22 ديسمبر، 2024 7:45 م

هل تتحمل صحافتنا المسؤولية باقتدار ؟

هل تتحمل صحافتنا المسؤولية باقتدار ؟

في المنعطفات التاريخية الحاسمة من حياة الأمم يبرز دور الصحافة كأداة لإرساء سياسة وطنية وكوسيلة للتنوير وتوسيع الأفق الذهني والرؤى الفكرية لدى المواطن ، مما يفضي إلى إشاعة المعرفة وتنظيم الذاكرة الجماعية للمجتمع.
وحيث أن الصحافة بمفاهيمها العلمية مازالت حديثة على الفكر والممارسة العراقية فإنها لابد في هذه المرحلة الحساسة وفي ظل الظروف الصعبة أن يتم العمل الموصول والدؤوب على استيعاب هذا الضرب من ضروب المعرفة والانتفاع به.
بعد التاسع من نيسان عام 2003 ، أصبحت الصحافة العراقية ، جديدة وحرة، وفي الوقت نفسه ، مثار تندر وسخرية الشارع العراقي . والسبب في ذلك ، تركيزها على الطابع الاستهلاكي الدعائي الخطابي الضجيجي، مما أوقعها في أخطاء كارثية سقطت فيها ومازالت:- كذب ، رياء ، تزلف ، تدجيل ، ترويج ضلالات ، خلق افتراءات مذهبية ، سرقة مواضيع ، ركاكة وسطحية التحليلات والآراء والأفكار المنشورة فيها ، ناهيك عن الإنشائية البائسة التي تتميز بها ، وغيرها كثير… مما أفقدها مصداقيتها لدى المواطن العراقي . وأمام هذه القضايا دارت نقاشات عديدة حول حدود حرية الصحافة العراقية والتزامها المبدئي والمهني ، وموقف نقابة الصحفيين العراقيين العتيدة – بفضل مقاوليها وأسطواتها – بهامشيتها وتخلفها.
إننا لايمكننا أن نناقش قضية الصحافة العراقية الآن بعيداً عن قضايا أخرى تؤثر فيها وتتأثر بها . وإذا أردنا أن نضع بعض الملاحظات حول سلبياتها فيمكن أن نرصدها في الآتي:-
ـ كان هناك فهم خاطئ لمعنى حرية الصحافة ، وكان هناك اعتقاد بأن ذلك يرجع إلى عقود من الكبت الفكري والسياسي تعرض لها أصحاب الأقلام ، ولكن هذا الفهم الخاطيء تجاوز كل الحدود ، وقد أتضح ذلك في صراعات كثيرة حركتها المصالح ولم تحركها الغايات النبيلة ، وانقسم فرسان الأمية الصحفية أصحاب الصحف إلى فرق وأحزاب ، وكانت الصحافة الجديدة الحرة هي الضحية في ذلك كله.
إن من يراجع ماكتب في الصحافة العراقية منذ التاسع من نيسان وحتى الآن يكتشف إلى أي مدى كانت خسائرها ، لأنها تركت القضايا الحقيقية وركزت كل جهودها في صراعات مصلحية استنفدت كل طاقاتها . وللأسف الشديد ، إن هناك قضايا كثيرة ظلت معلقة أمام تركيز هذه الصحافة على قضايا شكلية تافهة . وكان من المفروض أن تسعى صحافتنا الجديدة الحرة إلى تأكيد القيمة الحقيقية لحرية الصحافة على المستوى السياسي والفكري ، لأنهما يمثلان القاعدة الأساسية لدور الصحافة ومسؤولياتها ، ولكن صحافة الابتذال والسطحية كانت هي الأعلى صوتاً للأسف.
ـ إن صحافتنا الجديدة الحرة تعاني اليوم ضغوطاً كثيرة تتعرض لها من جانب بعض الأحزاب والشخصيات النافذة المدعومة من قبل (…) . هذه الضغوط تبدأ بتحميل الصحافة كل الأخطاء وتنتهي بمحاولة شراء بعض الأقلام ، حيث أن كل مسؤول أو رئيس حزب الآن يسعى إلى استقطاب أقلام تحمل له المباخر فتبرر الأخطاء وتكتب مقالات المديح والتبرير ، بل إنها تصل أحياناً إلى مناطق الذمة . وبإمكان المرء ببساطة أن يحدد لون كثير من الأقلام والرياح التي تحركها ، والمصالح التي تقف وراءها . وهذا يعني أن هؤلاء المتنفذين سعوا بكل الوسائل إلى إفساد المهنة ، ابتداءاً بشراء بعض الأقلام وانتهاءاً بإصدار الصحف أو مساندة بعضها . ولقد كان البعض يقف وراء هذه الصحف لتصفية حسابات أو القصاص من معارضين أو منافسين لخلاف في الرأي أو المصالح.
ـ الخلط الواضح بين الصحافة والإعلان ، ولاشك في أن الفصل بينهما ضروري لأن الكتابة شيء والإعلان شيء آخر ، وإذا كان الإعلان يمثل وجهة نظر المعلن فإن الكتابة أمانة ومسؤولية وموقف . وعندما تصبح الكتابة إعلاناً أو يصبح الإعلان رأياً، فهنا تتداخل الأشياء وتفقد الصحافة أهم مقوماتها ، وهي الأمانة والموضوعية والمصداقية . أن الإعلان يمثل خط فاصل بين عمل الصحفي وعمل مندوب الإعلانات ، بمعنى آخر ، بين مصادر تمويل الصحف ومسؤوليات العمل الصحفي.
ـ في هذا الركام الورقي ، ظهر جيل جديد في صحافتنا الحرة لم يدرك بوعي رسالة هذه المهنة النبيلة واستخدم قدراته ومواهبه الوصولية وسط هذا المناخ الصحفي السيء . وهذا الجيل لم يجد من يوفر له مقومات العمل الصحفي بفكره ومسؤولياته وقدراته، ولذلك ضاع وسط مهاترات حزبية أو شكلية استنفدت قدراته. وللأسف الشديد إن الجانب المادي بحكم ضروراته وإغراءاته فرض نفسه فرضاً على هذا الجيل وسط ظروف حياتية وإنسانية صعبة.
هذه بعض هموم صحافتنا الجديدة الحرة ولايمكن أن نلقي مسؤولياتها كما يدعي البعض على نقابة الصحفيين ، لأنها (لاتحل ولاتربط) . ولأن معظم هذه المشاكل جاء من الطارئين على العمل الصحفي وليس من داخله . كما أن هناك جانب آخر يقف وراء هموم الصحافة وسلبياتها هو قضية العلاقة بين الصحافة والسلطة والصحافة ورأس المال.
في تقديري ، إن الصحافة تمثل أهمية خاصة لدى السلطة الواعية ، إنها تكشف الطريق وتحدد مناطق الخطر وتستطيع بحياد وأمانة أن تكون الصوت العاقل بجوار كل مسؤول أمين . وحينما تتجرد صاحبة الجلالة من لعنة الأغراض والمصالح ، فإنها قادرة على أن تكون سنداً حقيقياً لكل مسؤول في موقعه.
إن النقد الموضوعي رسالة ، وكلمة الحق أمانة ، والرأي الجريء مسؤولية ، ولكن كثيراً من المسؤولين عندنا لايريدون صحافة نقد أو رأي أو كلمة صادقة ، إنهم يريدون فقط فريقاً من حملة المباخر . ومن هنا يكون الصدام أحياناً بين الصحافة الملتزمة والسلطة.
في بعض الأحيان يكون المسؤول على درجة من الوعي بحيث يستفيد من كل ماتكتبه الصحافة حتى ولو كان نقداً . ومادام النقد بعيداً عن الأغراض والشوائب فإن الأمانة تقتضي من المسؤول أن يسمع لهذا النقد ويعمل له ألف حساب.
وأمام بقاء المسؤولين فترات طويلة في مواقعهم وأمام إحساسهم بأنهم أصبحوا دون غيرهم قادرين بحكم الخبرة على فهم كل شيء ، وإدراك كل شيء ، فإن موقفهم من النقد حتى ولو كان موضوعياً أصبح صعباً . من هنا كان رفض المسؤولين لمبدأ النقد ، وهنا أيضاً سعى بعضهم إلى تجاوز منطقة الرفض لقضايا النقد إلى محاولة السعي لاستقطاب أقلام ترد لا تحاور.
