المفهوم العام للعبادة لا يلتقي مع التقليد الذي يبنى على الظن لدى كثير من الناس الذين يبحثون عن الحقيقة التي لا تتفق أغراضها مع الغاية من إيجاد جميع المخلوقات، ولا يخفى على المتأمل من أن لذلك المفهوم مجموعة من المصاديق تشترك جميعها في المعنى الأول الذي اتفق العقلاء عليه في أصل الوضع وإن كان هناك نوعاً من الضبابية عند الإشارة إلى المصطلح، وذلك لأن المسمى لا يمكن أن يضاف إلى الطباع القسرية التي يلجأ المكلفون إلى فهم مقاصدها، وهذا ما يجعل الباحث عن المعنى الأصلي يجانب العمق الذي نظر إلى مقرراته دون الاعتماد على جميع المصاديق، ولهذا أخذ يتفاعل مع مجموعة من المعطيات لا تختلف مقوماتها عن المفهوم العام الذي بدأنا حديثنا فيه، ومن هنا وجب التفريق بين العبادة الإضطرارية وما يقابلها من العبادة الاختيارية، وإن كان بعض الناس يجعل للأولى اسماً آخر قد يكون مأخوذاً من المعنى الإشاري الذي يرمز إلى العبودية دون الاستناد إلى أصل الوضع، وعلى هذا القياس تكون العبادة الإضطرارية عامة لجميع الخلق ولا يمكن جحودها أو التخلص منها وذلك لأسباب تتعلق بطبيعة الخلقة التي لا يستطيع الإنسان أن يتصرف بمدلولها فضلاً عن المخلوقات الأخرى وكذلك لا يحق له أخذ أو ترك ما يتناسب ورغباته الخاصة باعتبار تجرد هذا الأمر عن التشريع دون التكوين فتأمل.
وبناءً على ما تقدم نعلم أن هذا المعنى يجري في جميع المخلوقات قبل الشروع بتكوينها وأنت خبير من أن الإنسان لا يخرج عن هذا العموم، وقد بين الله تعالى هذه الحقيقة بقوله: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) الإنسان 1. وعند مرور الإنسان في المراحل الخلقية التي قدرها الحق سبحانه فمن الطبيعي أن تكون أفعاله خارجة عن الاختيار، وهذا ما بينه تعالى بقوله: (لتركبن طبقاً عن طبق) الانشقاق 19. ثم إن الرجوع إلى الله تعالى لا يبتعد عن هذا القانون، كما هو ظاهر في قوله: (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً) مريم 93. من هنا يتضح أن ما جاء به الأنبياء لا يقتضي الإشارة إلى هذا المصداق من العبادة التي أطلق عليها بعض الناس مصطلح “العبادة القهرية” وإن كان ذلك من باب التوسع لأنها خارجة عن إرادة الإنسان، ولهذا تُعد من الأشياء التي فُرغ منها سواء اعترف بها الإنسان أم لم يعترف.
فإن قيل: إذا كانت مهمة الأنبياء خارجة عن هذه العبادة فما هو سبب إرسالهم؟ أقول: السبب المباشر لإرسالهم يتعلق في الجزء الثاني من مفهوم العبادة والتي تكون داخلة ضمن الاختيار الذي يجد الإنسان سلطانه في نفسه وغير خارج عن فطرته، ولهذا جعل الله تعالى لهذا المصداق ما يقرر التزاماته الفعلية التي يجد الإنسان أغراضها بجانب الطرق المؤدية إلى بيان أسس السعادة أو الشقاء ضمن عملية مقدرة لا يمكن التوصل إلى معرفة ما خفي من أسرارها إلا عن طريق الفطرة وإن كان ذلك بوجه، ولهذا فمن باب أولى أن تُثار تلك الفطرة بين حين وآخر، ولا يمكن أن يتم هذا الأمر إلا بفعل فاعل وذلك لتعذر الحصول عليه بطريقة تلقائية، وهذا ما أدّى إلى إرسال الأنبياء وإتمام الحجة على الناس أو على المكلفين بصورة عامة، ولهذا قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) الإسراء 15. ومن هنا اجتمعت
الأسباب المؤدية إلى إرسال الرسل وتبليغ الرسالات التي اختلفت في مصاديقها وإن كان مردها إلى مفهوم واحد لا يمكن أن يخضع للتبديل أو التغيير، وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) المائدة 48. فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك فما سبب تكذيب الأنبياء من قبل المرسل إليهم؟ أقول: على الرغم من تبيان المطالب اليقينية التي نادى بها الرسل إلا أن هناك مجموعة من الدوافع المادية جعلت أقوامهم أقرب إلى عدم التصديق، وإن كان الأمر يقتضي الانصراف إلى الجحود مع الاستيقان وذلك حفاظاً على المصالح المرتبطة بالمترفين منهم، والتي يظنون أن زوالها سيكون على يد التجديد الذي جاء به الأنبياء، وهذه الأمة لا تختلف عن غيرها من الأمم إلا أن الفرق الوحيد الذي أدّى إلى رفع عذاب الاستئصال عنهم يُرد إلى وجود النبي (ص) بين أظهرهم، ولهذا ترى أن لهؤلاء الكثير من المقترحات التي من بينها أن يفجر لهم رسول الله من الأرض ينبوعاً، أو تكون له جنة من أعناب ونخيل ثم يفجر من خلالها الأنهار، أو يسقط السماء عليهم كسفاً أو يأتي بالله والملائكة قبيلاً، ثم بعد ذلك اقترحوا أن يكون له بيت من زخرف أو أن ينزّل عليهم كتاباً من السماء.
