لمـّا كان الماء العذب والمالح كلاهما يتميزان بالصفاء، ولا يفرق بينهما الا المتذوق لهما، ولمـّا اختلطت الاُمور ببعضها وابتعدت الكلمات عن دلالاتها، كان من الحق ألّا تُكتمَ كلمةُ الحق، وفي سعينا الدؤوب لتبيان ما علق بأفهام الخلائق من علائق، رأيت أن أقول قولا في كلماتٍ ثلاث للفيلسوف الألماني كارل ماركس المتوفى في منفاه في لندن عام ١٨٨٣، كلماتٍ طالما استخدمت خارج سياقها على وزن الآية: “لا تقربوا الصلاة” من غير الإشارة الى ما قاله ماركس قبلها مباشرة ومن غير اعتبار للأوضاع الاقتصادية والسياسية التي قال مقولته ” الدين أفيون الشعوب” وهو يعيش آثارها. كان الباحثون عن الحقيقة قديما يجوبون الأرض ويضربون خيامهم على أطراف صحاري الخلق وعند حدود دروب الدنيا ليدلوا السالكين الى سبيل العروج الى الخالق “الحقيقة”، ولا أرى داعيا لهذا كله في وقتنا الحاضر، يكفيك مكتبة غنية أو اتصالا سريعا بشبكة الانترنت مع شاي أو قهوة حسب رغبتك وعلبة دخان إن كنت من المدخنين عافانا الله وإياكم من أضراره، والأهم من ذلك كله توفر صدق النية.
وردت عبارة ” الدين أفيون الشعوب” في كتابٍ لكارل ماركس في نقد فلسفة الحق عند هيكل، ولم ينشر الكتاب إلّا بعد وفاته وإن كانت مقدمته قد رأت طريقها الى النور في حياته إذ نشرت في الحوليات الألمانية الفرنسية عام ١٨٤٤، يقول ماركس: “الدين تنهيدة الإنسان المضطهد، وهو قلب العالم الذي لا قلب له، وهو الروح في الظروف التي لا روح لها، وأفيون الشعوب”. لماذا كلمة أفيون تحديداً؟
الأفيون كان ومازال يستخدم في تسكين الآلام وفي العمليات الجراحية التي تحتاج الى تخدير، ولكن مربط الفرس يكمن في شيوع استخدام الكلمة في عصر ماركس لاعتبارات سياسية بحته، إذ قامت حربان كبيرتان اصطلح على تسميتهما بحروب الأفيون.
قامت حرب الأفيون الاولى بين الصين وبريطانيا مع مشاركة رمزية من أمريكا بين عامي (١٨٤٠-١٨٤٢)، وتعود جذور الحرب الى قبل ذلك التاريخ، اذ قامت شركة الهند الشرقية البريطانية بتصدير أولى شحنات الافيون الى الصين قبل ذلك بكثير، فشاع الإدمان في الصين الأمر الذي دفع بالإمبراطور الصيني وقتها بوقف استيراده بل وحرق مخازن الافيون داخل الصين، وقال مخاطبا بريطانيا بأن إمبراطورية الصين السماوية لديها ما يكفي من بضائع ولا حاجة لنا ببضائع البرابرة، مما أدى الى انحسار تدفق الأموال الصينية وبالتالي الأضرار بمصالح الشركة البريطانية فكانت الحجة لشن الحرب ضد الصين هي “تطبيق مبدأ حرية التجارة” خصوصا وإن بريطانيا كانت قد انتصرت على نابليون وتعاظمت قوتها العسكرية وتحتاج الى أسواق جديدة لتسويق بضاعتها وللحصول على ما يديم ثورتها الصناعية. انتهت الحرب بعد مقاومة صينية بتوقيع معاهدة تجارية تسمح لبريطانيا وفرنسا بالتجارة “الحرة” مع الصين إضافة الى حق فرنسا بالتبشير المسيحي لشعب الصين البوذي. ولمّـا لم يرتفع حجم التبادل التجاري بين الصين وأوروبا كما هو متوقع شنت كل من بريطانيا وفرنسا حربا ثانية بين عامي (١٨٥٦-١٨٦٠)، وكانت الحجة هذه المرة “قيام السلطات الصينية بتفتيش سفينة بريطانية واعتقال بحارتها وإنزال علم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وقتل مبشر فرنسي” انتهت بحرق القصر الامبراطوري الذي كان من أعظم قصور العالم بعد نهب نفائسه ومن ثمّ توقيع معاهدة ثانية نصت على حرية التجارة وخصوصا تجارة الأفيون وحرية الملاحة والسماح بانتشار المسيحية في جميع أرجاء الصين، والتنازل عن بعض الأراضي الصينية لصالح بريطانيا وكانت النتيجة أن وصلت أعداد المدمنين في الصين التي لاحتها النسائم الغربية الى ١٢٠ مليون مدمن.
