26 نوفمبر، 2024 1:41 ص
Search
Close this search box.

هذا كعبٌ ببردته ، والحطيئة بجريرته ، والفرزدق بصرخته…!!

هذا كعبٌ ببردته ، والحطيئة بجريرته ، والفرزدق بصرخته…!!

الحجُّ إلى البيت الحرام : ساعدني النشامى الأصلاء حتى الدهشة والشهامة ، وغدر بي اللئام الهجناء حتى الغرابة والوضاعة لضعف بصري الشديد ، وتكالب الأمراض الخبيثة …!! خانوا الأمانة ، فكيف بأمانة الله والدين الحنيف ؟!!
قال الله عز وجل : ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) الأحزاب / 72.

والله المستعان على كلّ حال :
(فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ…..) آل عمران ( 159 – 160).

1 – هذا كعب بن زهير، وقصيدة البردة ( بانت سعادُ …) ، وقصّتها وقصّته ، وقد خلدته .
2 – الخليفة عمر بن الخطاب بين الحطيئة والزبرقان ، ومَن بينهما .
3 – الفرزدق بين يدي هشام ، وصرخته بالولاء للإمام (هذا الذي تعرف البطحاء وطأته) …!

تمتعوا بأروع قصص تاريخ الأدب العربي والإسلامي

1 – كعب بن زهير بحضرة الرسول الكريم (ص) ، و(بانت سعاد ) التي خلدته.
المقدمة : كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني ، وأمه كبشة السحيمية ، كنيته أبو المضرَّب شاعر مخضرم عاش في نجد عصرين مختلفين ،هما العصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام ، ولادته لم يحددها مؤرخو الأدب ، ولكن وفاته دوّنها الزركلي في (أعلامه) سنة (26 هـ / 645 م) ، وهو سليل عائلة موهوبة بالشعر والحكمة ، فأبوه زهير بن أبي سلمى ، وأخوه بجير وابنه عقبة وحفيده العوّام كلهم شعراء ، درّب الزهير ولديه على نظم الشعر وإجادته تماماً ، خالياً من كلً عيب وضعف حتى فاق كعبٌ الحطيئة في الشهرة ، فالرجل من الطبقة الرفيعة ، اشتهر في الجاهلية ، وهجا النبى ( ص) ، وشبّب بالنساء المسلمات ، فهدر الرسول دمه ، ومن ثمّ جاء مستأمناً ، فأمنه ، وأسلم على يديه ، فأنشد الشاعر لاميته الشهيرة (بانت سعاد) (21) ، التي طارت شهرتها عبر الآفاق والأزمان حتى يومنا التعبان ، خمسها الشعراء الكبار ، وشطروها ، وعارضوها ، وترجمها المترجمون الأكفاء في غربة الديار ، فتـُرجمت إلى الإيطالية ، ونشرها مترجمة إلى الفرنسية المستشرق ، (رينيه باسيه ) ، وعني بها ، وشرحها شرحا جيدا، صدره بترجمة كعب ، وهنالك ترجمات إلى الأنكليزية ، واللاتينية ، والألمانية .

وللامام أبي سعيد السكري ” شرح ديوان كعب ابن زهير” ، ولفؤاد البستاني ” كعب ابن زهير ” ، وكلاهما مطبوعان (22) ، وشرحها كثيرون من غيرالسكري ، منهم ابن دريد (933 م) ،والتبريزي (1109 م) ، وابن هشام (1360 م) ، والباجوري (1860م) ، وطبعت مراراً في أوربا والشرق ، منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي في ليدن ، وفي القرن التاسع عشر في هال وليبسيك وبرلين وباريس ، وفي مطلع القرن العشرين طبعته قسنطينة ، ثم بيروت سنة (1931 م) (23).

كعب وأخوه بجيرابنا زهير ، وموقفهما من النبي (ص) :

يذكر ثعلب في (مجالسه) خرج كعب وبجير ابنا زهيرٍبن أبي سلمى ” إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى بلغا أبرق العزاف فقال لبجير: الق هذا الرجل وأنا مقيم لك ها هنا فانظر ما يقول. قال: فقدم بجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع منه فاسلم، وبلغ ذلك كعباً فقال :

ألا أبلغا عني بجيراً رسالة *** على أي شيء ويب غيرك دلكا
على خلقٍ لم تلق أماً ولا أبا **** عليه ولم تدرك عليه أخا لكا

قال فبلغت أبياته رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه، وقال : ” من لقى منكم كعب بن زهيرٍ فليقتله ” . فكتب إليه بجير أخوه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمك. ويقول له : انج وما أرى أن تنفلت. ثم كتب إليه بعد ذلك يأمره أن يسلم ويقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول له : إنه من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، قبل منه رسول الله وأسقط ما كان قبل ذلك. فأسلم كعبٌ وقال القصيدة التي اعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها : ” بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ ” ، ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وكان مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه مكان المائدة من القوم ، حلقةً ثم حلقة ثم حلقة ، وهو في وسطهم، فيقبل على هؤلاء فيحدثهم، ثم على هؤلاء ثم هؤلاء ، فأقبل كعبٌ حتى دخل المسجد، فتخطى حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، الأمان. قال: ومن أنت؟ قال : كعب بن زهير. قال : أنت الذي تقول ، كيف قال يا أبا بكر؟ فأنشده حتى بلغ :

سقاك أبو بكر بكأسٍ روية *** وأنهلك المأمور منها وعلكا

فقال : ليس هكذا قلت يا رسول الله ، إنما قلت :

سقاك أبو بكرٍ بكاسٍ روية *** وأنهلك المأمون منها وعلـكا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” مأمونٌ والله ” ، وأنشده :
:
” بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ” ، حتى أتى على آخرها . ” (24)

ويذكر ابن كثير في (بدايته ونهايته ) رواية أخرى ، وعلى العموم الروايات عن سيرة الرسول (ص) ، وأحاديثه ، تـُمحّص كثيرا ، ويُبحث عن سندها ، وثقة رجالها ، فهي أقرب لواقع حالها، وإن اختلف بعض مضامينها، إليك ملخص ابن الكثير، وقارن : في موسم حج سنة ثمان هـ ، بقى أهل الطائف على شركهم من ذي القعدة حتى رمضان سنة تسع هـ ، ولمّا قدم رسول الله (ص) من منصرفه عن الطائف ، كتب بجير بن زهير ابن أبي سلمى إلى أخيه لابويه كعب بن زهير يخبره أن الرسول لا يقتل أحدا جاءه تائبا ، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الارض .
وكان كعب قد قال :

