18 نوفمبر، 2024 1:03 ص
Search
Close this search box.

لستُ بحالم 

بعد أن ظلّ رفيقَ مخدعه لا يتركه الّا لقضاء حاجة لا يقضيها غيره. الّا اذا طالبته معدتُه بحقّها.. الّا اذا استفزّتُه أخبارُ أمس عن وطنه واراد أن يسمعَ ما استجدّ منها.                                        اليوم عزم على أن يُغادر بيتَه ليرى العالم الذي نسيهُ قبل أسبوعين. فتح دولاب ملابسه فأحسّ أنها تلومه؟؟ تخيّلها غيرَ راضية عن اهماله إياها.. شعر أنها تظنّ قد غدت لا تُلائم ما يُعرضُ في واجهات المحال، تشجّع فأنزل ما يُريد أو ما وصلت يدُه اليه، ارتداه ثم مسح الغبار عن حذائه الذي أهمله.. وغادر. أعاد فتح بابه حين تذكّر أنه نسي عصاه التي يـتوكّأ عليها.. شعر أنّ خطواته ثقيلة.. تُرى هل نسيت قدماه وظيفتهما.. سار مُتباطئا وهو يتذكّر.. قبل خمسين عاماً .. كانت قدماه تدكّان الأرض، تأخذانه بشغف الى حيثُ حبيبتُه، كأنّه طائرٌ بألف جناح، يترنّمُ بأغنية يُتمّها أمامها وهي تهزّ رأسها وابتسامتها تسيلُ سعادة..اليومَ بلغ الثمانين غارت عيناه في كهف ، رهلَ لحمُ وجهه ورقبته فتغيّرت ملامحُه فلم يعد هو هو قبل خمسين عاماً، وهذه الشامات السود التي ملأت ًوجهه لا علاج لها.. ولمَ يخضعُ لازالتها ؟ لمَنْ يتجمّلُ ؟ وهل لا يزالُ في العمر بقية ؟ ولمَ أفعلُ هذا قال.. الا يكفي أنني اتطلّعُ الى صوري القديمة.. حين تخرّجتُ في الجامعة. وحين تزوجتُ.. أيام كنتُ مع أطفالي في صورة لا تزالُ مُعلقة ً على جدار غرفتي. تُرى هل سيعرفني مَنْ بقي حيّاً حين تجمعني بهم مُصادقةٌ سعيدة ؟؛ أخذتني ذكرياتي فأحتجّتْ قدماي وعُكازتي.. أرحتُ جسمي على مصطبة، ما أردتُ أن يطول جلوسي، سرتُ وعكازي يؤنسني.. بدا شبحٌ يترنّحُ .. مشيتُ حتى قاربته.. اهتزّ عكازي.. أنعشتني أنسامٌ ،تباطأ الشبحُ ثمّ التفّ يساراً.. أخذني عكازي يمينَ الدرب فأطعتُه .. الشبحُ يدنو.. بمحازاتي مرّ مستنداً الى عربته.. ارتفعَ نظري.. نظرةٌ فضولية مني فترتسمُ أمامي صورةُ العجوز المتداعية، لا قبعة على رأسها.. شعرُها قبعةٌ بيضاء.. غادرتني..أمرتُ عكازي فأطاعني الى الأمام هذه المرة.. الشارعُ طويلٌ ، بين كلّ عشر خطوات تستقبلني مصطبةٌ زرقاء تغري المتعبين بالجلوس، فمفصلُ رجلي اليسرى عصيّ على الاستجابة لما اريد.. كنتُ انظرُ الى الملابس في واجهة المحل حين شعرتُ يمَنْ يجلسُ قربي بلا كلمات ..لمحتُ الشبح.. المرأةُ ذات القبعة البيضاء التي لا تُباعُ في الأسواق. أراحت ْ عربتها وهي تتنفّسٌ وكأنّها تشخرُ، كمَن يُحدّثُ نفسه.. سمعتُها تشكرُ مَنْ زرع الشارع بهذه المصطبات.. كلماتُ لغتي تنسابُ من فيها.. بتردّد مموسق حرّك السؤال على شفتيّ..                 مرحباً ،من أيّ بلد قدمتِ؟                                                                                                                    

  تّشدني المفاجأةُ .. انها من بلدي. تلكّأتْ وهي تسألني .. ارتعشتْ حين سمعت اسم الوطن نفسه الذي شهد أروع أيامها.. استندتُ الى عصاي وقد امتدّت يدُها تقبضُ على عربتها.. ارتعاشٌ يملأ كيانها وهي تنظرُ الى شفتيّ حين ذكرتُ اسم مدينتي، تنتفضُ .. تؤكّدُ أنّها مدينتها وحُلمها الجميل.. تسألني عن اسمي.. سمير عبد الرحمن الرضوي. تزحفُ تُجاهي.. يا اللّه.. يا سميري الحبيب.. أنا رحاب القادري.. ارتمتْ على صدري ونشيجُها يملأ الفضاء ويداي تُطوّقانها. لم أتفوّه بكلمة فقد ضاع لساني.. حبيبتي بعد سنين تنامُ في احضاني ، بكيتُ بلا صوت لتبدّل ملامحنا، أمن المعقول أنّ الزمن لم يترك ملمحاً يُعرّف الأحبة بأحبتهم.. أبرقت السماءُ بعد أن التقت سحابتان.. همى مطرٌ.. مرّ عابرُ طريق يحملُ مظلته فيلتقطُ صورةً للعجوزين اللذين نسيا المطر وهو يهطلُ.. لم يشعرا بغير الدفْء اللذيذ يغمر جسديهما…..        

أحدث المقالات