من اصعب ما تواجه المجتمعات، ان تكون لها شخصية واضحةالملامح. فالتفكير، والهيئة، والادراك، والعواطف، والنمط، والمزاج…مفردات يمكن التوغل فيها على انفراد، لكنها مجتمعة، وهي مكوناتالشخصية، صعبة الانقياد لصالح تحقيق تلك الشخصية.
وعلى اساسه، السؤال المطروح: هل يملك العرب شخصية؟ بل هل ملكالعرب شخصية؟ واذا كانوا قد ملكوها، هل هي باقية فيهم ام ضاعت؟واذا كانت ضاعت، فكيف ضاعت ولماذا؟ واذا كنا لم نملك ولا نملكشخصية، فما السبيل الى تكوينها من جديد؟اذن هي اسئلة وليسسؤالاً واحداً.
تقول السكرتيرة الشرقية للحاكم العسكري في العراق المس بيلالانكليزية: ان العرب خلقوا لكي يقادوا لا لكي يقودوا. انتهى القولليبدأ التعليق منا عليه.
هناك فرق بين القيادة والانقياد، وبينهما تتوضح شخصية الفرد سلبااو ايجاباً. العرب شأنهم شأن أي قوم غيرهم، يحتاجون الىالشخصية لكي يتخلصوا من الانقياد ويبدأوا بقيادة انفسهم، تبدأالشخصية بالتثقيف ومن لا ثقافة له، لا شخصية له، وفي التثقيف يبدأاختبار النمط العقلي في التفكير. فما مكونات العقل العربي؟
انها اجزاء الدين واللغة والاسطورة. فثقافتنا دينية قبل كل شيء. انالعرب افضائيون، ادى فيهم التوحيد الى الاحالة والحتمية على الرغممن اشراق صورته لديهم. والتدين عند العرب صيغة قسرية ينتعشفيها الخوف اكثر من الحب. لا يعني هذا انهم مجبرون على التدين. بليعني ان لغة من لغات القانون العام في الدين هي التي تحكمهم،ولذلك يميلون الى الاسترخاء في اداء الواجب الديني بين حين وآخر،الواجب الديني الذي يربط ضمير الارض بضمير السماء ربطاً شديداًمستمراً. وعماد الدين عند العرب اللغة، لذلك فهو دين اتصالي يقومعلى الحوار.
والعربي يعاني كثيراً من لغته، فالذين يتكلمونها كثيرون، والذينيجيدونها قليلون، وشتان بين التكلم والاجادة. ومن اللغة الى الدينتدخل الاسطورة عنصراً فاعلاً في التثقيف. فالدين البكر عند العربمقدس تدخلت فيه الاسطورة، فجعلت المقدس محرماً واضافة صيغةالخوف الى صيغة الحب فيه. من هنا كان العقل العربي شركة لمفرداتتداخلت فيه تداخلا غير متساو وعلى نحو غير عادل. من هذا يجب اننعرف اننا مدعوون الى اعادة قراءة الدين واللغة والاسطورة من جديدلنفك هذا التلاحم الخاطئ بين هذه الاجزاء.
ومن ملامح الشخصية المطلوبة للعرب ملمح الشجاعة، فما من احديستطيع ان يفصل بين الشخصية وجزئها الفيزيائي– الشجاعةــــــ لاتزال الشجاعة عند العربي تعني العصا الغليظة، والخنجر في المحزموالسيف في اليمين.
ان للشجاعة مفاهيم معاصرة تعني غير ما درج العربي على فهمه. فالرأي في كيفية صناعته وطريقة الاحتفاظ به والمضي في تنفيذهحتى بلوغ الهدف شجاعة، والصبر من دون الايحاء بالذل والاستكانةشجاعة، والتخطيط لكيفية استخدام العصا حيناً واستخدام اللين،والتوأدة حيناً آخر شجاعة، والبناء المثمر الصامت الذي لا لغة له الالغة الارقام شجاعة.
