ليست كتابة التأريخ عند السابقين في الحضارة العربية والإسلامية فناً أو علماً منهجياً يستحقُّ التقدير، ولولا أنَّ الضرورة تستدعي الرجوع إلى تلك المصادر التأريخية كونها دوَّنت الأحداث الهامَّة في التأريخ الإسلاميِّ بطريقة الجمع الروائيِّ العشوائيّ، إذ لا يوجد ما يعوِّض عنها في مجال الإطلاع على مجريات التأريخ في تلك الحقب الزمنية التي مثَّلت المنطلقات الأولى لتشكيل الوعي بتأريخ الإسلام عند الأجيال الإسلامية التي أعقبت ذلك التأريخ لما كان من الحكمة أن يعتمد عليها الباحث في قليلٍ أو كثيرٍ، وذلك للأسباب الآتية:
السبب الأوَّل: إنَّ هؤلاء المؤرِّخين تتحكَّم بهم قبلياتهم المذهبية والإيديولوجية، فلا تكاد تجد واحداً منهم ينهج بكتابة التأريخ نهجاً موضوعياً على الإطلاق، بل تراه هزيلاً مضحكاً في سرد الروايات التي تتناقض مضموناتها وتتضادُّ إلى حدٍّ بعيدٍ، فإذ يحدِّثك المؤرِّخ عن الفظائع اللاأخلاقية واللادينية التي يرتكبها أحد السلاطين أو الخلفاء كما تحلو لهم التسمية يعطف عليها في الصفحة ذاتها بروايةٍ أخرى تشير إلى تقواه وورعه، من دون أن تشعر ذائقته العلمية بشيءٍ من الكزازة والإنحراف، وإذ يحدِّثك عن انغماس أحد الخلفاء باللذَّة البهيمية وشرب المسكر يعطف عليك بخبرٍ مفاده أنه كان ينصعق ويغيب عن الوعي إذ يسمع آيةً من القرآن وهكذا.
دعك من هذا، فقد يكون لهم بعض العذر الذي يُمنح للمجانين عادةً، لكن ماذا يقال عن خطَّةٍ تُعدُّ لقتل وصيٍّ من الأوصياء وسبطٍ من نسل الأنبياء كالحسين عليه السلام، ومع ذلك يسردها المؤرِّخ من هؤلاء بأسلوبٍ ربما أشعرك بتعاطفه مع الحسين، لكنه لا يستمرُّ بهذا، إذ يقطع تعاطفه هذا فجأةً بأن يوحي إليك بأنَّ واضع الخطَّة كان يستهدف الغاية الدينية الصحيحة من دون أن يصرِّح بذلك علانيةً، لكنه يوحي بذلك فقط، من خلال العديد من السياقات التي يسرد بها أحوال المجرمين من أمثال معاوية ويزيد وحاشيتهما وأعوانهما من الذين ساهموا في سفك دم الحسين عليه السلام.
السبب الثاني: إنَّ هؤلاء المؤرِّخين لا يتوخَّون الدقَّة في السرد التأريخيّ، فهم يروون عن كلِّ من هبَّ ودبَّ، بنفس الأسلوب الذي اعتمده النحويون والبلاغيون واللغويون الذين استنبطوا لنا قواعد العربية، إذ كانوا كلَّما سمعوا هيعةً من أحدٍ دوَّنوها واستنبطوا منها قاعدةً نحويةً أو صرفيةً أو بلاغيةً، وألزمونا بأن نضبط كلامنا بمقتضاها طيلة التأريخ الطويل اللاحق إلى يوم القيامة، وإلا لم نكن عرباً في رأيهم على الإطلاق، هذا مع افتئاتهم على النصِّ القرآنيِّ المقدَّس بأن يطبقوا عليه تلك القواعد ويستخرجون دلالاته على هذا الأساس.
