، بكل الإيحاءات والدلالات الممكنة. فإضافة إلى مزاياها المشهود لها بها كانت تحوز شموخ الأميرات، مظهرا ومخبرا. بعيدا عن البؤس الذي يخيم، عادة، على بعض مثقفينا وعلمائنا، وهو بؤس مبرر على أية حال. وفضلا عن جرأة الخطاب وشجاعته، كانت فاطمة رقيقة الحواشي أنيقة، بل وفي غاية اللباقة والتهذيب. إذ إنها كانت منصتة جيدة، وحين ترد على تعقيب أو استفسار تولي المقام التواصلي قيمة كبرى بالإعلاء من شأن السائل قبل معالجة السؤال بما يليق من تدقيق، وتلك خصال تليق بأميرة حقا”.
تفنيد الشريعة..
ويحلل الباحث “لؤي ماجد سلمان” كتاباتها يقول: “ركّزت صاحبة (الحريم السياسي) في أبحاثها ودراساتها على علاقة المرأة مع المجتمع من الناحية الاقتصادية، والعلاقة الزوجية التي لازالت مرتبطة إلى اليوم وفي كثير من المجتمعات بمفهوم الأب المضطهد للمرأة، ومفهوم الحجاب، والعمل بعيدا عن مفهوم اقتصاد الفرد لأن الاستغلال لم يكن حكرا على مجتمع المدينة الذي حاول استغلال حاجتها، بل يمكن التأكيد على الدور البائس الذي لعبته المرأة الريفية بشكل مجاني من غير أي مردود خاص بها لخدمة الرجل والعائلة والحيوان والطبيعة والعادات المتوارثة، مستخدمة منهجها التنويري والأفكار العلمية لتطهير النص الكلاسيكي وتقديمه برؤية معاصرة معتمدة على البحث والبرهنة وتقديم الدليل من المصدر ذاته الذي اعتمده البعض لتقييد الفكر، فكانت الأحاديث التي شككت بصحة بعضها أهم مصادر (المرنيسي) ناهيك عن (الشريعة) التي كانت تعتبرها المتهم الأول في الوضع المزري الذي عاشته المرأة العربية، سواء من ناحية المساواة بين المؤمنين “الرجل والأنثى” التي طرحتها العقيدة، وبين عدم المساواة بين الزوج وزوجته المؤمنة، وكيف تكون هذه المساواة بعد تأطير الأنثى ضمن مفاهيم العفة والجنس”.
ويضيف الباحث بخصوص موقفها من الأنظمة السياسية: “لم تبرّئ صاحبة “ما وراء الحجاب” الأنظمة السياسية والديمقراطيات المشوّهة التي أنتجتها تلك الأنواع من السلطة من مسؤولية تدهور النظم الاجتماعية والاقتصادية وزج المرأة في المجتمع كسلعة أو جارية مجردة من أية سلطات، خاضعة في الوقت ذاته لسلطة الذكر سواء داخل نطاق الأسرة أو خارجها والتي أنتجت بشكل طبيعي هوية ممسوخة للمرأة العربية وأظهرتها ككائن جنسي محتقر. لكن لا بد من الانتباه إلى أنها لم تحاول إقصاء الإسلام أو نفيه أو حتى اتهامه كما فعلت نظيراتها في حركات التحرر، بل حاولت ربط الحداثة بالتراث الإسلامي من خلال سبر النصوص الشرعية لتؤكد دفاع الإسلام عن المرأة وتنفي المفاهيم البائدة التي اتخذت من الأديان غطاء لإخضاع المرأة وفق مفاهيم سائدة: (الحرمة، الحجاب، التأثيم، ضلع الرجل الأعوج الضال)”.
مفهوم الحريم ليس شرقيا فقط..
يقول عنها الكاتب “يونس الوكيلي”: “وجدت المرنيسي في مفهوم الحريم وتشقيقاته (الحريم اللامرئي، الحريم السياسي…) ضالتها التي سمحت بقراءة وضع المرأة من داخل التراث نفسه وبشبكته المفهومية، فالكلمة تستعمل على نطاق واسع في التراث الديني الإسلامي، لتشير في العموم إلى ذلك الفضاء الداخلي الأنثوي الخاص المحظور على العموم، والذي لا يأخذ معناه إلا إن عرفنا أن مكانا آخر يقابله، ويحده بصرامة، هو المكان الخارجي المفتوح على كل الرجال ما عدا النساء. في نهاية التحليل إن الغرض من هذا التقسيم المشيّد في التاريخ هو إقصاء المرأة عن الفضاء العام، وهو التقسيم الذي نذرت المرنيسي قلمها أن تفتك به على مدى خمسين سنة من العمل العلمي الدؤوب، مشروع المرنيسي توجه نحو تدمير تلك الحدود التاريخية والذهنية الفاصلة. الأكثر من ذلك أن المرنيسي فاجأت الباحثين، حينما بينت في كتابها “شهرزاد ترحل إلى الغرب” أن مفهوم الحريم لا يصلح وحسب لقراءة التراث الإسلامي فقط، بل أيضا يفيد في قراءة تراث الفكر الغربي حول النساء. إن دونية المرأة إرث مشترك بين الشرق والغرب، وهكذا نجدها لم تخضع للقراءة الاستشراقية التبسيطية التي طالما ألصقت بالعرب والمسلمين كل سوء حول المرأة والجنس. ولم تتردد المرنيسي في إعلان نتائجها البحثية، فمفهوم الحريم في الغرب أشد احتقارا للمرأة من مفهوم الحريم في الشرق، فإذا كان الحريم في الشرق يحيل على واقع تاريخي ومتخيل للنساء قوة فيه، وأبعد ما يكون عن الشهوانية والفراغ والعري، فإنه في المخيال الغربي يحيل على نساء خاضعات ومستسلمات، مرتعا للهو، وهو ما تجسد في لوحات الرسامين الذي كانوا يستمتعون بخلق نساء سجينات، ناسجين رباطا لا مرئيا بين المتعة والاستعباد”.
الخوف من قوة المرأة الجنسية..
تقول “فاطمة المرنيسي” في مقالة لها بعنوان “الخوف من حياة المرأة الجنسية” على موقع الحوار المتمدن: “تتضمّن الثقافة الشعبية موقفا سلبياً إزاء الأنوثة، ويوصف حب رجل لامرأة عادة بأنه ضرب من الجنون، وحالة من حالات التهديم الذاتي.وهناك خطران يتهدّدان النظام الإسلامي: المشرك في الخارج والمرأة في الداخل: إنه لشيء باعث على السخرية أن تصل النظريتان الإسلامية والأوروبية إلى نفس الخلاصة، فالمرأة قوّة هدّامة للنظام الاجتماعي إما لكونها فعالة تبعا للإمام الغزالي أو سلبية في رأي فرويد. لقد أفرخ النظامان الاجتماعيان اللذان ينتمي إليهما كل من فرويد والغزالي أشكالا مختلفة من التوتر بين الهندسة الاجتماعية والحياة الجنسية. لقد هوجم الجنس مثلا في التجربة الفرويدية للغرب المسيحي وعدّ حقيرا لارتباطه بالحيوانية وحكم عليه بأنه مضادّ للحضارة، ولذا انقسم الفرد إلى شطرين متناقضين: الروح والجسد. إن انتصار الحضارة من هذا المنظور يعني ضمنيا انتصار الروح على الجسد، والفكر على الجنس. وقد نهجت المجتمعات الإسلامية نهجا مخالفا جدّا حيث لم تهاجم الحياة الجنسية ولم تحط من شأنها، ولكنها هاجمت المرأة كتجسيد ورمز للفوضى، إنها الفتنة، والمركز لما لا يمكن التحكم فيه، والتجسيد الحي لأخطار الجنس وطاقته الهدّامة بلا حدود”.
وتواصل “تختلف النظرية الإسلامية عن التسامي اختلافا جذريا عما نجده في التقليد الغربي المسيحي كما تصوّره النظرية الفرويدية في التحليل النفسي. فالحضارة لدى فرويد حرب ضدّ الجنس، والحضارة في النظرية الإسلامية نتيجة لإشباع الطاقة الجنسية، فليس العمل نتيجة للحرمان الجنسي، ولكنه نتيجة لممارسة جنسية مشبعة ومنظمة، إن العقل في رأي الغزالي هو أثمن هبة وهبها الله للبشر، وأفضل طريقة لاستخدامه هي البحث عن المعرفة. وبالنسبة لمؤمن مسلم تشكل المعرفة (العلم) أفضل عبادة يؤديها، ولكي يتمكّن من تسخير طاقاته لها عليه أن يتحكم في رغباته وأن لا تصرفه العناصر الخارجية أو الملذات الدنيوية عن غرضه. والمرأة مدعاة خطيرة للهو، ولذلك يجب استعمالها لتحقيق أهداف محدّدة تتلخص في تزويد الأمة الإسلامية بالذرية والنسل وإطفاء الرغبات التي توقدها الغريزة الجنسية، ولا يجب إطلاقا أن تغدو المرأة مثار عاطفة أو محط اهتمام مفرد لأن العاطفة والاهتمام يسخران لله وحده، ويتخذان شكل البحث عن المعرفة والتأمل والعبادة”.
وتؤكد “فاطمة المرنيسي” أن “ذلك يتناقض مع روح الرسالة الإسلامية التي تحث على المساواة بين المؤمنين كمساواة مطلقة بحيث أن الإسلام لا يميز، _مبدئيا _ بين المؤمنين إلا بدرجة تقواهم. إن هذا التصور سيتجسّد في التمييز بين الجنسين ومترتباته: الوصاية على الزواج الدور المهم الذي تلعبه الأم في حياة الطفل وهشاشة الروابط الزوجية (التي تشهد عليها مؤسسات كالطلاق وتعدّد الزوجات). ويمكن اعتبار الهندسة الاجتماعية في البلدان الإسلامية من خلال الأسرة وقوانينها، محاولة لضبط هذه القدرة الهدّامة لحياة المرأة الجنسية ووصاية عليها في نفس الوقت”.
ثورة الحريم..
في مقالة بعنوان”الجواري أو ثورة الحريم” على موقع الحوار المتمدن، تشير”فاطمة المرنيسي” إلى ثورة النساء في التاريخ الإسلامي تقول: “ومن ضمن الأحداث البالغة التأثير والمدروسة من طرف المؤرخين، ثورة الزوج التي حدثت خلال العصر العباسي سنة 255هـ ، لقد كانت تلك أول ثورة للعبيد في الإسلام، إلا أنه بإمكاننا القول بأن ثورة العبيد الأولى كانت ثورة النساء، أي الجواري اللائي انطلقن لمهاجمة الخلفاء قبل هذا التاريخ بكثير. والصعوبة الوحيدة تتمثل في تأريخ بداية الحدث، أيرتبط بالتعرف على اسم الخليفة الأول الذي ضعف أمام إغراء جاريته المغنية؟ أهو يزيد الثاني بن عبد الملك الذي تسلم الحكم سنة 101هـ ، والذي وضع زمامه بين يدي جاريته حبابة، حسب الطبري. أم هي الخيزران أم الخليفة العباسي المهدي الذي تولى الحكم سنة 578هـ ؟ لم تكتف هذه الأخيرة كحبابة بإغراء زوجها، ولكنها حملته على أن يقتسم معها الحكم، وبعد وفاته ظل تأثيرها قائما خلال فترة حكم ولديها الهادي وبعده هارون الرشيد. استحدثت سلطة الجواري على الخلفاء تغيرات لم تتوقعها الشريعة في مركز النظام، وعلاقة النساء بممثل الله على الأرض. وعلى عكس الزنوج الذين حاولوا الاستيلاء على الحكم من الخارج، فإن الجواري كن يقدن عملياتهن في قصر الخلافة ذاته، على فراش وفي قلب ذلك الذي يجعل منه القانون سيدا مطلقاً على الأرواح والأموال”.
ورغم ذلك فهي تكشف قسوة النساء حين تولين الحكم تقول:”ما إن حصلت النساء على السلطة حتى مارسن فظاعات لا يحسدهن الرجال عليها، معتمدات على نفس التبرير السياسي المقنع قبل اكتشاف الانتخاب، أي بالقوة الشرسة. وكما هو الشأن لدى الرجال، مارست النساء الاغتيال السياسي حين تدعو إليه الحاجة، معتمدات على وسائل أكثر قساوة، كالخنق أو دس السم عوض القتل بالسيف. ومن ثم، فإن الفرق بين ممارسة الرجال وممارسة النساء هنا، لا يتعدى التفاصيل التقنية”.
وعن نظام الجواري الذي كان سببا في صعود بعض النساء للحكم في الحضارة الإسلامية تبين:” إن أكثر الطرق تسلية لفهم ظاهرة الجواري، وكيف أن النساء لم يكتفين بالتحكم في الخلفاء فحسب، بل اقتسمن معهم الحكم في مجال إسلامي يخضع للتراتبية ويفرضها، هي اختراق حميمية الخلفاء الذين تعاقبوا في حياة الجاريات. وبإمكاننا أن ندرك حدود سلطة الجواري المرتبطة غالبا بمجال تحركهن، وبالتالي فإنه لا يمكن اعتبار أية واحدة من هؤلاء النساء اللائي أطلقن عملياتهن من الحريم إلى رئيسة دولة، سواء تعلق الأمر بأم المقتدر أو بصبح أو الخيزران. كان عليهن من أجل نيل هذا المنصب، أن يتجاوزن الحد الفاصل بين مجال النساء ومجال الرجال”.
توفيت الكاتبة “فاطمة المرنيسي” في عام 2015 عن عمر 75 .