ألا بلغا عني بجيرا رسالة ***فويحك فيما قلت ويحك هل لكا
فبين لنا إن كنت لست بفاعل ٍ**** على أي شئٍ غير ذلك دلكا
على خلق لم ألف يوماًاً أباً له ***عليه وما تلقى عليه أبا لكا
فإن أنت لم تفعل فلست بآسف ٍ**** ولا قائل إما عثرت لعالكا
سقاك بها المأمون كأسا روية ** فأنهلك المأمون منها وعلكا

قال ابن إسحاق: وبعث بها إلى بجير، فلما أتت بجير أكره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده إياها، فقال رسول الله (ص) لما سمع (سقاك بها المأمون) : ” صدق وإنه لكذوب أنا المأمون ، ولما سمع (على خلق لم تلف أما ولا أبا … عليه) – كذا – قال : ” أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه ” .

قال ثم كتب بجير إلى كعب يقول له :

من مبلغ كعبا فهل لك في التي***** تلوم عليا باطلا وهي أحزم
إلى الله لا العزى ولا اللات وحده***فتنجو إذا كان النجاء وتسلم
لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت** من الناس إلا طاهر القلب مسلم
فدين زهير وهو لا شئ دينه * **** ودين أبي سلمى علي محرم

قال فلما بلغ كعب الكتاب ضاقت به الارض وأشفق على نفسه وأرجف به من كان في حاضره من عدوه ، وقالوا هو مقتول ، فلما لم يجد من شئ بدا قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله (ص) ، وذكر فيها خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه، ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة ، فغدا به إلى الرسول (ص) في صلاة الصبح فصلى معه ، ثم أشار له إلى الرسول ، فقال هذا رسول الله ، فقم إليه فاستأمنه ، فقام ، وجلس إليه ، ووضع يده في يده ، وكان الرسول لا يعرفه ، فقال : يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن جئتك به ؟ فقال الرسول ” نعم ” ، فقال إذا أنا يا رسول الله كعب بن زهير ، وثب عليه رجل من الانصار فقال : يا رسول الله، دعني وعدو الله أضرب عنقه ؟ فقال: دعه عنك فإنه جاء تائبا نازعا ” قال : فغضب كعب بن زهير على هذا الحي من الانصار لما صنع به صاحبهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير. (25)
وفي ( مجالس ثعلب ) عن موسى بن عقبة ، أنه قال : أنشد كعب رسول الله (ص) في مسجده بالمدينة (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول)
فلما بلغ :

إن الرسول لسيفٌ يستضاء به*****مهنَّذ من سيوف الله مسلول
في صحبةٍ من قريشٍ قال قائلهم ***ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاسٌ ولا كشف ***** لدى اللقاء ولا ميلٌ معازيل

أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحلق أن يسمعوا شعر كعب بن زهير (26)
، وورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه بردته حين أنشده القصيدة ، وقد نظم ذلك الصرصرى في بعض مدائحه ، وهكذا ذكر ذلك الحافظ أبو الحسن بن الاثير في الغابة، قال : وهى البردة التى عند الخلفاء . (27) ، وأن البردة النبوية بيعت في أيام المنصور الخليفة العباسي بأربعين ألف درهم ، وبقيت في خزائن بني العباس إلى أن وصل المغول . (28) ،
أمّا القصيدة البردة ، فهي لامية من البحر (البسيط) ،لا تتجاوز ( 58 ) بيتاً ، تقسم إلى ثلاثة أقسام : ما بين أبياتها (1 – 12) ، يطلّ بإطلالتها الغزلية المألوفة في عصره ، ويواصل مسيرته ، من خلال أبياته العشرين التالية (13 – 33) ، لوصف ناقته ، محبوبته الثانية ، ورفيقة صحرائه ، وليله ، وما تبقى منها ( 34 – 58)، يخصصها للاعتذار من النبي (ص) ، ومدحه ، ومدع المهاجرين ، وإليك منها ، ومنهلها :

بـانَتْ سُـعادُ فَـقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ *****مُـتَـيَّمٌ إثْـرَها لـم يُـفَدْ مَـكْبولُ
وَمَـا سُـعَادُ غَـداةَ البَيْن إِذْ رَحَلوا **إِلاّ أَغَـنُّ غضيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
هَـيْـفاءُ مُـقْبِلَةً عَـجْزاءُ مُـدْبِرَةً *** لا يُـشْتَكى قِـصَـــرٌ مِـنها ولا طُولُ
تَجْلُو عَوارِضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابْتَسَمَتْ ****كـأنَّـهُ مُـنْـهَلٌ بـالرَّاحِ مَـعْلُولُ
أكْـرِمْ بِـها خُـلَّةً لـوْ أنَّهاصَدَقَتْ ***مَـوْعودَها أَو ْلَوَ أَنَِّ النُّصْحَ مَقْبولُ
ولا تَـمَسَّكُ بـالعَهْدِ الـذي زَعَمْتْ ***** إلاَّ كَـما يُـمْسِكُ الـمـاءَ الـغَرابِيلُ
كـانَتْ مَـواعيدُ عُـرْقوبٍ لَها مَثَلا ****** ومـــا مَـواعِـيدُها إلاَّ الأبــاطيلُ
تَـمُرُّ مِـثْلَ عَسيبِ النَّخْلِ ذا خُصَلٍ ****** فـي غـارِزٍ لَـمْ تُـخَوِّنْهُ الأحاليلُ
تَـسْعَى الـوُشاةُ جَـنابَيْها وقَـوْلُهُمُ ***** إنَّـك يـا ابْـنَ أبـي سُلْمَى لَمَقْتولُ
فَـقُـلْتُ خَـلُّوا سَـبيلِي لاَ أبـالَكُمُ ****** فَـكُلُّ مـا قَـــــــدَّرَ الـرَّحْمنُ مَفْعولُ
كُـلُّ ابْـنِ أُنْثَى وإنْ طالَتْ سَلامَتُهُ ****** يَـوْماً عـلى آلَـةٍ حَـدْباءَ مَحْمولُ
أُنْـبِـئْتُ أنَّ رَسُـولَ اللهِ أَوْعَـدَني* ****** والـعَفْوُ عَـنْدَ رَسُـولِ اللهِ مَأْمُولُ
لا تَـأْخُذَنِّي بِـأَقْوالِ الـوُشاة ولَـمْ ***** أُذْنِـبْ وقَـدْ كَـثُرَتْ فِــــــيَّ الأقاويلُ
حَـتَّى وَضَـعْتُ يَـميني لا أُنازِعُهُ ******* فـي كَـفِّ ذِي نَـغَماتٍ قِيلُهُ القِيلُ
إنَّ الـرَّسُولَ لَـسَيْفٌ يُـسْتَضاءُ بِهِ ******* مُـهَنَّدٌ مِـنْ سُـيوفِ اللهِ مَـسْلُولُ (29)