تلك باختصار قصة حروب الأفيون التي قال عنها فيكتو هوجو ما نصه:” دخلت العصابتان البريطانية والفرنسية كاتدرائية آسيا، أحدهما قام بالنهب والآخر قام بالحرق، وأحد هذين المنتصرين ملئ جيوبه والثاني ملئ صناديقه ورجعا الى أوروبا يدهم في يد بعض ضاحكين. إنّ الحكومات تتحول أحيانا الى لصوص ولكن الشعوب لا تفعل ذلك”.
إعلم يا صديقي أنْ لم يكن في نيتي أبدا أن تتحول مقالتي هذه الى درس في التاريخ ولكن للضرورة احكامَها، فاستعمال ماركس للأفيون عندي مطابق لاستعمال المواطن العراقي لتعبيرات مثل (انطفت الكهرباء وشغّل المولدة وانفتحت السيطرة وصعّد المي -الماءـ للتانكي- خزان الماءـ والحشد وداعش) وغيرها من الكلمات التي لم تكن معروفة في الماضي القريب، ولأنّ حروب الأفيون كانت الشغل الشاغل في المحيط الذي عاشه ماركس كان من الطبيعي أن تجد كلمة مثل الأفيون مكانا في كتاباته. أما الدين الذي قصده ماركس فهو المسيحية، إذ كان يشن حربا فكرية ضد الرأسمالية ومال الى آراء المتنورين من المسيحيين الذين كانوا يخالفون رجال الكنيسة المستأثرين بالأموال دون عوام الناس إضافة الى اعتقادهم بأن الأفكار الكنيسية تشل من عجلة التقدم. واختلفت الأقوال بين كونه ملحدا أو مسيحياً، فعلى الرغم أن كارل ماركس كان ينتمي لعائلة يهودية وكان جده حاخاما ألا إن والده ترك اليهودية واعتنق المسيحية بصيغتها البروتستانتية هربا من اضطهاد المسيحيين لليهود في اوروبا وتنقل ماركس بين ألمانيا وفرنسا وبلجيكا حتى منفاه في بريطانيا وكل هذه البلدان كانت مسيحية.
ومما تقدم يكون المعنى كالآتي: الأفكار المسيحية المعيقة لعجلة التقدم هي كالأفيون للشعوب الذي ترتاح اليه النفوس وتهرب اليه من واقعها. وناقل الكفر ليس بكافر.
إعلم يا صديقي أنّ انتشار استعمال الكلمات الثلاث تلك لوصف التخبط السياسي الذي يعيشه المسلمون في بلدانهم لا يصح أبدا، فكيف يكون الإسلام أفيوناً وهو الذي قام نبيه محمد بالثورة على كل المفاهيم السائدة قبله؟ وكيف يكون الإسلام أفيونا ومبدأ الثورة ضد الظلم بدأ منذ أيام علي وتبعه أبناءه وأحفاده من بعده؟ وقد أسهب مفكرنا الراحل على الوردي وغيره كثير في شرح ذلك عندما بيّن أنّ انتقال مبادئ الثورة الى الشعوب التي دخلها الإسلام كانت محركا لها إن وجدت ظلما من حكامهم الجدد. أقول قولي هذا وأنا على يقين من فساد تجار التدين الذين يشكلون الدين حسب أهوائهم.
وختاماً كان هذا ما وفقت لكتابته ورأينا صحيح يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب.