19 ديسمبر، 2024 3:00 ص

المعتصم، خليفة عباسي، لقب بـ (المثمن)، لانه ثامن خلفاء بني العباس، وثامن أولاد هارون الرشيد، ولان خلافته امتدت لثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، ومات عن ثمانية بنين وثماني بنات، وتولى الخلافة في الثامن عشر من رجب من سنة ثماني عشرة ومائتين للهجرة، وفتح ثمانية فتوح.
تقول إحدى الروايات أنه لما سمع أن امرأة عربية في سوق “عمورية” سُحلت فصاحت: وامعتصماه، أمر بعمامة الغزو واعتمرها ونادى لساعته بالنفير، وانطلق تاركا بغداد والخلافة وكيد ابن أخيه وتهديد “الزط” وخطر “بابك”، ليذهب بجيشه ويحاصر “عمورية” التي يعتز بها كونها مسقط رأس والدته، فاستسلمت بعد دقها بالمجانيق ودخلها على أشلاء ثلاثين ألفا من أهلها، باحثا عن تلك المرأة فلما حضرت، قال لها: هل أجابك المعتصم، قالت: نعم.
وخصّ كبار الشعراء المعركة والمعتصم بقصائد المدح، ومنهم أبو تمام في بائيته الخالدة التي كسر فيها عمود الشعر:

       السيف أصدق أنباء من الكتب          في حدّه الحدّ بين الجد واللعب

تذكرت “عمورية” وتلك المرأة المظلومة وأنا أشاهد بعيني المجردة وبالفضائيات وباليوتيوب مالايصدق في بلد أوصل الماء ـ قبل آلاف السنوات ـ للجنائن المعلقة ولايستطيع أحفاد بابل الحاكمون أن ينظموا عمل المجاري، في بلد مؤسس لعصبة الامم وجمعية الامم والجامعة العربية ويفتقر مواطنوه لمؤسسة خدمات عصرية، في بلد تفوق ميزانيته مداخيل عشر دول معروفة وتستطيع حكومته أن تشكل قيادة قوات دجلة في اسبوعين ولاتستطيع نصب منظومة صرف مياه خلال عشر سنوات، في بلد تنعدم فيه الخدمات بشكل تام فيتراشق المسؤولون الاتهامات فيما بينهم محاولين تبرئة أنفسهم وكلهم مدانون لانهم ليسوا الاشخاص المناسبين في الأماكن المناسبة، ومن عمى بصرهم وبصيرتهم صاروا يتهمون السماء بانها هي التي غلطت وارسلت كمية امطار لاتتناسب وحجم شبكة تصريف العاصمة.
مطر يحمل كنية “الخير” دائما وأبدا ولكنه في عراق المحاصصة يؤدي الى مصرع المواطنين في الفضيلية وشارع فلسطين وحي طارق لانهيار منازلهم بالكامل، وتغلق الشوارع، وينتشر بيع الصنارات، حتى ما عاد البغداديون يحلمون بزيارة البندقية.
 وبعد أسبوعين من صولة الامطار مازالت الفروع والدرابين تتنفس من تحت الماء، واذا اعتبرنا من المعقول أن نسمع خبرا يقول أن منزلا طينيا تسكنه عائلة معدمة، إنهار بسبب الأمطار فمات تحته أربعة أشقاء بينهم فتاتان عمرهما 18 و12 عاما، فهل من المعقول أن يصل سوء الحال بنا الى أن يخلي الهلال الأحمر قرية كاملة بعد انهيار المنازل فيها بسبب الأمطار، فهذه ليست مأساة بل مهزلة حكومية لايمكن السكوت عليها.
وفي هذا الهول الهائل، سمعنا جميعا أهالينا الغرقى وهم يوجهون الادانات واضحة وصريحة الى المسؤولين، وحتى وجهوا الاتهامات وكالوا الشتائم، ولكن حتى اذا اعتبرنا أن رواية “عمورية” من نسج الخيال، فحتى من خلال هذا الخيال الفسيح لايستطيع ـ اليوم ـ أي أحد أن ينسج رواية ويقول بأن مواطنة واحدة ببغداد وهي تغرق بالامطار قد استنجدت بمسؤول، وصاحت: واحكومتاه،، ولكنها بكل تأكيد بكت وصاحت ونادت بصوت عال: آه من حكومتاه.

أحدث المقالات

أحدث المقالات