السبب الثالث: تغيب في موسوعات التأريخ الإسلاميِّ أية بادرةٍ للتحليل، وإن كنت من جانبي أفضِّل أن لا يقوموا بمهمَّة التحليل والتفلسف حول الحادثة التأريخية المعيَّنة، لأنهم غالباً ما يثبتون غباءً منقطع النظير في هذا المجال، لكنه نقصٌ حاصلٌ في الموسوعات التأريخية نشير إليه على كلِّ حال.
السبب الرابع: إنهم لا ينتبهون إلى الفجوات التأريخية في الأحداث التي يسردونها في كتبهم التأريخية، فتكون النتيجة أنهم يروون لنا أحداثاً مهلهلةً لا يجمع بينها جامعٌ في الكثير من الأحيان، ففي هذه السنة ولد الحسين، وترك الحسين إلى حدثٍ آخر حصل في هذه السنة، ثمَّ عاد إلى الحسين بعد مئة صفحةٍ أو أكثر، فذكر حدثاً آخر متعلِّقاً به على عجلٍ، ثمَّ تركه، وعاد إليه في الجزء الثاني من تأريخه ليسرد لنا حدثاً ثالثاً بشكلٍ مفاجئٍ، وهكذا، وقل مثل هذا عن كلِّ الأحداث المتعلِّقة بالشخصيات الإسلامية الهامَّة في التأريخ.
نكتفي بهذا القدر من النقد الموجَّه إلى الكتابة التأريخية في تراثنا الإسلاميّ، لنركِّز كلامنا حول ابن الأثير في تأريخه الكامل، وفي خصوص سرده لحادثة استشهاد الإمام الحسين على وجه التحديد، لنرى مبلغ ما يحمله ذهن الرجل من الدهاء أو من الغباء، فلا يمكن أن يندَّ حاله عن هاتين الصفتين، لأنه يثير ضحك المتابع فعلاً أثناء القراءة.
كأنَّ ابن الأثير يضحك على عقل القارئ ويستخفُّ به في قوله:”خطب معاوية قبل مرضه وقال: إني كزرع مستحصد وقد طالت إمرتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي، ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه، كما أن من قبلي كان خيراً مني، وقد قيل: من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه، اللهمَّ إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي وبارك لي فيه! فلم يمض غير قليلٍ حتى ابتدأ به مرضه” الكامل في التأريخ. 2/140.م من دون أن يعلِّق ابن الأثير بكلمةٍ واحدةٍ على مثل هذا الكلام، كما لم يشر إلى المفارقة الكبيرة الماثلة في خطبة معاوية هذه، بل يلمِّح إلى أنَّ معاوية كان فعلاً قاصداً لهذا المعنى أثناء الخطبة، وأنه بمنزلة من يخرج من فيه مثل هذا الكلام.
لو كان معاوية بهذه الروح الإيمانية الرائعة لما كان يستحقُّ من التأريخ كلَّ هذا الذمّ، بل لكان من الصلحاء في أقلِّ تقديرٍ إن لم يكن من الأولياء العظام.
لا بأس، قد يكون الرجل معتقداً في معاوية مثل هذا الإعتقاد، فلنسامحه إذن عليه شريطة أن ينسجم مع نفسه إلى النهاية فلا يورد لنا من الأحداث المتعلِّقة به ما يتناقض مع هذه الروح الإيمانية الرائعة.
لكن كيف لابن الأثير أن لا يناقض نفسه، فها هو يواصل كلامه رأساً في السياق ذاته، ولا ينتظر أن يبتعد عن الكلام الآنف بسطرٍ واحدٍ، فيقول: ” فلما مرض المرض الذي مات فيه دعا ابنه يزيد فقال: يا بني إني قد كفيتك الشد والترحال، ووطأت لك الأمور، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك رقاب العرب، وجمعت لك ما لم يجمعه أحد، فانظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، وأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب، وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل، فإنَّ عزل عاملٍ أيسر من أن يشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن رابك من عدوك شيءٌ فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم تغيرت أخلاقهم” المصدر نفسه والصفحة.
ما هذا الهراء أرجوك يا ابن الأثير، فهل ينسجم مثل هذا التفكير في رأس الخليفة الذي كان قبل ثانيةٍ ونصفٍ يتحدَّث بحديث الأولياء، فإذا كان هذا الخليفة مصاباً بالشيزوفرينا إلى هذه الدرجة فما بالك أنت أيها المؤرِّخ البارع لا تنتبه إلى هذه المفارقة، أم أنك تعتقد بأنَّ القارئ عبارةٌ عن طفلٍ صغيرٍ يستقبل ما يقال له من دون إدراكٍ أو تمحيص؟!.
لو كان مكيافيلي حاضراً في في مجلس معاوية لفتح فاه متعجِّباً من هذا الدهاء والمكر، فمعاوية يتفوَّق عليه أضعافاً مضاعفةً بما ظنَّ ميكيافيلي أنه أبو عذرته من تقديم خطط الدهاء والمكر للحكام عبر التأريخ، فقد كشف معاوية لابنه الفاسد عن خططه السابقة التي كانت تصبُّ كلُّها في تمهيد السبيل أمام حكمه وحكم الفاسدين من بعده، فقد أخضع رقاب العرب، وكفاه مؤونة الشدِّ والترحال، وجمع له ما لم يجمعه أحدٌ، ولم يكن الخليفة الذي تكلَّم بكلام الأولياء قبل قليلٍ يفكر بأيِّ شأنٍ آخر يخصُّ الإسلام وأهل الإسلام، فما بال ابن الأثير لم يزايل استقراره النفسيَّ عند هذه النقطة، ولم يشعر بشيءٍ من الصدمة النفسية إزاء هذا الحديث؟!.
ويواصل السيد معاوية كلامه فيقول: “وإني لست أخاف عليك أن ينازعك في هذا الأمر إلا أربعة نفرٍ من قريش: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر؛ فأما ابن عمر فإنه رجلٌ قد وقذته العبادة، فإذا لم يبق أحدٌ غيره بايعك؛ وأما الحسين بن علي فهو رجلٌ خفيفٌ ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه، فإن خرج وظفرت به فاصفح عنه، فإنَّ له رحماً ماسةً وحقاً عظيماً وقرابةً من محمد صلى الله عليه وسلَّم، وأما ابن أبي بكرٍ فإن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله، ليس له همةٌ إلا في النساء واللهو، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإن أمكنته فرصةٌ وثب فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطعه إرباً إرباً؛ واحقن دماء قومك ما استطعت” المصدر والصفحة.
هنا تظهر دناءة ابن الأثير بالفعل، فالرجل ليس بليداً إلى هذه الدرجة كما حسبناه في بداية الحديث، بل هو يتذرَّع بالبلادة من أجل تمرير الدهاء فقط، آية ذلك أنه سارع إلى نقد الرواية وتدخَّل هذه المرَّة، فنفى أن يكون عبد الرحمن بن أبي بكرٍ موجوداً على قيد الحياة في هذه الواقعة، لأنَّ وصفه في الرواية يشير إلى أنه رجلٌ متهتِّكٌ، فهو مشغولٌ بالنساء واللهو، إذن فهو في صفة يزيد، فعلام يعترض مثل هذا الرجل على بيعة يزيد إلا لأنه طامعٌ بالخلافة لنفسه، لكن علام الدخول في كلِّ هذه الإشكاليات، فلننفِ وجوده في زمن معاوية، ولنقل إنه كان ميتاً في هذا الوقت، لتكون سمعة هذا البيت مصانةً من الخدش ولو على حساب الحقيقة التأريخية، هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى فإنَّ نفي وجوده حياً في هذا الزمن تحصل منه فائدةٌ أخرى غير هذه، وهي أنَّ ابن الأثير يتخلَّص من التشكيك بشرعية ما فعله معاوية عن طريق الموقف المعارض لعبد الرحمن بن أبي بكرٍ، فهو ابن الخليفة الأوَّل على كلِّ حالٍ، فلا يبقى موقف أحدٍ مشكلاً بالنسبة إليه إلا موقف ابن عمر، وهو هيِّنٌ، لأنَّ أمره سيؤول إلى الموافقة في نهاية المطاف، أما ابن الزبير فتعساً له من منبوذٍ عند الجميع، فليس هو بمرضيٍّ عند أنصار موقف الحسين، ولا عند أنصار الموقف الآخر الذي مثَّله الإتجاه الآخر الغالب في التأريخ.