وهناك بعد آخر للشخصية المطلوبة للعربي، هو بعد التعامل معالاعداء. لقد كنا ننظر الى الاعداء من وراء ستار فلا نرى ما يفعلونهويعدونه لنا، في حين كان المطلوب ان ننظر اليهم من خلال الثقوبوالثغرات، من بين الفجوات، من زلات الالسن، من اصفرار الوجوه، منحركات الارجل، من تغيرات ضغط الدم، من طبيعة الامراض النفسيةلديهم، من اختلال الثقافة الجنسية، من هيمنة الابيض على الاسود.
ومن مطالبنا في تشكيل الشخصية العربية، مطلب الثقافة الجديدة فيالنظرة الى الجنس. لا يمكن اغفال الثقافة الجنسية، اننا لا نزال ننظرالى ثقافتنا هذه على انها عورة من العورات. صحيح ان كل التنظيماتالثورية في الوطن العربي نادت بالمرأة وجعلت لها منتدياتومؤسسات، ولكننا لم نلتفت الى حقيقة ان مجرد وجود هذه المؤسساتالمنفصلة دليل على انقسام المجتمع على رجل وامرأة.
اضرب لذلك مثلاً: هناك جمعية الرفق بالحيوان، هذه الجمعية لا تقوم لولم يكن هناك ظلم للحيوان واعتداء عليه. هناك جمعية حقوق الانسان،هذه الجمعية ما قامت لو لم يكن هناك شعور باضطهاد انسان لانسانآخر. هناك منظمة الدفاع عن حقوق المرأة، مثل هذه المنظمة لا تقوم الالوجود حقوق مأكولة للمرأة.
لقد آن الاوان ان نعرف ان المرأة في المجتمع موجودة وهي فاعلة فيه. ماذا يحدث لو قامت جمعية اسمها جمعية الدفاع عن حقوق الرجل؟الا يعني هذا ان الرجل مظلوم ويستحق الدفاع عنه؟
أود ان اسأل في كل بلاد العرب: من هو صاحب القرار في البيت – الرجل ام المرأة؟ أليس البيت واجواؤه هو المغذي الاول لكل نشاطاتنافي المعمل والمدرسة والحقل؟
ان الثقافة الجنسية تبدأ من هنا، من تحطيم الحدود بين مؤسساتهمومؤسساتهن، فهي اخت وام، اذا دخلت المؤسسة، لا يعني دخولها انعورة من العورات قد دخلت.
ان الثقافة الجنسية لا تعني القدرة على التفنن في ملابس المرأةوابتكار التقليعات، بل انها الثورة على شبحية الحياة الخاصة. صحيحان للمرأة وضعاً نفسياً خاصاً يحتمه مرورها بالدورة الشهرية وحقبةالحمل واربعين النفاس، لكن ذلك لا يمنع من النظر الى المرآة انساناًادى بوضعهن الى الاعتزال الثقافي. فالبايولوجيا لا تحارب النزوعالاجتماعي، لذلك صار واجبا حضاريا علنيا ان نتكلم على الشخصيةالعربية من دون ان نقول بشخصية ذكورية وشخصية انثوية.
ومن ملامح الشخصية العربية التي نريد، ظهور الخلاص الحقيقيالجاد من عصر الاقطاع. ان للاقطاع مفاهيم كثيرة، فهو لا يزولبزوال الشخص المالك المستبد، انه يزول حين نتحرر نهائيا منالاقطاعي الساكن في اعماق كل منا بصورة خفية. وفي مواجهةالاقطاع، يجب ان نرفع راية الزهد ولكن ليس على الطريقة المتطرفة فيالتصوف، اعني– الزهد العارف بان اللذة ضرورية ولكنها ليستالحدود النهائية للانسان. اعني بالزهد ان نسحق المغريات بالاقدامبعد ان نعرف انها مغريات.
لا قدرة للفرد العربي على مواجهة الاقطاع الخاص والعام الا بالايمانبالله وبأن كل ما نملك هو الخاتمة ملك لله وحده.
يقول شبنغلر– ان الناس مخلوقون على نبلاء وغير نبلاء. انه قرار منقرارات الحتمية التي آمن بها شبنغلر، لكنه قرار يحمل من الصحةبعض الشيء.
اننا لسنا من اتباع شبنغلر في مثل هذا التقسيم، كما اننا لسنا مناتباع ماركس حين نادى بمفهوم الشغيلة الذاهبة صعداً عبر ثورةالبروليتاريا، الى مصاف النبل الانساني المطلق.
اننا شخصية وسطى مثلما اراد الله للعرب ان تكون امة وسطا. اننانتوجه الى النبلاء ان يستخدموا غير النبلاء استخداماً اقطاعياً. انغير النبيل مجبر على ان ينحاز الى الرذيلة بحكم انعدام نبله، وهذا مانحاربه في تكوين الشخصية العربية الجديدة.
وللشخصية العربية مجال آخر مجال المزاج اليومي. فالعربي متهمبالتأرجح العاطفي والغلواء في المطالب والحاجات، مثل طفل يبكي اذالم يجد قطعة حلوى في يده. الشخصية العربية الجديدة مطالبة بكثيرمن الاناة واستقرار العواطف والنظر الى الامور بعين شبيهة بعينزرقاء اليمامة.
الى الآن، ولا زال مفهوم الرأي العام مغدورا في فهمه لدى العرب. منالباحثيين الاجتماعيين من يقول ان لا وجود للرأي العام، وان الناسعلى دين ملوكهم ، علينا ان نفرق بين الرأي العام والفوضى. وفيمواجهة صعوبة الاخذ بالرأي العام، مطلوب منا ان نعتمد طريقةالاحصاء والانتخاب، فالاحصاء هو الحق في تقرير هوية الرأي العام،واذا كان القول التاريخي الذي يقرر –ان رضاء الناس غاية لا تدرك – لا يزال فاعلاً، فانه لا يلغي القول التاريخي الآخر الذي يقرر ان – الرأي ما اتفق السواد عليه.
يقول الغربيون عن العرب: ان العرب امة اتفقت على الاختلاف، لا ضررفي هذا ابدا. فالاحتلاف دليل حيوية الفكر، ولكن موت العقل يكمن فيصعوبة الاتفاق على ذلك.
ان الشخصية العربية لا تزال شخصية شعرية محكومة بتجليات عنترةورياضة ابي فراس الحمداني ،والشعر عن هذه الشخصية هو الرؤيةالفنية التي لا تخدم الوظيفة الاجتماعية ولا تقدم شيئا للمنحنى العقليفي الصراع من اجل البقاء. لقد طرد افلاطون الشعراء من جمهوريته،وعينهم ماركس في المرحلة التعاونية للشيوعية عما لا يفكرون، لكنالشاعر العربي لم يخرج من جمهورية العرب ولم يشتغل عاملاً يفكرفي مملكة ماركس، بل اختار له– واستميح العذر ممن لا يشملهم قولي– ما سوشيبة عند المرأة المعشوقة. فبدلاً من ان يكون الشاعر العربي،وهو جزء من الشخصية العربية، عاملاً يفكر، صار عاشقاً لا يفكر الابالمرأة ومسوغات اجوائها– الخمرة.
ان الشخصية العربية لا تزال تنظر الى غيرها بعين المراقب وهذا امرمقبول ومرفوض في آن. فالرقابة على الغير من اجل المنافسة المطلوبة،والرقابة على الغير بصيغة الخوف والتهيب والمحاكاة مرفوضة. ولكيتقوم الشخصية العربية مقامها الصحيح، مطلوب منها ان تتخلص منالنفاق، فالمنافق عدو نفسه قبل ان يكون عدو غيره، لانه لا يغدر الانفسه.
اننا كثيراً ما نربط النفاق بعلامة الحاكم والمحكوم، ولكننا هنا لا نعنيهذا بل نعني ما هو اعمق واشمل، فان تأكل غير ما تشتهي نفاق، وانتلبس غير ما يحلو لك نفاق، وان تضحك وانت تبكي نفاق، وان تبكيوان تضحك نفاق، وان تتغابى وانت ذكي نفاق، وان تتذاكى وانت غبينفاق، وان تصمت وانت تتكلم نفاق، وان تتكلم ولا تقول شيئا نفاق، وانتسكن قصرا وجيبك فارغ نفاق، وان تسكن خيمة وجيبك ملآن نفاق،ان شر المفلسين المنافق، ولا شخصية لمنافق.
