قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) سورة ابراهيم.يا لروعة المثال! أسلوب يدل على مشاركة الكلمة الطيبة لأمر الشجرة الطيبة في صفته الواضحة وهي الطيب؛ ليكتسب الطرف الأول وهي الكلمة (المشبه) من الطرف الثاني وهي الشجرة (المشبه به) قوته وجماله، وتكمن قوة وجمال الشجرة في خضارها وظلالها وثمارها ومنظرها الأخاذ ونسيمها الضارب فوق أغصانها أريج النداوة والفكاهة والطراوة، التي تفتح القلوب شغفا بحب جمال الطبيعة الأخاذ، وهو لا محالة يجلب للنفس الطمأنينة والدعة والاستقرار.مثلما يستأنس الانسان بالشجرة الطيبة كذلك يستأنس بالكلمة الطيبة التي تصقل نفسه، وتهيج عواطفه، وتداعب روحه، وتجعلها أكثر ألقا وسعادة وبهجة، تعالوا لنتسلح بالكلمة الطيبة مع الأب والأم والزوجة والأطفال، مع المراجع في الدائرة، المشتري في المحل، التلميذ في المدرسة، وهكذا دواليك… لكي تترسخ فينا حلاوة الحياة المستقرة الثابتة البعيدة عن المنغصات، خيرها واصب، ونوالها متدفق، يصيب وابلها القاصي والداني، وينتشي من نخب مودتها القريب والبعيد.أي كائن مبصر وفهيم وعادل ذلك الذي يتحلى بطيب اللسان! يا لذاكرة الطيب ما أوسعها وأدقها! ويا لعينيه ما أصفاها وأنفذها، ويا لوجدانه ما أرهفه وأصدقه! ويا لأرجله ما أثبتها وأقواها، ويا لرأسه ما أعلاه وأشمخه، وأي هائم أعمى وبليد وظالم ذلك الذي يتسم ببذائة الكلام، يا لعفونتها ما أوسخها وأشقاها، يا لما يطفح منها من نكد وحقد وعداوة وبغضاء، ولا حيلة من الاقتصاص منها والتخلص من تداعياتها القاتلة إلا بالاجتثاث والاقتلاع والإبادة، حيث أن القرار والمكنة للجمال وطيب الكلام وما عداه ما له من قرار.
المسيرة الحضارية هي الكلمة والشجرة الطيبة التي تضرب أصولها في الأعماق، وتمتد فروعها إلى عنان السماء، وهي ذات قرار مكين في الأرض، تؤتي ثمارها كل حين بإذن ربها المتعال، وهذه الشجرة ثابتة قوية لا تهزها الأعاصير والعواصف، أما الحضارة الجاهلية فهي الكلمة الخبيثة والشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، ورغم قدمها فهي ضعيفة ومهزوزة وعلى أرض رخوة وغير ثابتة تقتلعها الأعاصير وتلقي بها في مزبلة التاريخ.ومن العجيب أن هاتين الحضارتين تمتدان معا إلى أعماق التاريخ، إلى هابيل وقابيل، وتتكونان معا عبر الأجيال، ومع ذلك فهما تختلفان في العراقة والأصالة والثبات، فالحضارة الإلهية أصيلة عريقة ذات جذور قوية ثابتة وراسخة لا تحركها الأعاصير الهوجاء، والحضارة الجاهلية مهزوزة ضعيفة مبتورة الجذور، هذا هو الفارق بين هاتين الحضارتين اللتين توارثهما الإنسان، وهو يتأرجح فيما بينهما إلى يوم الساعة، فالقرار الصائب بيده أي الطريقين ينتخب، طريق الكلمة الطيبة التي توفر له ولبيئته الأجواء الملائمة لتكوين الحضارة المتألقة، وطريق الكلمة الخبيثة الذي يمهد لحضارات كانت ثم بادت.