الآن علينا أن نستعدَّ لهذه القنبلة التي سيفجرها ابن الأثير في المكان، فعلينا أن نستقبلها برحابة صدرٍ ونستجمع شجاعتنا كلَّها لكي لا نموت، كما أنَّ علينا واجباً آخر، وهو أن نمسك برؤوسنا جيداً كي لا يتطاير ما فيها من بقية العقل، فيسرد علينا ابن الأثير حال معاوية وهو في الإحتضار، يقول ابن الأثير:”ولما اشتدت علته وأرجف به قال لأهله: احشوا عيني إثمداً وادهنوا رأسي. ففعلوا وبرقوا وجهه بالدهن ثمَّ مهِّد له فجلس وأذن للناس، فسلموا قياماً ولم يجلس أحدٌ، فلما خرجوا عنه قالوا: هو أصحُّ الناس. فقال معاوية عند خروجهم من عنده:
وتجلدي للشامتين أريهمو … أني لريب الدهر لا أتضعضعُ
وإذا المنية أنشبت أظفارها … ألفيت كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ
وكان به التفاتاتٌ، فمات من يومه فلما حضرته الوفاة قال: إنَّ رسول الله، صلى الله عليه وسلَّم، كساني قميصاً فحفظته، وقلَّم أظفاره يوماً فأخذت قلامته فجعلتها في قارورةٍ، فإذا متُّ فألبسوني ذلك القميص واسحقوا تلك القلامة وذروها في عينيَّ وفمي فعسى الله أن يرحمني ببركتها….وقال لأهله: اتقوا الله فإنه لا واقي لمن لا يتقي الله. ثمَّ قضى وأوصى أن يردَّ نصف ماله إلى بيت المال، كأنه أراد أن يطيب له الباقي لأنَّ عمر قاسم عماله؛ وأنشد لما حضرته الوفاة:
إن تناقش يكن نقاشك يا ر … بِّ عذاباً لا طوق لي بالعذابِ
أو تجاوز فأنت ربٌّ صفوحٌ … عن مسيءٍ ذنوبه كالترابِ” المصدر والصفحة
بماذا يختلف حال معاوية وهو يحتضر عن حال الأولياء، خاصَّةً في تلك الفقرة التي يوصي بها أهله بتقوى الله لأنه لا واقي من العذاب إلا هو، وفي الفقرة الأخرى التي يقول فيها ابن الأثير أنه أمر أن يردَّ نصف ماله إلى بيت مال المسلمين لأنه أراد أن يطيب له الباقي، اقتداءً بفعل عمر إذ قاسم عماله.
وكم يحترم هذا الخليفة الذي افترى عليه التأريخ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فقد اختطف قلامةً من أظفار رسول الله ليحتفظ بها لمثل هذا اليوم العصيب، كي تسحق وتذرى في فمه وعينيه، بعد أن يلبسوه الثوب الذي لامسته كفا رسول الله، مع أنه قاتل ابن عمِّ النبيِّ ووصيَّه، ومهَّد الوضع السياسيَّ المنحرف الذي سيقتل ابن بنت رسول الله وجميع أهله وصحبه في كربلاء.
فهل هناك مهزلةٌ علميةٌ في كتابة التأريخ كتلك التي مثَّلها مؤرِّخونا رحمهم الله، فاقرأوا ما كتبوا واستلقوا على ظهوركم ضاحكين.