23 ديسمبر، 2024 2:32 م

اغتيال الحضارة في دولة القذارة

اغتيال الحضارة في دولة القذارة

كثرت الفواجع في أيامنا هذه ، حتى أصبحت إحدى أمانينا أن ينقضي يوم دون أن نصاب بمصابٍ أليم.

منذ فجر التاريخ كانت بلاد الرافدين مهدا لحضارات أصيلة تركت بصماتها في غير موضع ، ولنا في سومر وأكد وبابل وآشور ما ابدع الكثير في وصفه وبيان عِظَمِ منزلته.

ومن سوء حظ المعالم التي تركها لنا الأقدمون أنها ابتُليت بأُناس ليسوا لها حافظين. أذكر عندما كنت صغيرا صحبت والدي وعمي لزيارة آثار النمرود قرب مدينة الموصل وفوجئت على حداثة سني بمستوى الاهمال الذي لا تستحقه تلك المفاخر وَمِمَّا زاد من حزني حينها أنني وجدت أن أغلب جدران تلك المدينة العريقة قد أُزيلت نقوشها من قبل البعثات الاثرية البريطانية . وعندما استقر بي الحال في بريطانيا زرت المتحف الوطني البريطاني قبل سنوات ، ذلك المتحف الذي يحوي الكثير من كنوز بلاد الرافدين وانتبهت الى تلك النقوش المزخرفة التي نقلت من النمرود الى لندن وقلت في نفسي : لعنة الله على سارقي آثارنا.

بعد أن غطت الرايات السوداء مدينة الموصل ، مدينة الآباء والاجداد ، ابتليت بمسوخٍ بشريةٍ ظنوا أن الله لم يَهْدِ غيرهم ، ولِأنَّ كلمة حضارة ليست في قاموسهم تفننوا بتدمير ما تزخر به الموصل من آثار إنسانية لا تقدر بثمن . كم وودت لو أن نفس البعثات الاثرية البريطانية كانت قد أخذت كل ما وقع عليه بصرها وحفظت تلك النفائس من عبث العابثين .

الموصل تلك المدينة العريقة التي يسكن ترابها أنبياء الله وأوليائه أصبحت أثرا بعد عين . أعرف أنّ الانسان قيمة عليا ولزوال الكعبة أهون عند الله من قتل امرئ مسلم ولكن كيف تُعرفُ المدنُ التاريخية بدون آثارها ؟

فعند زوال الأثر تذهب القيمة وتصبح كغيرها من المدن التي تكاد لا تميزها عن سواها.

موصلنا الْيَوْمَ امست وقد خسرت آخر أثر تبقى لها ، خسرت منارتها التي عرفت المدينة باسمها ، تلك الحدباء النورية التي صمدت لما يزيد من ثمانية قرون ، ربما يقول قائل يعزي نفسه أن الحدباء قد سجدت في ليلة القدر لخالقها أو أنها ضحت بنفسها إكرامًا لدماء شهدائها ، ولكن النتيجة واحدة ؛ إنها حرب على التاريخ .

ماذا تبقى من آثار وطننا ؟

لازلت اذكر الدبابة الأمريكية التي حطمت بوابة المتحف الوطني في بغداد وسمحت لمجاميع الغوغاء بالعبث بقدس أقداس الوطن ، مازلت اذكر وجه المراهق الذي حطم القيثارة السومرية أول ألة موسيقية على هذا الكوكب وهو يضحك ، مازلت اذكر عندما حذفت مدينة بابل من قائمة المدن الاثرية العالمية بعد أن قام النظام السابق بتجديد بنائها ففقدت أعظم مدن العالم القديم قيمتها الأثرية ، والقائمة تطول .

كم أتمنى أن تكون المكتبة المركزية في الموصل بأمان ! ففيها دواوين جدي الثاني الشيخ اسماعيل اليماني التى لم اقرأها بعد .

عند عودتي ليلة البارحه من المقهى وأنا أفكر بالخراب الذي أصاب وطننا قطعت سلسلة افكاري ابوذية عراقية أصيلة :

حلاوة وطيب للياكل من تمرنه

نحب نسمع كلامـك من تمرنه

تميل البصـره كلهـا من تمرنه

ولَك شــط العرب يـاخذ تحــيه

أدعوا الله ان لا يبتلينا بتمر البصرة .