ومن امراض الشخصية العربية المعاصرة اثقالها بالتقاليد والنواميسوالاعراف… ان القيم الروحية غير ثقيلة، فهي مما خف وزنه وغلا ثمنه. فنحن لا نزال نجلس بتكلف ونتكلم بتكلف ونضحك بتكلف ونمشيبتكلف. الى متى هذه الكلفة يا معشر العرب؟
لقد برز لدينا من يقول – ان ابني صديقي. لا اتحرج من شرب الخمرةمعه ومعاقرة التدخين معه، وزيارة البغايا معه. هل يعني هذا شيئا منالحداثة في الشخصية العربية؟ الذي اعرفه ان للأبوة اعرافاً ليستثقيلة ولكنها اصيلة. أي وقار يبقى للاب الذي يكون على هذه الشاكلةواية هيبة لمقام الاباء امام الابناء؟ان البيت هو المدرسة الاولى، وطوبىلمن تخرج فيها على غير ما ذكرنا.
لقد شاخت لدى الشخصية العربية المعاصرة مفاهيم الامانة. فلقداشتهر العربي القديم بامانته، لكن الامانة اليوم شيء محسوب علىذمة التراث.
لا اريد ان اكون واعظاً دينياً لكنني اود ان اقول ان الغيبة صفة منصفات الشخص المريض. وخير وسيلة لمحاربة الغيبة ان تجعلها معلنةوان تؤمن حقاً بالنقد الذاتي، ونقد الاخر امامه لكي تزول الغيبة، فحيننزول الغيبة ومعها النميمة، تظهر الشخصية الواضحة التي تتخلصمن البارانويا ومن انفصام الشخصية بسهولة ويسر.
لا تزال الشخصية العربية تعاني من بعض الاستعلاء على الغير،فكلما قالوا (نحن) قلنا لهم نحن العرب. فاذا كان فينا الدين الحنيف،فهذا تكليف قبل ان يكون تشريفاً، ومثلما لنا لغة فيها شعر ونثر،للناس لغة فيها شعر ونثر. ومثلما لنا نساء جميلات، للناس نساءجميلات… ان اكرمكم عند الله اتقاكم… ان الاستعلاء يهدم الفرد منالداخل ويجعله فارغاً من كل محتوى.
ان الاستعلاء يهدم الفرد من الداخل ويجعله فارغاً من كل محتوى، انالشخصية العربية لا تزال ملتفتة الى الوراء اكثر من التفاتها الىيومها او تطلعها الى غدها.
ان الشخصية العربية لا تنهض ما لم ينهض مجتمعها، وهذا لا ينهضما لم تقم فيه المؤسسة الدستورية، اعني بالمؤسسة انك تشعر بسيادةالقانون الطويل النفس المستقر اينما ذهبت وجلست وجالست.
والشخصية العربية تشعر بضرورة الوحدة العربية ولا تعمل لها بلربما تخاف منها لأن الاثرة فيها لم ترتق بعد الى مقام الايثار. ولا حياةللشخصية العربية بدون الوحدة العربية، لان العقل العربي كائنتكافلي وليس نوعا انفرادياً في التصور.
ان الشخصية العربية لا تزال شخصية غيبية يستوي عندها الاملوالخوف من الغيب، ولا تزال لا تفرق بين عالم الغيب والغيبيات التيتخاطبها قارئة (الفنجان)، وقارئ الكف، وضارب مطالع النجوموالابراج.
لا تزال النساء يؤمن بالتبرك الى حد منافسة الضريح لدعاء الله العليالقدير. لا نزال لا نفرق بين مفاهيم الحظ والنصيب والقسمة وسعيالانسان. لا تزال قوانين الحتمية والجبر مهيمنة على العقول. ولا تزالدمية السبع عيون تتصدر ابواب بيوت حتى المثقفين منا. لا تزال تكتبعلى خلفيات السيارات – محروسة…، عين الحسود فيها عود– … اتركني مخطوبة… ليش تغار… بمثل هذه وهؤلاء لن تقوم الشخصيةالعربية، ونحن على مشارف دعوة الى نجاح جديد وعصر جديد.