ومما يستجاد لكعب :

و كنت أعجب من شيء لأعجبني***سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ****** فالنفس واحدة والهم منتشر
والمرء ما عاش ممدود له أمل ****لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر(30)

أدعك بعد مقطع من القصيدة الخالدة ، وأبيات القدر المحتوم ما بين غمضة عين وانتباهمها ، لأدخل إلى عالم الحطيئة ، وقاعدهُ الكاسي ، ووقوفه بين أيدي الخليفة الفاروق ، الرادع للسانه ، وحامي الناس من بذاءة هجائه !!

2 – الخليفة عمر بن الخطاب بين الحطيئة والزبرقان ، ومَن بينهما :

أزمعتُ يأساً مبيناً من نَوالكمُ ****ولا تَرى طارداً للحرِ كالياس ِ
دع المكارمَ لا ترْحلْ لبغيتها *** واْقعد فإنك أنتَ الطاعمُ الكاسي
من يفعلِ الخيرَ لا يعدم جوازيهُ** لا يذهبُ العرفُ بين الله والناسِ

هذه الأبيات قالها السيد الحطيئة في حق منكود الحظ (الزبرقان) ، ولكن السيد لم يعد سيداً ،عندما وضعه الخليفة الراشدي الثاني في (قعر مكرمة) لبذاءة لسانه ، فاستعطفه الشاعر (لأفراخ بذي مرخ) ، فاشترى منه الخليفة ذمة المسلمين ، على أن لا يعرض لأعراضهم من بعد ، فماذا حصل من بعد ؟!!
يروي الحصري القيرواني في (جمع جواهره ، وملح نوادره ) : ” إن الزبرقان بن بدر استعدى على الحطيئة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال : هجاني بقوله :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي

فقال عمر: ما أرى هذا هجاءً؛ وكان أعلم بذلك من كل أحد، ولكنه أراد درء الحدود بالشبهات. فقال الزبرقان: هذا حسان بن ثابت. فقال : علي بحسان، فأنشده الشعر. فقال: ما هجاه يا أمير المؤمنين ولكن سلح عليه ! فأحضر الحطيئة، وقال: هات الشفرة أقطع لسانه ؟ فاستشفع فيه فحبسه، فكتب إليه من الحبس :

ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخ **** زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر
غادرت كاسبهم في قعر مظلمةٍ***فاغفر هداك مليك الناس يا عمر

…………..
فبكى عمر وأحضره. فقال: قد والله يا أمير المؤمنين هجوت أبي وامرأتي وأمي. قال: وكيف ذلك ؟ قال قلت لأبي :

ولقد رأيتك في المنام فسؤتني *** وأبا بنيك فساءني في المجلس

وقلت لأمي :

تنحّي فاجلسي مني بعيداً *** أراح اللّه منك العالمينا
أغربالاً إذا استودعت سرّاً***وكانوناً على المتحدّثينا ” (31)

وقد مرّ عليك (بذي مرخ) ، وهو اسم لمكان ، و ( زغب الحواصل) ، كناية عن الجوع ، و (قعر مظلمة) ، مفهوم هو السجن ، و (أبا بنيكِ) يعني زوج أمه ! والحقيقة ، هجا أباه وعمه وخاله بالجملة ،بل يقذف نفسه كما يروي شعره البهيقي في ( محاسنه ومساوئه) ، وغيره :

لحاك الله ثم لحاك حقـّــاً ** * * أبــــاً ، ولحاك مــن عــم وخــالِ
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي** وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم؛ لا حياك ربي ****** وأبواب الســــفاهة والضلالِ (32)

وأراد هذا الهجّاء العجيب يوماً أن يهجو لمجرد الهجاء ، فحارت شفتاه مَن يختار؟! فولول ، وقال :

أبت شفتاي اليوم إلا تكلما *** بسوءٍ فما ادري لمن أنا قائله

ولم يصبر طويلاً حتى يرى إنساناً ليصب سخطه عليه ، فأردف البيت الأول ببيت شنيع ، ردّه على نفسه ، قائلاً :

أرى ليَ وجهاً قبّحَ اللّه خلقهُ *** ** فقبّحَ من وجهٍ وقبحَ حامله

ؤيقول ابن قتيبة في (شعره وشعرائه) : ” ودخل على عتيبة بن النهاس العجلي في عباءةٍ، فلم يعرفه عتيبة، ولم يسلم عليه، فقال: أعطني فقال له عتيبة: ما أنا في عملٍ فأعطيك من غدده، وما في مالي فضلٌ عن قومي، فانصرف الحطيئة ، فقال له رجل من قومه : عرضتنا للشر، هذا الحطيئة ! قال: ردوه، فردوه، فقال له عتيبة : إنك لم تسلم تسليم أهل الإسلام، ولا استأنست استئناس الجار، ولا رحبت ترحيب ابن العم، وكتمتنا نفسك كأنك كنت معتلاًّ! قال: هو ذاك ، قال: اجلس فلك عندنا ما تحب، فجلس، ثم سأله، من أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول :

ومَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرضِهِ *** يَفِرْهُ ومَنْ لا يَتَّق الشَّتْمَ يُشْتَمِ
يعني زهيراً ، قال : ثم من؟ قال : الذي يقول :

مَنْ يَسْأَلِ الناسَ يَحْرمُوهُ *** وسَائِلُ اللهِ لا يَخِيبُ

يعني عبيداً ، قال : ثم من؟ قال : أنا، قال عتيبة لغلامه: اذهب به إلى السوق فلا يشيرن إلى شيءٍ ولا يسومن به إلا اشتريته له، فانطلق به الغلام، فعرض عليه اليمنة والخز وبياض مصر والمروي، فلم يرد ذلك، وأشار إلى الأكيسة والكرابيس الغلاظ والعباء، فاشترى له منها بمائتي درهم ، واشترى له قطفاً، وأوقر له راحلةً من تمرٍ وراحلةً من بر، ثم قال له : حسبك، فقال له الغلام: إنه قد أمرني أن أبسط ، يدي لك بالنفقة ولا أجعل لك علةً، فقال: لا حاجة لقومي في أن تكون لهذا عليهم يدٌ أعظم من هذه ، فانصرف الغلام إلى عتيبة فأخبره بذلك، وقال الحطيئة:

سُئِلْتَ فلم تَبْخَلْ ولم تُعْطِ طائلاً ******* فَسِيَّانِ لا ذَمٌّ عليكَ ولا حَمْدُ
وأَنْتَ امْرُؤٌ لا الجُودُ منك سَجيَّةٌ *** فتُعْطِى وقد يُعْدِى على النَّائِل الوَجْدُ ” (33)

ومرّ عليك زهير بن أبي سلمى ، وكان الحطيئة راويته , وطرق سمعك عبيد بن الأبرص ، لا أدري ، وربما أنت معي لا تدري ، أيّ هجاء أقسى من هذه الأهاجي ؟! وأي قابلية على النقد والسخرية عند هذا الرجل الحطيئة ؟! …إنه مطبوع عليهما ، إضافة إلى موهبته الشعرية ، ولا يمكن أن تجتمع هذه الخصائل من شعر ٍ رائع ، ونقد لاذع ، إلاّ لدى االشعراء الكبار متعددي المواهب ، ولو وُظـِّفتْ هذه للصالح العام ، لتحوّلت صور الطغاة الكبار إلى صعاليك صغار ، ولكن الشاعر المقدام ! هجا نفسه ، وله الحق أن ينعتها بما يشاء ، بل سخر من أمه وأبيه ، وهذا أعق العقوق ، ولو من باب المزاح ، ورفع العتاب عن السابق والمسبوق ، وروى بعضهم ، سأل أمه : من أبوه؟ فخلطت عليه ، فغضب عليها وهجاها، ولحق بإخوته . من بني الأفقم ونزل عليهم في القرّية التي يسكنها بنو ذهل ، ويروي صاحب (الأغاني) عن الأصمعي خبر الحطيئة ، ومدحه لبني ذهل ليسترد ميراثه من الأفقم بقوله :

إن اليمامة خيرُ ساكنها *** أهل القريّة من بني ذهل
الضامنون لمال جارهم *****حتى يتم نواهض البقل
قومٌ إذا انتسبوا ففرعهمُ** فرعي وأثبت أصلهم أصلي

ويستطرد الأصمعي خبره قائلاً : فلم يعطوه شيئا فقال يهجوهم:

إن اليمامة شر ساكنها *** أهل القرية من بني ذهل (34)

أتيت بالمديح تعمداً ، لكي لا تتخيل أنّ الشاعر المسكين له وجه واحد ! ، وسأزيد منه ، المهم نتابع المتبوع ، أمّا ابن بدر الزبرقان ، فحاله حال المغدور بالبهتان ، من الحطيئة البطران ، معه ومع صاحب الإحسان ، الذي قوبل بالنكران ، ومن هنا يتجلـّى الفرق المبين بين دعبل الوجه الآخر للشعر العربي ، وهجائه لرموز السلطة والسلطان – كما دوّنـّا في بحوثنا عنه ، وسنكمّل المشوار- وبين الحطيئة وهجائه المقذع لأهله والخلان ، ويجب علينا أن نتفهم الزمان غير الزمان ! .
ولا أتركك عند هذا الحدّ المحدود ، بل – ربّما أزيدك – قد نعته عبد القادر البغدادي في (خزانة أدبه) ، أنه كان سفيهاً شريراً. ينتسب إلى القبائل، وكان إذا غضب على قبيلة انتمى إلى أخرى ، و قال عنه ابن الكلبي : كان الحطيئة مغموز النسب، وكان من أولاد الزنى الذين شرفوا (35) ، وهكذا ترى مَن يقذف الناس يُقذف حتى لو كان شاعراً ، ولك أنْ تعلم أيضاً ، كما أعلمنا أبو هلال العسكري في (ديوان معانيه ) العسكري ، لمّا ” خلى سبيله عمر، وأخذ عليه ألا يهجو أحداً، وجعل له ثلاثة آلاف درهم اشترى بها من أعراض المسلمين، فقال يذكر نهيه إياه عن الهجاء ويتأسف :

وأخذتَ اطرار الكلامِ فلم تدع ***** شتماً يضرُّ ولا مديحــاً ينفعُ
ومنعتني عِرضَ البخيل فَلم يخفْ ***شتمي وأصبح آمناً لا يجزعُ (36)

بقى علينا التعريف به ، فاسمه: جرول بن أوس بن مالك بن جؤية بن مخزوم من بني عبس من مضر ، فهو عدناني النسب ، كنيته أبو مليكة بالتصغير، وُلد من أمة اسمها الضراء ، مغموز النسب ، واختلف في تلقيبه بالحطيئة ، فذهب بعضهم لقصره وقربه من الأرض ، أو لدمامته ، وهذا هو الأصح على أغلب ظني ، ورماه الآخرون بالأتعس ، ربما للنيل منه لقباحة قوله ، وهو أحد فحول الشعراء ، متصرف في فنون الشعر : من مديح وهجاء للتكسب بين ترغيب وترهيب، وفخر، ونسيب ، للزهو واللهو ، ومن مديحه لآل شماس ، الذين كرّموه ، فقابلهم بالجميل لقوله الرائع الجميل ، الذي يستشهد به أبو العباس ثعلب في (قواعد شعره) – باب الأمر- :

