(اربعون يوما على غياب عبد الرزاق عبد الواحد)
ماذا لو بدت المرارةُ لفقده أشد؟ فبعد مرور اربعين يوما على رحيل شاعر العراق الأكبر عبدالرزاق عبد الواحد (2015-11-8)، يبدو العراق وكأنه يملأ الموت بالموت، والشعر بالأسى، والحسرة بالمزيد.
الأيام تمضي، ومشاعر الفقد تبرد، إلا الخسارة والهزيمة التي نتكبدها مع هذا العراق. عراقٌ إن كان يصبر علينا، فلكي نصبر عليه.
ولقد ذهب عبدالواحد صابرا. أخذ صبره معه ورحل. تاركا لنا أن نعيشه من دون قصيدة، ومن دون أمل.
هل كان الأمل وهما؟ هل اكتشف هزيمتنا فقرر أن يصمت؟
لقد كانت أبياته الأخيرة في تأبين الشيخ حارث الضاري. كتبها له وهو على فراش المرض. وكشف انه ما عاد ليكتب شعرا. انهارت عمارة الشعر، مثلما انهارت عمارة الأمل في أن يعود العراق عراقا.
وكان لي مع هذين الرجلين شأن.
كنت أحسب، مع نفسي، أن أكون مناضلا. فذهبت في رحلة أمل الى الشيخ الضاري، من أجل وحدة وطنية مع قوى أخرى قبل أن يصبح الإنهيار تاما. وعدت خاسرا.
فرح بي. وأشاد. وأطعمني من زاده بيده. إلا انه لم يقبل ما جئت به اليه، وكان معي شاهد، وظل برفقتنا رجال من اخلص مناضلي العراق (سعد قرياقوس، عوني القلمجي، ضرغام الدباغ، صلاح المختار، عبد الجبار الكبيسي، وآخرون). ومن ساعتها اكتشفتُ أني، لا أملك من المواهب ما يسمح بالإصرار على إنقاذ ما لا يمكن إنقاذه.
كاتب فحسب. وعندما يتعلق الأمر بالعراق، فقد توفيت الكتابة فيه، حتى قبل أن يعلن عبد الواحد تأبين القصيدة.
ضاع العراق. كم مرة ضاع؟
أعرف أنه ضاع مرة أخرى يوم رحلتَ، فسلام عليك، وسلام عليه، وسلام على الباقين، وسلام على صبرهم إذا صبروا.
لا أعرف بلدا ظل يضيع منذ محلمة كلكامش الى يومنا هذا مثل هذا العراق الحزين.
أما عبد الواحد، فقد كتب في بيتي في ألمانيا نشيده النقشبندي. وما أزال احتفظ بالمخطوطة الأولى التي تركها على طاولتي. احتجت الى كل قرش، فلم أقدر أن أبيع ذلك البيت لأنه عاش فيه إسبوعا. ولأنه حمل إليه نفحة من العراق. ولأنه جلس على “قنفاته” الجديدة، واحدة واحدة، بمرح طفل في الثمانين.
ولأنه كتب هناك سطورا من أجل أن نقوم بعمل مشترك، ولأنه أتم كتابة ذلك النشيد، وأذن لي بأن أنشره وأكتب عنه.
ما كان بوسعي إلا أن احيطه ببرواز، لأقول أنه آخر ما أملك من هذا العراق. هذا هو كل شيء. وهو يكفي زادا ومرارة على رحيل.
“وعدٌ لك يا أبا خالد أن يُقيم العراقيون لك نصبا في ساحة التحرير، وأن يلقوا عليه الزهور كل يوم”. كان الأمل طاغيا بأن يوم التحرير قريب. ولعله ما يزال قريبا كلما بدا أبعد.
ثم عادت لتفرق بيننا المسافات والهموم وتداعي الأمل.
ترك لي عبد الواحد قصاصة ورق فحسب. قصاصة وحيدة. لتكون إرثي الوحيد من هذا العراق.
وكم كان مفعما بالرجاء بأن تعيد المقاومةُ للغزاة حقنا بالعراق، هذا الرجل الذي ظل الفارق بين عمره وحيويته يكبر كلما أضاف عاما. كان الفارقُ نوعا من الشعر. حسدته بمزاح على مشيته الواثقة، وقامته المستقيمة. فشمخ بها شموخ أسطورة ماجدة.
كان يعرف أنه شَموخ. كان يملؤه مجدُ القصيدة بالزهو. ولكن كان يملؤه العراق أكثر.
ما من شاعر في كل تاريخ العراق تلبس بالعراق زهوا ورفعة مثلما فعل عبد الواحد. تلبس به، فقط؟
كان ثمة إلتباس حقيقي بينه وبين كل شيء في هذا العراق. لا تعرف وأنت تتحدث معه، إن كنت تخاطب شاعرا، أم أسطورة كُتبت على طين.
سيدي عبد الواحد. لا أعرف عن ماذا أعتذر.
اعتذر لأني لم أكن قريبا من فراشك مرضك. أعتذر لأني لم أواصل الرحلة النضالية من أجل عراق آخر. أعتذر عن موتك في الغربة. أعتذر عن عراق أورثك المرارة. أعتذر عن الدمع الذي كم كان يسهل أن يسيل على خديك وأنت تتحدث عن بغداد. أم أعتذر عن نُصب لم ننصبه بعد، ولم نسوّره بعد بالزهور.
فاقبل اعتذاراتي حتى آتي اليك، لأقبل رأسك ويديك وقدميك، ولأقبل زهو العراق فيك.
لقد جرحنا هذا العراق كثيرا. جرحنا شعبه، مثلما جرحنا مناضلوه، ربما أكثر مما فعل كل الذين تولوا فساد السلطة بعد عام 2003، لأنهم مسؤولون عن تبديد الرمق الأخير: الأمل.
ذهبتَ جريحا. وظل الجرح ينزف. وظلت “يا صبر أيوب” مُعلقتنا. وما نزال نصبر على وطن ظل “يمشي وحاديه يحدو وهو يحتملُ”، وطن ظل “مخزر الموت في جنبيه ينتشلُ”، من كلكامش الى يومنا هذا. وما لنا غيره. ونردد ما كنت تقول، فلا هو “ثوبٌ فنخلعه إن ضاق عنا، ولا دار فننتقلُ”.
“لكنَّه وطنٌ أدنى مكارمه
يا صبر أيوب أنَّــا فيه نكتملُ
وأنَّه غرَّةُ الأوطان أجمعهـا
فأين من غـرَّة الأوطان نرتحلُ”.
الآن نعرف. إنه الموت يا أيوب. إنه الأسى يا أيوب. والصبر مُرٌّ فيه يا أيوب.