والمتأمل في مطالب القوم يصل إلى حقيقة قد تكون غائبة على كثير من الناس، وهي أن المشركين كان لديهم علم بوجود الله، وربما يتضح هذا المعنى أكثر عند الرجوع إلى متفرقات القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) لقمان 25. الزمر 38. ولكن كان طلب هؤلاء هو الحصول على دليل قاطع يبين صدق الرسالة تعنتاً وجحوداً، ولهذا كانت اقتراحاتهم من هذا المنطلق كما قدمنا بعضاً منها، وهي مفصلة في سورة الإسراء وفي مواضع أخرى من القرآن الكريم. فإن قيل: إذا كان المشركون على يقين من أمرهم كما بينت من خلال البحث فما فائدة اقتراحاتهم؟ أقول: إن الذي يدعوهم إلى هذا التمرد وإثارة الأمور بهذا الشكل لا يجانب استكبارهم وعنادهم دون الشك الحقيقي إضافة إلى أنهم كانوا على معرفة ويقين من صدق القرآن الكريم لأنهم أهل الفصاحة والبلاغة.
من هنا يظهر أن المطالب التي اقترحوا الحصول عليها ما هي إلا إحدى وسائل الجحود التي لا تفارق أفكارهم دون أن يكون هذا الأمر بمعزل عن علمهم، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) الأنعام 7. فإن قيل: لمَ قال تعالى: (فلمسوه بأيديهم) واللمس لا يكون إلا باليد ألا يعتبر هذا تحصيل حاصل؟ أقول: يطلق اللمس ويراد منه المعنى المتعارف عليه كما في الآية آنفة الذكر، وكما في قوله: (أو لامستم النساء) النساء 43. المائدة 6. “وعلى الرغم من حمل هذا اللفظ على الكناية إلا أنه يدخل في المعنى الذي أشرنا إليه” وقد يطلق ويراد منه الكشف عن الأشياء والتحقق منها وإن لم يكن لليد دخل في ذلك، كما في قوله تعالى حكاية عن الجن: (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً) الجن 8. وبهذا يظهر السبب من إضافة اليد في آية سورة الأنعام وذلك لأن اللمس على بابه.. فتأمل. فإن قيل: لماذا وصفهم الله تعالى بأنهم كفروا إذا كان لديهم معرفة بوجود الله كما قدمت؟ أقول: أطلق الله تعالى عليهم مصطلح الكفر وذلك لإنكارهم حقيقة الرسالة التي جاء بها النبي لأن معنى الكفر هو الستر على أمر معروف لدى من يؤمن به، وهذا ما يفهم من أصل المصطلح عند الوضع وقد يتضح هذا المعنى أكثر عند الرجوع إلى قوله تعالى: (كمثل غيث أعجب الكفار نباته) الحديد 20. والمراد بالكفار في الآية “الزرّاع” ومن هنا أشار إليهم تعالى بهذه التسمية وذلك لتغطيتهم البذر وستره في الأرض، وبهذا يظهر أن معنى الكفر هو ستر
الأشياء بعد التيقن منها وهذا المصطلح يستعمل في الأعيان والمعاني. وبعد أن علمنا هذا المعنى نصل إلى أن أولئك القوم لا يمكنهم تصديق تلك الاقتراحات إلا بإرسال ملك من السماء تكون مهمته التعريف برسالة النبي (ص) ولهذا بين الله تعالى أن إنزال الملك لا يجدي نفعاً مع هؤلاء، وذلك نظراً إلى الترقي غير المبرر بالاقتراحات التي كانوا يريدونها وبمختلف الطرق التي ذكرناها، وهذا ما أشار إليه تعالى بقوله: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون) الأنعام 9.
