23 ديسمبر، 2024 7:07 ص

هي ولداتُها / تفيضُ بهنَ ساحة ُ الساعة / والضنى / ويأخذهنَ السيلُ / الى الضفّة الاُخرى/ حيثُ يُبدي الحظُ مودته / ويتغيّرُ الحالُ / فيُقمنَ في شرفة يوم جديد / أيهذا الزمانُ العصيّ / لمَ لمْ تُحرّكْ بيدقي ؟/ وتضعْ قدميّ على رقعة آمنة / فلا يُهدّدُني زوالٌ / ويبطشُ بي قامعٌ/ وأنا فوق هذه الرقعة الضيّقة / لماذا يُطاردني جيشٌ / وراءه ملك جائر / فيأخذ ُ منّي كلّ شيء ؟ / ثمّ …تتأرجحُ بنا حبالُ الردى ؟ / وننتظرُ الخيل / لتُبعدُنا عن هذه المهلكة / وعمرُ أحلامنا أسى / هي الدُوّامة ُ تريقُ بنا على زمان بئيس / …
…………………………………….

تبدو اللوحة ُ من بعيد مُفعمة ٌ بالجمال والألوان الرقراقة آلافٍ آلافٍ من الخيوط الرفيعة / خضر وصفر وسود وحمر وزرق / وكلُّ لون طبقات طبقات كما لو تشظى الى عشرات الألوان . وهي تتشابكُ وتتباعدُ مشكلة ً واجهة ً مكتظة ً بما يخطر وما لا يخطر بالبال .ومُحصلة ُ ما يتمرأى للناظر ثلاثُ شجرات غريبات في نهاية المشهد ، وبضعة تلال متناثرة ترمي شواخصها في وجوهنا. أغلبُ الظنّ أن الوقت مساء . وفي المقدمة عربة ٌ مُلئتْ بتل من البرسيم الأخضر . وحولها ثلاثة ُ أشخاصٌ / رجلٌ  متعبٌ مقوّسُ الظهر يقف لصق العربة ، ربّما كان يختلس من الزمن زمناً من الراحة السريعة ، وفي مؤخرة العربة رجلٌ وامرأة ٌ يحملان كميات من البرسيم يضعانها في العربة  / ولسوف يهربُ هذا الرجلُ مع هذه المرأة الدميمة  الى مكان بعيد مجهول تاركاً زوجته وطفليها بعمر الزنابق / الحصانُ مشغولٌ يتلقفُ فوه بقايا أعواد طريّة أمامه . وثمة َ امرأة اُخرى في أقصى الطرف الأيسر منحنية تقطع أعواد البرسيم بمنجل معقوف ، تاركة ً ما حصدته هنا وهناك ، ويجيءُ الرجلان ويحملان ما تركته لوضعه في العربة . ولعلّ المرأة َ الحاصدة  هي المحورُ وجوهر هذه الحكاية . ترتدي صدرية ًرصاصيّة غامقة فوق ثوب أزرق . وحين النظر في تفصيلات ذي اللوحة المُغمّسة بلون المساء تتراءى للنظر هياكل الشجرات الثلاث مثل رؤوس عملاقة لها أعناقٌ قصيرة مجعّدة. وثمة خللَ المساحات ضياءٌ باهت يمنح هذه الكائنات الوانها . لكنْ لا أحدَ يرى أو يُفكر بمعاناة هؤلاء / هاتين ِ المرأتين وذين ِ الرجلين وكذا الحصان الذي يدور بين السوق وبين الحقل من مطلع الصبح حتى نزول الغسق / هل فكر أحدٌ بوجع الظهر والقدمين والركبتين ، والعرق المتصفد من الأجساد المُتعبة ؟؛؛ . هنا الحياة تتشظى بين هذه الكائنات، بعضها ابديّ ثابتٌ لا يتزحزح، وبعضها الآخر عارض يكون غداً أو لا يكون .. الحصان في مشهد آخر نفق بعد أن عراه الهزال والهرم ، وانتهى به الزمنُ في حفرة اُهيل عليه التراب بلا مراسيم ولا ضجيج ، ولا أحدَ يدري ما حلّ بصاحب العربة. فيما اختفى الرجلُ / زوجُ المرأة الحاصدة / مع المرأة الدميمة ، تاركاً زوجة في ألق قمري طري وولدين توأمين في السادسة من عمريهما . أمّا العربة ُ فتحطمت وصار حطامُها وقوداً للتدفئة وطبخ الطعام . بينما التلالُ ظلتْ قائمة في مكانها تتناوبها الظلمة  والضياءُ وكذا الليلُ والنهارُ والشهور والريحُ والمطرُ ، ومثلها  الشجراتُ الثلاثُ تتعرضُ لتغيّرات الفصول . لكننا سنتابعُ المرأة الحاصدة / امَّ الطفلين التوأمين ونجيعَ مقصدنا / تُرى أينَ مضى بها الزمنُ وأين مضت ؟ وتنسدلُ الستارة ُ على هذا المشهد الضاج بالمعاناة والمثابرة .
……………………………… والسكون .
بيتٌ ضخم على ساحل البحر ، يضم ّ رجلاً في مبتدأ الأربعينيات / صاحب القصر وما يجاوره /  وولدين في السادسة عشرة من عمريهما يتشابهان في كلّ شيء . وامرأة ٌ هي المرأة َ الحاصدةَ / كانت / لكنّها ، الآنَ، سيدة ُ القصر، بدأت أولى خطواتها خادمة في بيت سيدها ، ذكية ومخلصة ومثابرة وجميلة ، ربّما كان جمالُها ثروتَها الوحيدة . لن أدخلَ في تفاصيل العلاقة بين سيد القصر وبينها ، فقد كثرت حولهما أقاويلُ كثيرة . فالرجلُ تزوج أمرأة أكبر منها وماتت ، وورث عن جدته لأبيه ثروة طائلة وهذا القصر الغافي على ساحل البحر . تزوجها . بعد أن هام بها . وأقام لها أكبر عُرس شهدته المدينة . كما أنّ خدم القصر ارتاحوا لهذا الزواج ، فسيدتُهم قلبُها مُفعمٌ بالطيبة . ولا تطلّ عليهم من عليائها كسيدة آمرة ٍ ، بل كما لو كانوا من أفراد العائلة .
فذات صباح ، بعد أن غادر الصبيّان الى المدرسة ، جلس كلاهما الى مائدة الفطور ، وبشّرت زوجها أنها حامل ٌ وهي تحسّ بما أحسّت أثناء حملها السابق . جفل الزوج فرحاً كما لو صعقه برق ٌ ، نهض من مكانه وتوجه نحوها وانحنى عليها يغمرها بالقبلات . مساء كانا عند الحكيم في الأمراض النسائية، وأكّد من خلال التحليل أنها حامل . عمّ الفرح جنبات القصر ، والتمّ في الصالة الخدمُ والأصدقاء وكلّ العاملين في مؤسسات الرجل الثري . كان الليلُ يصدح / موسيقى وأغاني ورقصات / حتى مطلع الفجر .
بعد ثلاثة شهور شخصّ الإختبارُ الشعاعي أنها حاملٌ بثلاثة توائم / يا الهي ؛؛ ما أسعدني ؛؛ سيكون لي خمسة أولاد .
أمّا اللقطة الأخيرة في هذه القصة  فصورة ٌ تضمّ ثلاثة مهود لثلاثة أطفال كلهم ذكورٌ ، والزوجان الى جوارهم في الطرف الأيمن والشابان التوأمان في الطرف الأيسر ، وخلفهم بعضُ أفراد الخدم ، وعلى سيمائهم جميعاً تتألقُ نسماتُ الفرح  .. ولسوف يختفي المشهد الأول / المرأة ُ الحاصدة  وما حولها من كائنات ضاجة / فالجديدُ يزاحم القديم فيُلغيه ، وستملأ الواجهة ُ هذا الزمنَ الطريّ ،  وقد تظهرُ ، بعد عشر سنين قابلة لوحة ٌ أخرى تكبر فيها كائناتُها ، وتتغيّرُ الملامح ، وتُضاف اليها وجوه ٌ أخرى كانت مخبّأة ً طيّ المستقبل .
