18 نوفمبر، 2024 5:33 ص
Search
Close this search box.

القاص محمد السباهي في ( كوكب المسرات ) : شهادة جارحة .. تعدد التجنيس

القاص محمد السباهي في ( كوكب المسرات ) : شهادة جارحة .. تعدد التجنيس

في العنوان الفرعي لـكتاب القاص محمد سعدون السباهي (كوكب المسرات)* يرد: ” سيرة ذاتية من يوميات سجين “. لذا فإنه يقع ضمن سرد التجربة الشخصية، (للراوي/السباهي) ، عند دخوله السجن عن حادث سير ليلاً. (السباهي) في كتابه كان(الراوي) فعمد إلى تدوين مجريات وملابسات الحياة اليومية في السجن الذي كان يواجه الحياة  فيه ، لمغالبة النسيان في حياة القاع تلك. وذاكرة (الراوي) لا تتجه بخط مستقيم مع المكان- السجن، بل تعمد إلى استعادة الزمن سردياً بإقصاء المكان ،الراهن، والتوجه خارجه ، وبعد الهروب الاستذكاري يسعى إلى استحضار عقود عراقية كثيرة ، منها مرحلة السبعينيات وبعض مدنيتها ، و العودة ثانية إلى المكان ـ السجن، ملتاعاً على ما مضى. أدب المذكرات كتابات يتم فيها تدوين الأحداث التي جرت معنا وأثرت فينا ومحيطنا. أي أننا نستذكر ما جرى فيه من أحداث عامة – خاصة ، ومن ثم نكتبها. “لا نكتب في مذكراتنا ما نعيشه الآن فحسب، بل ما عشنها فيما مضى ، أو حتى التقاءنا بشخصيات كبيرة وصغيرة، أو مراحل مهمة من حياتنا ، أو وضع المجتمع الذي ننتمي إليه. ربما نقوم أحياناً بتدوين مذكرات شخص آخر بدلاً منه” (جان بولات). ذهب(السباهي) في توطئة كتابه إلى الشك في كل ما رأى وسمع وقرأ ، بسب قسوة ما عاشه وتعرض له في السجن و خارجه ، ولابد من ذكره ليكون شهادة موثقة قاسية وجارحة عن زمن كان فيه مسحوقاً ومراقباً ومهاناً وشاهداً على مراحل طويلة دامية مذلة في حياة العراقيين، طلقاء أو سجناء فيذكر في التوطئة:” أحقاً أنني رأيتُ كل الذي رأيته / وسمعتُ كل الذي سمعتُه / وقرأت كل الذي قرأته / خلال حقبة الرعاع الملعونين/ ومع هذا لم ينفجر قلبي/ ولم اصب بالجنون/ إذن يا لي مِـنْ…! “. أدب السيرة (جنس) يتميز بان مادته التجربة الحياتية والمرتبطة بالسيرة الشخصية، فللكاتب سيرته وتجاربه التي يروي فيها مراحل ما في حياته، وقد رواها(السباهي) بلغة أدبية تمتلك طاقة جمالية وتعبيرية عبر تشكلها وتوجهها  السردي، ومع حدتها الجارحة  والقاسية ، و ذات التوجه والمنحى  الذي يبدو(غرائبياً) لكثافة واقعية تفاصيله ، فالواقع العيني والمتحقق، قد لا يُصدق أو يبعث على الشك أحياناً،  في مدى واقعيته الفعلية. و(السباهي)  قدم اغلب الأشخاص المحيطين به والمرافقين له في جحيمه كـ (شياطين) زمانهم ومكانهم ، بكل آثامهم و أنانيتهم و أحقادهم وجرائمهم المخزية إنسانياً واجتماعياً و منافعهم واحتياجاتهم اليومية لاستمرار حياتهم ، عبر مشاكساتهم الكثيرة وعدوانيتهم التي ينطوون عليها في تلك الظروف القاسية، ويطلق على بعضهم صفة “الرعاع وهم مجموعة حاقدة” ، لكنهم  في ذات اللحظة يمارسون الدفاع ، عن حياتهم ورغباتهم الجامحة المشروعة منها أو الخسيسة ، بأية طريقة ومهما كان ثمنها و شكلها ، و(السباهي ) حكم ببعض الضدية على غالبيتهم ، بينما كان سلوكهم هذا انعكاس للبيئة القاهرة- الظالمة التي ترعرعوا فيها اجتماعياً. (السباهي) كان المراقب للجميع،عما يحيطه  ويحيطهم ، لذا روى براءة بعضهم والالتباسات التي وضعتهم في هذه (الجحيم)، وهذا الجانب يمكن أن يسهم في توسيع فرص التنويع، واللعب الفني- السردي على المنظورات الإدراكية، لكنه لم يسعَ للتعبير عن  مرونة التحرك بين المواقع المتبدلة للأصوات المتعددة للشخصيات المروي عنها، بل بقي هو (السارد الوحيد والعليم) في ذات التقنية السردية ، ولا” يتطلب فن محاكاة الواقع، المرتبط بالمكان والزمن ، هكذا نوع من الخطاب السردي ، كونه لصيق حدث يجعل قدرة التحكم بباطنية إشاراته وتضاربها ممكنة التحقق”( د.فاطمة المحسن). (السباهي) تناول أشياء عدة وكثيرة منها: معاينته بمرارة وغضب ولوعة ، واقع الإنسان العراقي وتعاسته في بلد لا حد لثرائه ، ويقارنه مع بلدان مرّ بها، وشاهدَ عن قرب وتجربة حياة ناسها اللائقة والمنظمة مع شحت مواردها!!. وماضيه الشخصي ومنه زواجه الفاشل الأول، عدم  البقاء في بولندا ورفضه الاقتران بفتاة بولندية ، ودموعها المتواصلة  يوم سفره ، ويتلمس حرارة مشاعرها بعد أكثر من عقدين على فراقها. و الأخرى اليوغسلافية التي يستنشق وهو في السجن رائحة ملابسها الخاصة. وبهذا وغيره من تفاصيل عامة- خاصة  كثيرة ، فأنه كان في سجنه ” يبحث عن الخلاص من ندم على أحداث حياتية ماضية لا يستطيع تغيرها، فالندم هو شعور أكثر تعقيداً، متخثر وبدائي. شعور سمته الرئيسية انه لا يمكن فعل شيء حياله إلى درجة لا يمكن معها إصلاحه”(جوليان بارنز/ الإحساس بالنهاية). العنوان الفرعي الثاني لـ(كوكب المسرات) هو(يوميات). (اليوميات) كتابة يمكن أن  ندون فيها الأحداث التي تترك أثراً ما فينا ، أو في محيطنا المعيش و ” تُوفر(اليوميات) معلومات حول مذكرات في السيرة الشخصية ، و تكتب بغرض النشر أو عدمه ، ويمكن أن تصبح مادة لاستخدامات الكاتب الخاصة ، وهناك (يوميات) كتبها بعض الكتاب مع مراعاة أن تنشر في نهاية المطاف للدفاع عن أنفسهم قبل أو بعد الوفاة، أو لمجرد  التجارة والربح وهي متنوعة ومتعددة للغاية ، وتشمل حتى الترميز للأحداث والتجارب اليومية – الشخصية، والاستكشافات الداخلية للإنسان من خلال الوجدان، للتعبير عن الذات ، والاشتباك الحميم مع أعمق المشاعر و الأفكار”. (شبكة الانترنت العالمية/ بتصرف). سنشخص بعض الإشكاليات والالتباسات التي وقع فيها (السباهي). فهو لم يُوَصّف “كوكب المسرات” بـ(الرواية) في العنونة بل “سيرة ذاتية من يوميات سجين” لكنه ذكر في الإهداء: “إلى زوجتي..واصغر الأبناء الشجاعَيْن اللذين بواسطتهما هربت مسودات فصول هذه (الرواية)”(ص3 ) ، ويكرر وصف كتابه بالـ(رواية ) في صفحات غيرها. كما انه ، يؤكد تنازل المشتكي رسمياً، وتسوية القضية بعد تسلمه سيارته ، والتي دهسه بها في الظلام بشكل غير مقصود ، تعويضاً  له عما لحقه من أضرار جسمانية بسيطة ، وفي المحاكمة لم يعبأ القاضي بذلك، فحكمه ، بالحبس البسيط لمدة( تسعة شهور) ، وفق المادة / 24 / مرور(ص 11 ) عندها بات نزيلاً في السجن . بعد محاولات استمرت أشهر لإعادة محاكمته، وعبر الرشاوى والتدخلات الخاصة و العامة ، جرى إعادة المحاكمة ، بعد أن تم  توثيق تنازل المشتكي قضائياً ، عن حقه الشخصي: “دخلت إلى بناية المحكمة ثانية، وكانت كما تركتها آخر مرة تركس في القذارة  والفوضى والرطوبة والبرد. وقفت طويلاً  في الرواق، مكبلاً ، و أدخن والقلق يتناهبني، فجأة خرج القاضي مهتاجاً ، ومن فوري بصقت السيجارة خلفي، لكنه شاهدني و قد مسكني بـ(الجرم المشهود)، فتسّمرَ أمامي وقد احتقن وجهه اللحيم وعوى: تدخن في رمضان !!. وداخل المحكمة !؟.يا لك من مستهتر!!.”(ص158 ). ومع تأكيدات محاميه حول طيبة القاضي وعدله وحياديته ، لكن (السباهي) يؤكد:” قلبي  يحدثني إنني مقبل على كارثة !!. ومثلما نمَ  لي قلبي العارف بطباع ضباع البشر..فقد (حزّمني) القاضي بـ(سنة كاملة) ، بدلاً عن (الـشهور التسعة) مدة محكومتي الأولى” !؟.(ص159- 160). فبات الحكم الجديد عليه (سنة كاملة). لكنه وخلال السرد المتسرع ينسى ذلك !!. فيذكر في يوم إطلاق سراحه: “سأستحم من دون منغصات ، واشرب قَدرَ ما  يحلو ليّ من الماء المُبرد، واقترب من زوجتي بعد اخصاء دام (تسعة شهور)”!!(ص 219).  متناسياً حكم القاضي الجديد ، والذي بات واقعاً ونافذ المفعول ولا جدال فيه. ويكرر حكمه بـ”تسعة شهور” في صفحات أخر .  تتألف كوكب المسرات من(17 ) فصلاً ضمن(229) صفحة من القطع المتوسط وبحرف طباعي صغير جداً، و في نهاية (كوكب المسرات) يورد السباهي الملاحظة التالية :” تاريخ كتابة النص من 10 / 8 /1997 إلى 8 /5 / 1999 ” وبهذا أطلق صفة (ثالثة)على كتابه. فهو أولاً: سيرة ذاتية ، و ثانيا: يوميات سجين، وثالثاً: نص. من هنا يحدث الإشكال والالتباس والتخلخل في العنونة. إذ جَنَّسَها بكل ما جاء أعلاه.دون أن يجنسها في العنوان بـالـ(رواية) ،مع أنه خصها بذلك في المتن مرات عدة.  فبصفتها (نصاً ) فهي تكوينات تعبيرية، تؤكد مبدأ التناص، في معنى تواشج التجارب التعبيرية، والأشكال النصية التي تتفاعل مع بعضها من أجل ولادة تجربة كتابية أدبية(جوليا كرستيفا). وهي (سيرة) جحيم عامة- خاصة من خلال التفاصيل الكثيرة الواردة فيها. وهي (يوميات) بما جاء فيها عن وقائع وتجارب شخصية حياتية ، وعن الواقع الاجتماعي العراقي ، و تضمينات من كتب تاريخية معروفة، واقتباسات من نظريات فنية وثقافية وجمالية، وفلسفات مادية ومثالية ،ووثائق،بعضها مسجل في رسائل وردت له في السجن من أصدقاء ، في مقدمتهم القاص والروائي الراحل “مهدي عيسى الصقر” الذي يعتذر عن زيارته، ويضيف:”أخي محمد.. آمل أن يكون لهذه المعاناة المؤقتة جانبها النافع فتطلع علينا، فيما بعد، بـأقاصيص رائعة. قلبي- الضعيف- معك. المخلص/ مهدي عيسى الصقر/ السبت: 12 نيسان1997.”(ص101 ). السباهي في (كوكبه) يستعيد كل شيء، طفولته، طبيعة الاهوار العراقية، و التي ولد وشب على حافاتها، قتل أخلاقي ، واغتيال سياسي ، أدباء شباب، لا شأن لهم بالسلطة ومغانمها وأرباحها، ويحلمون بتغير العالم عبر أفكارهم و قصصهم وقصائدهم وكتاباتهم. صنف آخر هم  أدباء وكتاب السلطة ، مهما كانت وأي لونٍ اتخذت. يبحثون دائماً وأبداً عن سيدٍ ما ، ليسيروا خلفه كـ(القطيع) ، ويبرروا ما يراه و يفعله ، خاصة في التسعينيات، و يستمتعوا بالعطايا والمنح  والهبات ، الملوثة بعذاب ولوعة وجوع ودماء العراقيين والعراقيات، وما أن تقلصت أو شحت حتى تفرّقوا بعيداً ، و باتوا يُروجون ويدّعونَ ويتصَرفون في بلدان أخرى بأنهم كانوا ( ضحايا)، لكنهم في الواقع يبحثون،دائماً، عن سيدٍ غير الذي كان، ليقدموا (خدماتهم) التي تعودوا عليها له !!. صداقات سمتها الوفاء والثقة والمساندة في أحلك الظروف و الأيام . الأسفار المتعددة ،غوايات النساء، مختلسون من الدرجات الوظيفية  الدنيا ، مهربو مخدرات وآثار وبشر ، شذوذ جنسي، زنى محارم، مزورو وثائق شخصية وشهادات جامعية عالية، حفلات وولائم الإعدامات الأسبوعية ، محاولات الهروب من السجن، الناجحة والفاشلة ، سقوط الإنسان تحت القسوة والتعذيب، انهيار الأحلام الشبابية والأمنيات الثورية من أجل العدالة الاجتماعية- الإنسانية ، تلك(اليوتوبيا) التي تسربت مكابداتها كالماء بين الأصابع ، بفعل الدكتاتوريات المتعاقبة ، تفسخ الأنظمة الشمولية وانهياراتها المدوية. تاريخ العراق والأحداث المريرة التي عصفت بشعبه على مدى عصور .لكن (السباهي) عاين  كل ما سرده في (كوكب المسرات)، عن هذا الجانب بصفته (يقين) ، متجاهلاً عيوب الذاكرة وعدم كفاية ودقة التوثيق. و يحيل ذلك إلى مفهوم (الذاكرة المتعددة) ، و (الماضي العام) هو المادة الأساسية في إحالاته ، وكان عليه إلا  يتعامل معه بإجحاف وانتقائية ، بل بحيادية بصفته (شاهد) ،”فالحقيقة الجزئية لا تأخذ مدلولها الحقيقي إلا من خلال مكانها في الكل،كذلك لا يمكن للكل أن يُعرَف إلا عبر معرفة الحقائق الجزئية كاملةً”- لوسيان غولدمان-. تمازج  السرد، الذي يعتمد غالباً (الفعل الماضي) ، مع (فوبيا) المكان والزمان، وما  يحدث فيهما ، يكشف عن القهر الاجتماعي السائد بضراوة خارج السجن، وتنعكس عليه بأشكال وأنواع حياة يومية رثة قاسية و شرسة، فالسجين والسجان في هذا (الكوكب)، الذي يصفه( السباهي) بـ(المسرات) سخريةً ، ومعهما القادم للزيارة، تتلبسهم مخاوف الوشايات والمعلومات غير الموثقة ، لكنها حقائق لا شك فيها لدى صاحب القرار. كتب القاص(السباهي) عن كل ما شاهده وعرفه وقرأه وتعلمه وسمعه وتعرض له في حياته ، ومنه دَرّسْ الراحل “الدكتور علي جواد الطاهر” ، وذكر في الصفحة(71) بعض ما ورد في رسالة خاصة بعثها- الدكتور الطاهر عام 1971- إليه:” الكتابة مسؤولية جسيمة ، وليست عملية تنجز للتسلية أو التفاخر الاجتماعي، أكتبْ كما تفكر أنتَ، وليس كما يريد الآخرون أن تفكر، وإلا انصرف إلى عملٍ آخر غير الكتابة “.
* دار آراس/ أربيل /2012 / الغلاف تصميم آراس كرم.

أحدث المقالات