22 ديسمبر، 2024 5:29 م

تدمير “منارة الحدباء” بالموصل .. وجرائم “الإبادة الثقافية”

تدمير “منارة الحدباء” بالموصل .. وجرائم “الإبادة الثقافية”

كتبت – ابتهال علي :

على مدى التاريخ تنشب الحروب بين البشر والأمم، تحصد أرواحًا واموالاً وتمزق أوطانًا، ومعها تبيد تراث ومعالم ومواقع حضارية ملك لأجيال المستقبل. وتعاني منطقة الشرق الأوسط حاليًا من حملة شرسة لتدمير حواضر ومدن ومعالم كانت شواهد حية على تاريخها العريق.

وتناول مقال للكاتب البريطاني البارز “روبرت فيسك”، في صحيفة “الإندبندنت” البريطانية، جريمة  تدمير مسجد “النوري” ومنارته “الحدباء” في مدينة الموصل بالعراق خلال المرحلة الأخيرة من الحرب على تنظيم “داعش”.

المنارة الحدباء والإبادة الثقافية..

يستهل “فيسك” مقاله بالتأكيد على أن تدمير المدن والآثار والمواقع الأثرية يجسد الطبيعة البغيضة للصراع على مدى التاريخ، ويقرر أن تدمير مسجد “النوري” مثال جديد لما أطلق عليه “الإبادة الثقافية culturecide” التي اعتدنا عليها.

يقول “فيسك”: “بمرور السنوات فقدت المقدرة على إحصاء الكنوز الفنية والأثرية التي لا تقدر بثمن التي رأيتها بعيناي المجردة والآن صارت هباءًا”.

ويتابع “فيسك”: “قبل أربعة عشر عامًا، بينما كنت أنهب الأرض عبر شوارع مدينة الموصل لمعاينة الموقع، الذي قتلت فيه القوات الأميركية أبناء “صدام حسين”، لمحت المئذنة الحدباء لمسجد “النوري” الذي يحتضن من علياء المدينة القديمة منذ تشييده في القرن الثاني عشر، بأمر من “نور الدين محمود الزنكي”، البطل العربي الذي وحد العرب ضد الصليبيين”.

والآن اختفى المسجد في لمح البصر، بينما يتبادل تنظيم “داعش” وقوات التحالف الأميركية الإتهامات عن المسؤول عن تدميره.

مئذنة الجامع الأموي وآثار “تُدمر” وحرب سوريا..

يعود “روبرت فيسك” للوراء خمس أعوام ويتذكر أنه في عام 2012، مر بجوار مئذنة المسجد الأموي في  مدينة حلب السورية، التي تعود للقرن الثاني عشر، بينما كان في طريقه لقلعة حلب التاريخية  تحت وابل من الرصاص إبان الحرب السورية وذلك قبل عام من تدميرها، لتختفي من سماء حلب مئذنة الجامع الأموي وتعتصر لحسرة قلوب السوريين.

وكالعادة وجهت أصابع الإتهام لنظام الرئيس السوري “بشار الأسد”، الذي ألقى بالتهمة في وجه “جبهة النصرة” التابعة لتنظيم “القاعدة”، ويستدعي “روبرت فيسك” للذاكرة ما حل بموقع معبد “بل” والمسرح الروماني في مدينة تُدمر التاريخية في محافظة حمص  بوسط سوريا وتفجيره على يد تنظيم “داعش” وتحويله إلى ساحة لتنفيذ الإعدامات. وأشار إلى أنه زار آثار “تُدمر” مرات عدة خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضي، وعندما عاد للمنطقة عام 2016 أصابته الصدمة لتحولها إلى آطلال.

جسر “موستار” من المعماري العثماني “سنان” لحرب البوسنة..

يبحر الكاتب البريطاني في خريطة جرائم الإنسان ضد التراث الحضاري، مضيفًا أنه بعد اندلاع الحرب في “البوسنة والهرسك” عام 1992، سجلت عدسة كاميرته لحظة تدمير جسر “موستار” على نهر “نيرتفا” – أحد اهم المعالم التي شيدها العثمانيون في منطقة البلقان في القرن السادس عشر – تحت وابل من قذائف المدفعية الكرواتية في تشرين ثان/نوفمبر 1993.

لتدمر حرب البوسنة الجسر العتيق، الذي صمم وفقًا لمدرسة المعماري العثماني البارز “سنان” إبان حكم السلطان العثماني “سليمان القانوني”، بعد أن صمد أكثر من أربعة قرون، إلى جانب مساجد البوسنة الشهيرة التي يعود أغلبها إلى القرن السادس عشر.

“جسر على نهر درينا” وخطايا الحروب..

يصف الروائي اليوغوسلافي الشهير “إيفو أندريتش” في روايته الرائعة (جسر على نهر درينا) كيف تعلم الإنسان من الملائكة بناء الجسور، وكيف أن بناءها يعد من أعظم الإنجازات البشرية بعد بناء النوافير. ويعتبر “إيفو أندريتش” الروائي اليوغسلافي، صاحب جائزة “نوبل” للآداب في عام 1961، أن “أشد أنواع الخطايا هي أن يقف الإنسان عقبة أمام بقاء الجسور للأجيال القادمة”.