أقلوا عليهم لا أبـــــــــــا لأبيكم **** من اللوم أو سُدوا المكان الذي سلوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا **** وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا (37)

قال ابن قتيبة : ” وكان الحطيئة راوية زهير ، وكان جاهلياً إسلامياً ، ولا أراه أسلم إلا بعد وفاة رسول الله (ص) ؛ لأني لم أجد له ذكراً فيمن وفد عليه من وفود العرب؛ غير أني وجدته في خلافة أبي بكر رضي الله عنه يقول :

أطعنا رسول الله إذ كان حاضراً**فيا لهفتي ما بال دين أبي بكر
أيورثها بكراً إذا مات بعده **** فتلك وبيت الله قاصمة الظهر

وقال ابن حجر في ” الإصابة ” : كان أسلم في عهد النبي (ص) ثم ارتد ثم أسر، وعاد إلى الإسلام . (38)
توفي سنة ( 59 هـ / 679 م ) ، عام ولادته في الجاهلية غير معروف ، وعند وفاته أوصى أنْ يحمل على أتان تذهب وتجيء به ، وهو يقول :

لا أحدٌ ألأمُ من حُطيّهْ *** هجا بنيه وهجا المُريّهْ
من لؤمه مات على فـُريّهْ

المُريّهْ تصغير المرأة ، والفريّهْ هي الأتان : أنثى الحمار ، ومع الإجلال للأستاذ الفاخوري ، يذكر هذا الشعر ، ووصية الشاعر دون ذكر المصدر ، وبلا تعليق ، الشعر من الرجز ، يوجد في (التذكرة الحمدونية ) ، لابن حمدون ، و(الأغاني ) للأصفهاني ، إذ يذكران الوصية وينسبان الشعرإليه (40) ، بينما البهيقي في (محاسنه ومساوئه ) ، يذكر وصيته ، ويقول بعد وفاته قال الشاعر فيه ، ولم يدوّن لنا اسمه (41) … ، أمّا أنا لا أميل لصحة الوصية المروية ، وأرى أنّ الشعر منتحل ، رمي به ، وليس له !! هذا ما يقوله عقلي ، ولا أدري ! والله الأعلم بما خفي وأعظم .

3 – الفرزدق بين يدي هشام ، وصرخته بالولاء للإمام :

أ – الشاعر الفرزدق :
لم يُقرن شاعران في تاريخ الأدب العربي ، كما قُرن جرير بالفرزدق ، فما ذُكر أحدهما إلا و رفرف الآخر بظلاله على الذاكرين المتذكرين ، ليقول : أنا هنا، أمّا لماذا سنلحق جرير بالفرزدق ، لأن الأخير أكبر سنّا ، وأطول عمراً في هذه الحياة ، فالفرزدق هو همام ( وقيل : غمّام) بن غالب بن صعصعة ، ولد بالبصرة ، وتوفي فيها بعد عمر مديد (20 هـ – 114 هـ / 641 م – 732م) – وستأتيك ترجمة جرير في الحلقة القادمة – ، كنية فرزدقنا أبو فراس ، ولقبه الفرزدق، ولقب به، لغلظة في وجهه ، كان أبوه من أشراف البصرة ووجهائها ، وكرمائها ، سليل أجداد من ذوي المآثر الحميدة بين العرب ، فهو ينتمي إلى مجاشع بن دارم من تميم (42)، فقد جمع بين زهوي النسب العريق ، والشعر الرقيق ، لذلك نراه يفخر على غريمه جرير قائلاً :
مِنّا الّذِي اخْتِيرَ الرّجالَ سَماحَةً *** وَخَيراً إذا هَبّ الرّياحُ الزّعَازِعُ
وَمِنّا الّذي أعْطَى الرّسُولُ عَطِيّةً *** *أُسارَى تَمِيمٍ، وَالعُيُونُ دَوَامِعُ
وَمِنّا خَطِيبٌ لا يُعابُ، وَحامِلٌ **** أغَرُّ إذا التَفّتْ عَلَيهِ المَــــجَامِعُ
وَمِنّا الّذي أحْيَا الوَئِيدَ وَغالِبٌ ***** وَعَمْروٌ وَمِنّــا حاجِبٌ وَالأقارِعُ
وَمِنّا الّذي قادَ الجِيادَ عَلى الوَجَا**** لنَجْرَانَ حَتى صَبّحَتها النّــزَائِعُ
أُولَئِكَ آبَائي، فَجِئْني بمِثْلِهِمْ ***** إذا جَمَعَتْنا يـــــــا جَرِيرُ المَجَامِعُ

ليس هذا فقط ، بل لمّا يروم هجاء جرير ، يذكّره بنسبه التميمي الوضيع ، ويلحق نفسه بنسبهم الرفيع ، وكان الأمر مألوفاً محقّاً في ذلك العصر ، رغم أن الإسلام نادى بالسواسية ، وعدم التفرقة ، ولكن الخلفاء قربوا الأقرباء ، والعرب الأصحاء ، والتنابز بين القبائل والشعراء ، اقرأ كيف يقذف الفرزدق جريراً بعد فخره في الأبيات السابقة :

يا ابن المراغة كيف تطلب دارما *** وأبوك بين حمارة وحمــــــار
وإذا كلاب بني المراغة ربّضت *** خطرت ورائي دارمي وجماري

دارم قوم الفرزدق ، باذخة المجد والشرف والعزّة ، وما جرير إلا بدوي من أعراب بني كليب التميميين الفقراء الرعاة ، ويتمادى في قسوته ،إذ يتعرض في البيت التالي إلى قريبات جرير اللواتي رعين ماشيته :

كم خالة لك يا جرير وعمة *** فدعاء قد حلبت عليّ عشاري

ولكن هل كان الرجل الفرزدق الشاعر على شاكلة أبائه وأجداده ؟ كلا – يا قارئي الكريم – فقد اتهم بالفسق والفجور ، مزواجا مطلاقاً ، بعيداً عن أخلاق باديته وأهله – سوى الخشونة والفظاظة – ، متقلباً في مواقفه صباح مساء ، نشبت بينه وبين جرير – شاركهما الأخطل التغلبي – معارك شعرية ، اتسمت بالهجاء والسخرية حتى قذف محصنات الطرف الآخر ، وبالمقابل الفخر بالنفس والقبيلة ،سميت بالنقائض ، وكانت معروفة بشكل أخف منذ العصر الجاهلي ، وخمدت جذواتها في صدر الإسلام ، لمحاربة الإسلام النزعة القبلية الجاهلية ، وأججت بشكل أعنف وأشد في العصر الأموي ، بدوافع تحريضية من قبل الخلفاء ، والأسباب سياسية وقبلية ، وتلاقفها الشعراء لإبراز مواهبهم ، ورفعة شأنهم ، وقوة نفوذهم السياسي والاجتماعي ، وتحصيل أرزاقهم ، وتنمية أموالهم ، وكان الفرزدق ينحت شعره بالصخر فخراً ، إذ يوظف فخامة اللفظ ، وصلابة النظم ، وعراقة الأصل ، وسعة الخيال ، وتوليد المعاني المبتكرة ، وترك لجرير أن يغرف من بحر ما يشاء من شعر مطبوع ، لين الإسلوب ، رقيق العبارة ، متعدد الأغراض ، ومال كثيرً للغزل والنسيب والتشبيب ، فطغى شعره سيرورة ، أمّا الأخطل ، فإضافة لمشاركتهما المدح والهجاء والنقائض ، أجاد في وصف الخمر والدن ، والندمان .

لقد مدح الفرزدق خلفاء بني أمية أمثال عبد الملك بن مروان ، وولديه الوليد وسليمان ، وعلى أعلب الظن لتقية تحميه ، وارتزاق يكفيه ، ولدفع شبهة لصقت فيه ، إذ كان أبوه من أصحاب الإمام علي (ع) المقربين ، ثم أنّ القصيدة الميمية في مدح الإمام السجاد ، والتي سنأتي عليها ، وهي محور بحثنا ،كان يجب أن يدفع ثمنها ، والرجل رجل دنيا ، لولا ميميته العليا ، مهما يكن ، قد غالى في مدحهم ، اقرأ كيف يخاطب سليمانهم :

أنت الذي نعت الكتاب لنا**في ناطق التوراة والزبرِ
كم كان من قسٍّ يخبرنا ****بخلافة المهدي أو حَبْرِ
إنا لنرجو أن تعيد لنا ***سنن الخلائف من بني فهر
عثمان إذ ظلموه وانتهكوا ***دمه صبيحة ليلة النحر

لم يمدحهم لكرم ، أو شجاعة ، أو سماحة …، بل جعلهم أحقّ الخلق بالخلافة ، وهم سيوف الله ، والقمر الذي يهتدى به …

ب – القصيدة الميمية الخالدة :

ولكن – والحق يقال – غسل كلّ أثامه ، وارتزاقه ، وتقلباته ، بقصيدته الخالدة الرائعة ، الجريئة التي صرخ فيها بوجه هشام بن عبد الملك ، عندما تجاهل الإمام زين العابدين السّجّاد علي بن الحسين (ع) ، ولكي نكون عادلين معتدلين في حكمنا حتى تطمئن القلوب،إليك مقتطفات من ثلاث روايات لتشكيل الصورة ،أولها رواية ابن خلكان في(وفياته) : ” وتنسب إليه مكرمة يرجى له بها الجنة، وهي أنه لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه، فطاف وجهد أن يصل إلى الحجر ليستلمه، فلم يقدر عليه لكثرة الزحام، فنصب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس، ومعه جماعة من أعيان أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وقد تقدم ذكره – وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً، فطاف بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلم، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق حاضراً فقال: أنا أعرفه، فقال الشامي: من هذا يا أبا فراس فقال :

 

هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ، **وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّــهِمُ *****هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهِرُ العَلَمُ
هذا ابنُ فاطمَةٍ، إنْ كُنْتَ جاهِلَهُ *****بِجَدّهِ أنْبِيَاءُ الله قَــدْ خُتِمُوا
وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِه **العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ
كِلْتا يَدَيْهِ غِيَـــــــاثٌ عَمَّ نَفعُهُمَا ***يُسْتَوْكَفانِ، وَلا يَعرُوهُما عَدَمُ
سَهْلُ الخَلِيقَةِ، لا تُخشى بَوَادِرُهُ،*يَزِينُهُ اثنانِ: حُسنُ الخَلقِ وَالشّيمُ
حَمّالُ أثقالِ أقوَامٍ ، إذا افتُدِحُـوا * حُلوُ الشّمائلِ، تَحلُو عندَهُ نَعَمُ
ما قال: لا قطُّ، إلاّ في تَشَـهُّدِهِ ***لَوْلا التّشَـــهّدُ كانَتْ لاءَهُ نَعَمُ
عَمَّ البَرِيّةَ بالإحسانِ، فانْقَشَعَــتْ ***الغَياهِبُ والإمْــلاقُ والعَـدَمُ
إذ رَأتْهُ قُرَيْـشٌ قال قائِلُهـا ****إلى مَكَــــارِمِ هذا يَنْتَهِي الكَـــرَمُ
يُغْضِي حَياءً، وَيُغضَى مـن مَهابَتِه ****فَمَا يُكَلَّمُ إلاّ حِيـــنَ يَبْتَسِمُ
بِكَفّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُــــهُ عَبِــقٌ ***من كَفّ أرْوَعَ، في عِرْنِينِهِ شــمَمُ
يَكادُ يُمْسِكُهُ عِرْفانَ رَاحَتِــهِ ******رُكْنُ الحَطِيمِ إذا ما جَــاءَ يَستَلِمُ
الله شَرّفَهُ قِدْمـاً، وَعَظّمَــهُ ******جَرَى بِذاكَ لَهُ فـــــي لَوْحِهِ القَلَــمُ
أيُّ الخَلائِقِ لَيْسَـــتْ في رِقَابِهِمُ ******لأوّلِيّةِ هَـــــذا ، أوْ لَــــهُ نِعـمُ
مَن يَشكُرِ الله يَشكُرْ أوّلِيّــــــةَ ذا ****فالدِّينُ مِــــن بَيتِ هذا نَالَهُ الأُمَـمُ
يُنمى إلى ذُرْوَةِ الدّينِ التي قَصُرَتْ*** عَنها الأكـفُّ، وعن إدراكِها القَدَمُ
مَنْ جَدُّهُ دان فَضْلُ الأنْبِياءِ لَـــهُ *******وَفَضْلُ أُمّتِهِ دانَـــتْ لَهُ الأُمَـمُ
مُشْتَقّةٌ مِنْ رَسُـــــــولِ الله نَبْعَتُهُ *****طَابَتْ مَغارِسُــهُ والخِيـمُ وَالشّيَمُ
يَنْشَقّ ثَوْبُ الدّجَى عن نورِ غرّتِهِ **كالشمس تَنجابُ عن إشرَاقِها الظُّلَمُ
من مَعشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ، وَبُغْضُهُـــمُ ****كُفْـــــرٌ، وَقُرْبُهُمُ مَنجىً وَمُعتَصَمُ
مُقَدَّمٌ بعــد ذِكْــــرِ الله ذِكْــــرُهُمُ ****فـــي كلّ بَدْءٍ، وَمَختــــومٌ بــه الكَلِمُ
إنْ عُدّ أهْلُ التّقَى كانوا أئِمّتَهمْ *أوْ قيل: «من خيرُ أهل الأرْض؟» قيل: هم
لا يَستَطيعُ جَوَادٌ بَعدَ جُودِهِــــــمُ ****وَلا يُدانِيهِمُ قَـــــوْمٌ، وَإنْ كَرُمُــــوا
هُمُ الغُيُوثُ، إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْ *****وَالأُسدُ أُسدُ الشّرَى، وَالبأسُ محتدمُ
لا يُنقِصُ العُسرُ بَسطاً من أكُفّهِمُ*****سِيّانِ ذلك : إن أثَرَوْا وَإنْ عَدِمُــوا
يُستدْفَعُ الشرُّ وَالبَلْوَى بحُبّهِـــــمُ *****وَيُسْتَرَبّ بِهِ الإحْسَــــانُ وَالنِّــــعَمُ

فلما سمع هشام هذه القصيدة غضب وحبس الفرزدق، وأنفذ له زين العابدين اثني عشر ألف درهم، فردها وقال : مدحته لله تعالى لا للعطاء، فقال : إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده ، فقبلها . ” (43).
أورد ابن خلكان قسماً من أبيات القصيدة، وأكملتها بحركاتها ، وصاحب (الأغاني) ، يواصل الخبر بقوله ” ” فحبسه هشام فقال الفرزدق – طويل :

أيحبسني بين المدينة والتي *** إليها قلوب الناس يهوي منيبها
يقلب رأسا لم يكن رأس سيد ***** وعينا له حولاء باد عيوبها

فبعث إليه هشام فأخرجه ، ووجه إليه علي بن الحسين عشرة آلاف درهم ،وقال : اعذر يا أبا فراس فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به ، فردها وقال : ما قلت ما كان إلا لله وما كنت لأرزأ عليه شيئا ، فقال له علي قد رأى الله مكانك فشكرك ولكنا أهل بيت إذا أنفذنا شيئا ما نرجع فيه ، فأقسم عليه فقبلها ” (44) ، أمّا المجلسي في (بحار أنواره) ، يضيف بعد الغضب الهشامي ” فغضب هشام ومنع جائزته وقال: ألا قلت فينا مثلها؟ قال: هات جدا كجده وأبا كأبيه واما كأمه حتى أقول فيكم مثلها، فحبسوه بعسفان بين مكة والمدينة فبلغ ذلك علي بن الحسين عليه السلام فبعث إليه باثني عشرألف درهم …” (45) ، ويكمل رواية صاحب (الأغاني) .
تساهل هشام مع الفرزدق ، وغض الطرف عن هيبة ، ومنزلة الإمام السجاد (ع) ، لم يكن عبثاً ، فمن يتتبع التاريخ العربي في العصرين الأموي والعباسي ، ويتأمل في حيثياته، ودقائق أموره ، يجد أنّ الأمويين بعد الطامة الكبرى في التاريخ الإسلامي- كما نعتها ابن الطقطقي في (فخريّه) – غداة عاشوراء على أرض كربلاء ، حسّوا بالخطيئة الكبرى التي اقترفوها بعد مقتل الإمام الحسين(ع) ، وحاولوا جاهدين تصحيح المسار ، فتنازل أو قتل غيلة معاوية الثاني ، فانتقلت الخلافة من معاوية وأصلابه إلى مروان بن الحكم وأولاده وأحفاده ، وظهر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز ، ولكن الجريمة الكبرى ، كانت أكبر بكثيرمن أنْ تنسى ، فزلزلت ثورات التوابين ، والمختار ، وابن الأشعث ، وزيد بن علي …الأرض من تحت أقدامهم حتى دكّت دولتهم ، ولكن حين طلّت الدولة العباسية ، لم تكن أرحم على العلويين من سالفتها الأموية ، لذلك ذهب الشعراء إلى قولهم :

والله ما فعلت أمية فيهمُ *** معشار ما فعلوا بنوا العباسِ
أرى أمية معذورين إنْ غدروا *** ولا أرى لبني العباسِ من عذرِ
يا ليت جور بني مروان دام لنا*** وليت عدل بني العباس في النار

والأهم من أبيات الشعر بكثير ، ما ذكره الجاحظ في ( النزاع والتخاصم) : إنّ المنصور أحضر محمد بن إبراهيم بن حسن ، وأقامه ، ثمّ بنى عليه إسطوانة ، وهو حي ، وتركه حتى مات جوعاً وعطشاً ، ثمّ قتل أكثر من معه من بني حسن . (46) ، ويؤكد هذا البطش الأصفهاني في (مقاتله) ، ويروي في (أغانيه) : لما جزع محمد النفس الزكية على وضعية أهله ، وأخذ يبكي ، فقال له عمه الحسن بن الحسن بن علي : أتبكي على بني أمية ، وأنت تريد ببني العباس ؟ ما تريد؟ فقال : والله يا عم ، لقد كنا نقمنا على بني أمية ما نقمنا ، فما بنو العباس إلاّ أقل خوفاً لله منهم ، إنّ الحجة على بني العباس لأوجب منها عليهم ، ولقد كانت للقوم أخلاق ومكارم ، وفواضل ليست لأبي جعفر …” (47) أنا لا أفضل ، ما دام العرش هو المفضل ، وإنَّ الملك لعقيم !!
ج – نبذة عن الإمام وهشام لتكملة موجز البحث بالتمام :

1 – الإمام السجاد ، زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) وكان يلقب بذي الثفنات ، لكثرة السجود ، يقول دعبل :
ديارعليٍّ والحسين وجعفر *** وحمزة والسجاد ذي الثفنات
كان معروفاً بالزهد والورع والعبادة والكرم والبلاغة ، والتأسيس لبناء شخصية المسلم المؤمن كأساس متين للدولة الإسلامية الحقيقية، فرض نفسه على الخلفاء الأمويين،ونال حفاوة رفيعة اجتماعية روحية غير مادية ، لأن الإمام كان يرفض هذه الحظوة المادية زهداً وترفعاً وعزة وعقيدة ، عند الخليفة عبد الملك بن مروان ، لمعرفة الأخير بمكانة وهيبة ومنزلة الإمام في نفوس المسلمين ، فقصيدة الفرزدق لم تولد من فراغ ، وموالاة فقط ، وإنما شخصية الإمام الروحية العظيمة هي التي أوحت للشاعر من لا وعيه ووعيه أن ينطق بهذه القصيدة التي خلدها التاريخ .
ولد الإمام في المدينة في الخامس من شعبان سنة 37 أو 38 هـ / 658 م ، عاش في عهد جده الإمام علي ثلاث سنوات ، إذ قتل سنة 40 هـ 661م ، وعند وفاة الإمام الحسن 50 هـ ، كان عمره ثلاث عشرة سنة ، وفي واقعة الطف (61 هـ / 681م) ثلاث وعشرين سنة ,و توفي في 25 محرم سنة (95 هـ / 714 م)عن سبع وخمسين سنة هجرية .

2 – هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، عاشر الخلفاء الأمويين ، ولد في دمشق ، في عهد خلافة أبيه عبد الملك ، وذلك سنة (71 هـ / 691م) ، وتوفي سنة (125 هـ / 743 م) ، تولّى الخلافة سنة (105 هـ – 125 هـ / 724 – 743 م) ، يعتبر من الخلفاء الأمويين الكبار ، لحزمه ، وسطوته ، ودهائه، حدثت في عهده ثورات عديدة للشيعة والخوارج والعلويين ، وآخرها ثورة زيد بن علي 122 هـ 740 م) ، واتسعت الدولة في عهده إلى أقصى خدود لدولة إسلامية في التاريخ …من حدود بواتيه الفرنسية حيث معركة بلاط الشهداء ، مرورا بناربونه البيزنطينية وحتى بلاد الهند والسند ، وتأججت في عهده نزعة العصبية القبلية المقيتة التي جرّت أذيالها حتى بدايات القرن الرابع الهجري بين المضريين واليمانيين ، وهذه القصيدة الفرزدقية الميمية ، ألقيت بوجه الهشام عندما كان ولياً للعهد ، قبل 95 هـ / 717م حيث وفاة الإمام السجاد .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(21) (الأعلام ) : الزركلي – – الأنترنيت – موافق للمطبوع – الموسوعة الشاملة .
(22) م . ن .
(23) (تاريخ الأدب العربي ) : حنا فاخوري – المطبعة البولسية – بيروت .
(24) (مجالس ثعلب) : أبو العباس ثعلب النحوي الكوفي – – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(25) (البداية والنهاية ) : الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي – تح علي شيري – الطبعة الاولى 1408 هـ 1988 م – دار احياء التراث العربي .
(26) (مجالس ثعلب) م. س .
(27) ( البداية والنهاية ) : ابن كثير – موقع اليعسوب – الموسوعة الشاملة.
(28)(خزانة الأدب ) : عبد القادر البغدادي – – تح عبد السلام محمد هارون – مكتبة
الخانجي بالقاهرة .
(29) (ثلاثية البردة بردة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم) : حسن حسين – ط1 1400 هـ – دار الكتب القطرية – الدوحة .
(30) (خزانة الأدب ) : – م . س .
(31) (جمع الجواهر في الملح والنوادر) : الحُصري القيرواني إبراهيم بن علي – ( – موقع الوراق – الموسوعة الشاملة .
(32) ( المحاسن والمساوئ ) :إبراهيم البيهقي – – الوراق – موقع الموسوعة الشاملة .
(33) (الشعر والشعراء) : ابن قتيبة الدينوري – 1 / 64 – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(34) (الأغاني) : أبو الفرج الأصفهاني – تح سمير جابر – ج – دار الفكر – بيروت . ) (خزانة الأدب) : – 408 – م . س .
(36) ( ديوان المعاني) : أبو هلال العسكري – – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(37) ( قواعد الشعر ) : ثعلب – – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(38) (خزانة الأدب) : م . س . والصفحات التي تليها لترجمة الحطيئة .
(39) (تاريخ الأدب العربي ) : – م . س .
(40) (التذكرة الحمدونية) : ابن حمدون – – الوراق – الموسوعة الشاملة. (الأغاني ) : ج – م . س .
(41) (المحاسن والمساوئ ) : م . س .
(42) (تاريخ الأدب العربي ) : حنا فافخوري – ص 283 – م . س .
(43) ( وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان) : أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان – تح إحسان عباس – ج6 – ص 95 – 97 – ط 0 – 1900 م – دار صادر – بيروت .
(44) (الأغاني ) : أبو فرج الأصفهاني – تح – سمير جابر – ج 15 – ص 317 – ط 2 – دار الفكر – بيروت .
(45) ( بحار الأنوار) : محمد باقر المجلسي – ج 46 – ص 127 – موقع مكتبة الشيعة.
(46) (النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم ) : الجاحظ- ص 74 ، وراجع (مقاتل الطالبيين ) : الأصفهاني – ص 178 – دار الأحياء – 1949م – القاهرة – تح السيد أحمر صفر .
(47) (الأغاني ) أبو الفرج الأصفهاني – ج11 ص 300 – دار الكتب .

 

أحدث المقالات