الحياة فينا في تغيّر دائم / وهي ليست ما كانت ، ولا نحنُ نكونُ كما كنا / وأجملُ ما تمنحُنا هذا التجدّدَ من حال لحال ……(1)
………………………………………………
لديّ أمانٌ وغدٌ أوفرُ / وغدا أمسُنا خيط َ ذكريات /  هنا يومُنا مثلُ البشارة / يطرقُ أبوابَ أسماعنا / ونحنُ نوارسُ هذا المدى / استحالَ فيه كلُّ كائن سيدا /هنا لا تجفلُ الخيلُ / لها الاُفقُ وما حولهُ / هنا تُطلُّ شرفتنا على حُلم / بلون السما ء/ وليس لنا خصمٌ أو عِدا /  ولي ستُ ثريات تُغمّسني بالضياء/ فولّى زمانٌ قوّسني فيه المنجلُ /  من مطلع اليقظة حتى حلول المساء / أنا داخل ذي اللوحة / التي تُسمّى غداً / ……..

————————————————————————–
1 – السفرُ متعة ُ الخطر الداهم ِسلامتَنا المُسعّرةَ بالاُمنيات القاحلة و الطريّة مؤدية الى يقين يقظة ينتطرنا على قارعة المسافات تراهُ مساماتُنا وحسّنا اليقظ ُ دوماً لاستقبال ما يجيشُ فينا ويجري في دواماتنا المائجة يطوفُ في مناظير رؤانا مُبعثراً ومُشتّتاً ومُتشظيّاً فيما حولنا نحنُ أبناء الانتظار الطويل يتلقفنا طُوفانٌ ظلّ هُداه ضالاً يتخبّطُ في مديات الآفاق يُصيبُ أوانَه حيناً ويخيبُ أحياناً ونحنُ ثآليل الشطط والمصادفة العرجاء تجيءُ على حين بغتة تسحقُ عشبَ حلمنا الجاثي في ضاحية الوقت تفتحُ لنا شِعابَه العنكبوتية هازئة ً بنا حين نُصبحُ وحين نُمسي وتأخذنا الغفلة ُ الى صقع متاه ٍ ما رأتُه عينٌ ولا حاسة ٌ هي مقاديرُنا تسوقُ بنا وتسوّقنا الى مآربها حيثُ تطيشُ سهامُنا وتُصيبُ بؤرَ افراحنا المُستهدفة دوماً برجوم الطيش تخترقُ ساحة ما يتمرأى لأبصارنا وتهدّ مسرحَ الوجود المُسوّر بتطلعات يتيهُ فيها المتاهُ ويوقعُ بخلائقه الوجعَ والنكص والصمم يتجحفلُ حولَ سوار مداركنا التي عَميت عن الفهم الدقيق والصِدام الخلّاق الآبق خارجَ تقاويم مألوفة ٍ توارثناها على مدار العمر الضئيل في مساره ومساربه القاحلة تخبّ خُطىً في تخثّر دمنا وفي مجرى قدرنا الجاهز يشقُّ بعنادٍ مضيقَ المهلكة المُعبّأة بوغر السكاكين المُوغلة في سنواتنا الشقيّة تتعثّرُ بصخور المصائر تسلبُ برعم الفرح ونحنُ أربابُ غنائم الطيش المُراق ِعلى عتبات أخطائنا حين تضمّنا صحارى الأمل ووجارُنا ثُقبٌ في ضلوع القهر أو في مسام أشواقنا الضامرة فلا يتنسمُ فينا نبضُ الحياة حيثُ السخامُ المتصاعدُ فينا يُعمي البصيرة في سلة العمر وفي تجاعيده الهرمة المنقطعة عن كلّ سبب ومناخرُنا مبعثُ دخان يخرجُ من بؤر الحريق الناشب فينا ولا تنالُ منا رجومُ العدا ولا تتخطّى خواطرُنا سورَ المُحرّمات تتنزّهُ بين أنفاسنا خيولُ التعب الماجنة تسحقُ سنابكُها الذممَ وضفائر عروساتنا في ليلة الفرح اليتيم تلمعُ فيها نجمةُ العمر على شرفات الغد خارج حدود السراب ولنا سمعٌ حديد وبصر شواهين يخترق ميعة الحزن المتراكمة فينا ……..