26 نوفمبر، 2024 12:47 م
Search
Close this search box.

القطيعة النقدية

1
إذا كان من غير الممكن الحديث عن ظاهرة القطيعة النقدية في مسيرة تاريخ الثقافة العراقية في نطاقها الكلي أوالكوني، فإنه من الأجدى أن لا يكون ذلك ممكناً في نطاقها الجزئي أو المحلي لأن عوامل التواصل أو الاتصال وشروطها غير متوفرة في نطاقها الأخير . وفي حالتنا الثقافية العراقية تبدو المعضلة أكثر وضوحاً، لأن هناك سياقاً نقدياً تقليدياً واحداً، ولأن وحدة هذا السياق تشترطها العلاقات الفردية أو وحدة المؤسسة الرسمية في الفكر واللغة والحياة والثقافة، وإن وحدة هذا السياق الفردي ووحدة المؤسسة هاتين تشملان كل الظواهر الفكرية للمجتمع الثقافي ومنها النقد، بل قد يصح القول أن النقد أجْدَر تلك الظواهر لأنه يشمل الكثير من خلاصة الإشكاليات المعرفية التي أحدثتها الكتابة النقدية على الصعيد الفكري الفلسفي .
الصيغة المشتركة لحركة النقد لا تعني وحدة الخطاب النقدي القديم والمعاصر أو المتجدد، أي تماثل الأفكار النقدية على جميع الامتدادات الزمنية الثقافية، بل العكس هو الذي يحدث، فقد وسعت هذه الصيغة المشتركة عديداً من أشكال التنوع النقدي وأشكال الأختلاف المعرفي بحيث بات التنوع حاضراً في مختلف الخطابات النقدية الرصينة التي تتناول الأبعاد المعرفية أو الباحثة عن أشكال نقدية جديدة تعيد تحديد العلاقات القائمة بين الكتابة الإبداعية المتنوعة والنقد المجرد، ومن الممكن هنا أن يحصل لقاء بين ذاتية الكاتب وذاتية الناقد ضمن فضاء إختلافهما .
الاختلاف بين كتابة نقدية معرفية وكتابة معرفية عقائدية أو مجاملة لا يقتصر على الأختلاف بين القديم والجديد، المعرفي والإيديولوجي، بل لابّد أن يكون بينهما أختلاف في طريقة تصوّر العالم وفي المنطلقات الفكرية وممراتها المتنوعة، وكذلك أختلاف بالأدوات المعرفية والنقدية التي بها يؤدي تصوّر العالم وبها يكون تأويل أو تفسير وقراءة مفاصل الراهن الثقافي وظاهراته ومشكلاته القائمة والمحتملة، كما أن مواقع الأختلاف هذه كلها تحصل من أختلاف المستويات المعرفية عبر المراحل التراتبية الثقافية المختلفة هي أيضاً من حيث التراكم الكّمي والتحولات النوعية للنقد أو للمعرفة بين حقبة وأخرى، ولكن مع كل هذا الأختلاف تبقى هناك وحدة نقدية صارمة ومجردة تنتظم كل المستويات المختلفة هي وحدة الينابيع المعرفية التي لا تنضب وترجع إليها وحدة البنية النقدية للثقافة المتطورة، تضاف إليها النقطة الأهم والأعم، وأعني بها تنوع الثقافة الكونية أساساً أو التنوع والتوسع في معنى القراءة .
2
صورتان نقديتان تظهران في أغلب النصوص المكتوبة، صورتان تتبادلان السرد والصراخ وتقليب العبارة التقليدية على احتمالاتها، صورتان في حالة واحدة تستحيل مع تدرجّ العبارة حالات أكثر من أن تُحصى، أعني حفنة العبارت الهزيلة أو الجمل العابرة والساكنة، في ضوء هذه الصور قد يتساءل القارئ: كيف تعامل النقد مع هذا التعدد اللغوي؟ كيف ينقله بمستوياته المغلقة؟ كيف ينقل الرنين المكرر لكل مستوى من هذه المستويات وما يطلقه من أصداء رتيبة لا تتفاعل مع ذهنية أبناء الثقافة النقدية المعرفية وبناتها؟ والسؤال الأصعب هنا: ما هي الحلول التي يطرحها النقد للتغلب على معضلة القطيعة ومحورها ولسانُها المقطوع بلسان ثقافة نقدية أخرى؟ في هذا الإطار يمكن أن نفتح على هامش الكتابة المعرفية إطاراً للنقد المتجه نحو فضح تناقضات الخطابات النقدية العقائدية أو المجاملة التي يعمل البعض على ترويجها والدفاع عنها وتمريرها خدمة لاندفاعه المتوحش على حساب قاعدة إنسانية أعرض وأوسع في الحياة والجمال، بل وحتى في التفاصيل الحياتية الصغيرة .
لا نستطيع مواجهة مظاهر وظواهر القطيعة النقدية بالخطاب النقدي المغاير لها وبصورة مطلقة، ففي الثقافة أو الفكر لا تصنع الوقائع ولا تحصل المعارف بالمواقف المكتفية بالمغايرة دون بحث عن البدائل المعرفية والممكنات اللغوية المضادة، لهذا السبب يبدو أن قطيعتنا مع كتاباتنا في السنين الأخيرة قد تكون مدخلاً جديداً لترتيب طبيعة كتاباتنا القادمة، وهو الأمر الذي يمكننا في حالة حصوله على أحسن وجه من مغالبة التحديات الثقافية المثقلة بالأوهام والحجج . صحيح أنه لا يمكننا الفصل اليوم بين كتاباتنا القديمة والجديدة، وأن الجديد في أغلب الأحوال أصبح قديماً، إلا أن التفكير العقلاني بإشكاليات قطيعتنا النقدية وإشكاليات ثقافتنا في (العراق الجديد) يتطلب قليلاً أو كثيراً من الترتيب الذي يضع سلماً للأولويات المعرفية والنقدية والجمالية وينطلق من حلها حيث لم يعد هناك وقت للأنتظار .

أحدث المقالات