هذا ما لدينا وللمفسرين في الآية آراء:
الرأي الأول: قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: قوله تعالى: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً) أي لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلا بعد التجسيم بالأجسام الكثيفة، لأن كل جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه، فلو جعل الله تعالى الرسول إلى البشر ملكاً لنفروا من مقاربته، ولما أنسوا به، ولداخلهم من الرعب من كلامه والإتقاء له ما يكفهم عن كلامه، ويمنعهم عن سؤاله، فلا تعم المصلحة، ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا: لست ملكاً وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم، وكانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر فأتوا إبراهيم ولوطاً في صورة الآدميين، وأتى جبرائيل النبي (ص) في صورة دحية الكلبي، أي لو نزل ملك لرأوه في صورة رجل كما جرت عادة الأنبياء، ولو نزل على عادته لم يروه فإذا جعلناه رجلاً التبس عليهم فكانوا يقولون هذا ساحر مثلك. انتهى.
ومن أراد ما تبقى من رأي القرطبي فليراجع تفسير الجامع لأحكام القرآن.
الرأي الثاني: يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير: قوله تعالى: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً) عطف على قوله: (ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر) فهو جواب ثان عن مقترحهم، فيه ارتقاء في الجواب، وذلك أن مقترحهم يستلزم الاستغناء عن بعثة رسول من البشر، لأنه إذا كانت دعوة الرسول البشري غير مقبولة عندهم إلا إذا قارنه ملك يكون معه نذيراً كما قالوه وحكي عنهم في غير هذه الآية، فقد صار مجيء رسول بشري إليهم غير مجد للاستغناء عنه بالملك الذي يصاحبه، على أنهم صرحوا بهذا اللازم فيما حكي عنهم في غير هذه الآية، وهو قوله تعالى: (قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة) فجاء هذا الجواب الثاني صالحاً لرد الافتراضين، ولكنه روعي في تركيب ألفاظه ما يناسب المعنى الثاني لكلامهم فجيء بفعل (جعلنا) المقتضي تصيير شيء آخر أو تعويضه به.
ويضيف ابن عاشور: فضمير جعلناه عائد إلى الرسول الذي عاد إليه ضمير (لو لا أنزل عليه ملك) أي ولو اكتفينا عن إرسال رسول من نوع البشر، وجعلنا الرسول إليهم ملكاً لتعيّن أن نصور ذلك الملك بصورة رجل، لأنه لا محيد عن تشكّله بشكل لتمكّن إحاطة أبصارهم به وتحيّزه، فإذا تشكّل فإنما يتشكّل في صورة رجل ليطيقوا رؤيته وخطابه، وحينئذ يلتبس عليهم أمره كما التبس عليهم أمر محمد (ص) فجملة (وللبسنا عليهم ما يلبسون) من تمام الدليل والحجة عليهم بعدم جدوى إرسال الملك. واللبس: خلط يعرض في الصفات والمعاني بحيث يعسر تمييز بعضها عن بعض. والمعنى وللبسنا على عقولهم، فشكوا في كونه ملكاً فكذبوه، إذ كان دأب عقولهم تطلّب خوارق العادات استدلالاً بها على الصدق، وترك إعمال النظر الذي يعرف به صدق الصادق. و(ما) في قوله: (ما يلبسون) مصدرية مجردة عن الظرفية، والمعنى
على التشبيه، أي وللبسنا عليهم لبسهم الذي وقع لهم حين قالوا: (لو لا أنزل عليه ملك) أي مثل لبسهم السابق الذي عرض لهم في صدق محمد عليه الصلاة والسلام. انتهى موضع الحاجة من كلامه.
ومن أراد ما تبقى من رأي ابن عاشور فليراجع تفسير التحرير والتنوير.