ويقرر الكاتب البريطاني “روبرت فيسك” حقيقة صادمة أن البشر اعتادوا على “أشد الخطايا”، وهي “الإبادة الثقافية”، لينحت لنا مصطلحًا جديدًا يصطف مع أخوته من مصطلحات “الإبادات” وهو “الإبادة الثقافية Culturecide”: أي تدمير المكتبات والأضرحة والقلاع والمساجد والكنائس، وهو ماكان عنوانًا لحرب “البوسنة ووالهرسك” وفي مأساة “كوسوفو” بألبانيا عام 1999، حينما دمر الصرب المساجد القديمة ورد عليهم أبناء “كوسوفو” بتدمير الكنائس، وهو ما تشهده المعالم الحضارية الهامة داخل العراق وسوريا في السنوات الأخيرة.

ويستعرض “روبرت فيسك” سوابق البشر التي لا تعد ولا تحصى فى سجل طويل من الجرائم ضد المواقع الثقافية، فمن يتذكر الآن تماثيل “بوذا” في “باميان” بأفغانستان التي قامت حركة “طالبان” على مدى 25 يومًا بتدمير التمثالين باستخدام الديناميت في آذار/مارس 2001 ؟.. ومن يبالي بقيام السلطات السعودية بتدمير العديد من المواقع والمعالم التاريخية التي تعود لظهورالإسلام وترتبط بالرسول، صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة وأسرته ؟.

“النخبة المثقفة النازية” وسرقة فنون عصر النهضة..

في الحرب العالمية الثانية، فقدت أوروبا المركز القديم لمدينة “روتردام” بهولندا وكاتدرائية “كوفنتري” والعديد من الكنائس التاريخية الهامة في بريطانيا وآثار عصر النهضة بإيطاليا وتمت تسوية مدينة “وارسو” عاصمة بولندا بالأرض، وكذلك دمرت الطائرات البريطانية “بازيليكات basilicas” تعود للعصور الوسطى بالمدن الألمانية. وشهدت المتاحف في جميع أنحاء أوروبا سرقات جماعية لفنون عصر النهضة على يد “النخبة المثقفة النازية”.

والأقسى ما قام به الألمان، إبان الحرب العالمية الأولى، عندما أحرقوا مكتبة وجامعة “لوفان” التي تعود للقرن الخامس عشر.

وعندما نعود للوراء أكثر، لا يمكننا إغفال أنقاض الكنائس والأديرة التي دُمرت في عهد الملك “هنري الثامن”، وكذلك قيام الرومان في العصور الوسطى بتحويل المدرجات الرومانية “Coliseum” لمحاجر، واستغلال العثمانين أحجار القلاع الصليبية في مدينة “بيروت” اللبنانية لإنشاء توسعات في الموانئ في أوائل القرن العشرين.

ولا يسع المرء إلا أن يتحسر على جريمة نهب آثار مدن الحضارات العراقية القديمة جنوب البلاد أو سرقة “متحف بغداد” على يد لصوص الآثار بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003.

البكاء على الأطلال..

يتساءل الكاتب البريطاني: “لماذا إذا كانت حياة إنسان ما أغلى من جميع المتاحف والجسور والقصور والآثار على وجه الأرض، نتباكى على حطام تماثيل “بوذا” أو تدمير المساجد والكنائس التاريخية والمكتبات القديمة ؟”.. فالأمم المتحدة عبر مؤسساتها وعلى رأسها منظمة “اليونسكو” تطلق بيانات الشجب والإدانة وتدعو للحفاظ على إرث الأجيال القادمة، لكن يجب أن نضع “الإبادة الثقافية” على قمة أولويات المجتمع البشري لمحاربتها مع كل أنواع “الإبادات” الآخرى.

الموت ودمار آثارنا الحضارية..

يستشهد الكاتب “روبرت فيسك” بمحاولة الصحافية والروائية الكرواتية “سلافينكا دراكوليتش Slavenka Drakulic” حل هذه المعضلة في تعليقها على تدمير جيش بلادها لجسر “موستار” في حرب “البوسنة والهرسك”، عندما قالت: “الموت حقيقة متوقعة للناس جميعًا، فمآلنا الموت فى النهاية، لكن تدمير أثر حضاري يعد قصة آخرى.. ولقد تم تشييد الجسر، بكل جماله وبهائه ليتفوق على البشر، فهو محاولة لاحتضان معنى الأبدية والخلود وهو ثمرة لكل من الإبداع الفردي والخبرة الجماعية تتجاوز مصيرنا كبشر”.

وتضيف: “لم يتبق شيء جديد من الجرائم ضد الإنسان يمكن أن يراود المخيلة البشرية بعد التطهير العرقي وجرائم الاغتصاب الجماعي ومعسكرات الاعتقال”.

ويلمح الكاتب البريطاني إلى أن تدمير المئذنة “الحدباء” لمسجد الموصل كانت في أقدس ليلة لدى المسلمين أجمع، وفقًا للتقويم الهجري، وهي ليلة القدر التي نزل يها القرآن الكريم على الرسول – صلى الله عليه وسلم – بما يتضمنه من آيات الخلود والحساب بعد الموت.

قد يختلف القاريء العربي مع “روبرت فيسك” في مرثيته لتراث البشر عند الوقوف أمام أنهار نزيف الدم التي تراق في مدن عربية عدة، لكن بلا أدنى شك لا يقبل الضمير العربي الحي ضياع ثرواتنا الثقافية، فهي تجسيد حي لتراثنا وقيمنا وحضاراتنا العريقة، وحتى لا يدخل أحفادنا للمستقبل وآياديهم خالية الوفاض.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة