التفكير الطوباوي الأعوج يتصور أن الأديان عليها أن لا تكون كما هي عليه الحال في جميع الأديان البشرية ومنذ الأزل , ويرى أن لابد من التوحد والتطابق بل والتخندق في آلية رؤيوية واحدة وحسب.
وفي هذا إقتراب يتنافى وطبائع الأمور وجوهر النواميس الكونية والقوانين البقائية التواصلية , المحكومة بالتفاعلات التنازعية أو التصارعية اللازمة لتوليد الطاقات الكفيلة بإدامة تيار الوجود وتجدد أمواج الحياة.
فالذين يتصورون أن الأديان عليها أن تخلو من المذاهب والمدارس والفرق والجماعات , يريدون القول بأن الحياة جامدة وراكدة , وينكرون تيار الوجود الجاري الجارف العنيف , وينطمرون في الخوالي والغوابر ويحسبون أنهم يعرفون , وأن المعرفة قد إنتهت عند هذا أو ذاك من الذين يتوهمون بمطلق معارفهم وعلومهم , بينما الحقائق تؤكد أن كل ما هو تحت الشمس يتجدد ويتبدل ويتطور , ويزداد وضوحا وإدراكا بتراكم التفاعلات الحية القائمة ما بين الموجودات كافة.
ولهذا فأن المذاهب وغيرها من الفرق والجماعات من الضرورات الحتمية الكفيلة بديمومة الدين أو الحزب أو العقيدة , لأنها توفر الظروف التنازعية والتصارعية اللازمة لإطلاق حالات التفاعل المتجدد مع الواقع الزماني والمكاني , أي أنها القلب النابض الذي يديم حياة الدين أو المعتقد.
ولا يوجد حزب أو إعتقاد أو دين أو جماعة تنشد البقاء والتواصل وتخلو من حالات إنشطارية تنازعية تديم حرارة كينونتها وتواصلها مع الأجيال , وإنتفاء هذه المفردات التناقضية في أية حالة إعتقادية يعني موتها وإنقراضها الأكيد.
وهذا ما يفسر إنتفاء آلاف الأديان والمعتقدات البشرية , التي كانت متوهجة في العصور البشرية السابقة , وأيضا يفسر ديمومة وقوة الأديان الأخرى , التي لا تزال تشكل المنظومة الإعتقادية الغالبة عند البشر , وإذا فقدت هذه المعتقدات قدراتها التنازعية الداخلية فأنها ستغيب وتنقرض.
فالقائلين بالجمود والتقوقع والتخندق يتقاطعون مع إرادة الحياة وقوانين البقاء الحيوي الفياض , الذي يتفاعل مع مفردات الحياة المتجددة , والمنطلقة بعنفوان الأفكار والإرادات الخلقية المتوثبة في رحلة الدوران والتبدل والرقاء الصيروراتي المطلق.
فجوهر الحياة عبارة عن سبيكة تنازعية تناقضية تصارعية ذات قدرات تحدٍ وآليات تجددٍ وإنطلاق , ولا يمكن لأية قوة مهما تصورت وإندحرد في الأجداث أن تقف سدا أو تكون مَصدا أمامها , لأنها ستنهار وتموت غرقا وتدوسها أقدام الأجيال المتواردة إلى نهر الحياة الدافق.
فهل سندرك ضرورات التفاعلات الإختلافية , ونؤمن بوجوب تأكيد الإختلافات , وتحرير الطاقات الإيجابية الصالحة للدنيا والدين , أم أننا سنبقى مغفلين ومندحرين في غياهب الجاهلين؟!!