ثم جاءت خطوة أخرى هي محاولة إصدار صحف بصورة علنية مباشرة أو مساندتها بصورة غير مباشرة لكي تتبنى قضايا هذا المسؤول وتدافع عن إنجازاته ، وكان الأخطر من ذلك كله أن تصل عملية الاستقطاب إلى تصفية الحسابات بين المسؤولين أنفسهم من خلال الصحافة . وهذه كانت أخطر مناطق الانفلات في مسيرة الصحافة العراقية الجديدة الحرة.
هناك عشرات الصحف التي صدرت وخلفها أسماء غريبة لايعرفها أحد ، رغم أننا جميعاً نعلم الأعباء المالية التي يتطلبها إصدار صحيفة ، ونرى أشخاصاً لاتاريخ لهم في العمل الصحفي يصدرون صحفاً ومجلات ولاأحد يعلم من أين جاءوا بهذه الأموال وماهي الجهات التي تقف وراءهم ؟ ووجدنا أقلاماً تدافع عن كل شيء وأي شيء … هذه الأقلام الفجة أساءت للصحافة العراقية وبدأ أحياناً أن السلطة ممثلة ببعض منتسبيها تحميها رغم فجاجتها ، وكانت النتيجة خسارة مشتركة للصحافة والسلطة في وقت واحد.
إن مثل هذه الأقلام اللقيطة التي تبدو أحياناً وكأنها تتحدث باسم السلطة ، تمثل عبئاً ثقيلاً على الجميع خاصة أن القارئ العراقي لديه من الوعي مايجعله يدرك الفرق بين أقلام تدافع عن وطن وأخرى تبحث عن مكاسب وصفقات ومصالح.
في هذه الثنائية ، السلطة والصحافة ، يطل جانب آخر على درجة كبيرة من الأهمية ظهر في الأشهر الأخيرة وأصبح يمثل عبئاً على دور الصحافة ، وهو رأس المال.
لابد أن نعترف أن دور رأس المال تضخم بشدة وأصبح يمارس ضغوطاً شديدة على الصحافة لاتقل في خطورتها عن ضغوط السلطة ، وفي ظل علاقة لايعرف أحد مداها بين السلطة ورأس المال ، دخلت الصحافة طرفاً ثالثاً في هذه اللعبة . وهنا كان التمويل الغامض لبعض الصحف ، وكان الاستقطاب الواضح لصحف أخرى تعمل لحساب بعض رجال الأعمال والسلطة . وكما حاول بعض المسؤولين والمتنفذين في وزارات الدولة استخدام الصحافة كوسيلة لتصفية الحسابات بينهم ، حاول بعض رجال الأعمال أيضاً استخدام نفس الأسلوب لتصفية بعضهم بعضاً من خلال الصحافة.
ودخلت الصحافة بعد ذلك في علاقات أخرى مع رأس المال من خلال الإعلانات في البداية ثم التمويل الكامل في آخر المطاف . ولأن الصحافة هي الحارس الحقيقي لمصالح المجتمع كان ينبغي أن تظل بعيدة عن مرمى نيران السلطة ورأس المال ، ولكنها للأسف الشديد دخلت السجال وأصبحت طرفاً فيه.
وهنا نقول ، إنه أصبح من الضروري كشف أبعاد العلاقة بين السلطة والصحافة ورأس المال ليس لكشف الخبايا ولكن لتوضيح المواقف ، وفي تقديري أن هناك خلافاً جوهرياً بين هذا الثالوث ، إن السلطة عندنا تتحمل مسؤولية العمل التنفيذي ، والصحافة سلطة رقابية تكتسب شرعيتها من مصداقيتها ، ورأس المال أخطبوط له مصالحه وحساباته ، ولهذا ينبغي أن تسحب السلطة وصايتها التي تمارسها بطريق غير مباشر حتى ولو كان أدبياً على الصحف . ويجب أيضاً أن نكشف هذا الزواج العرفي بين الصحافة ورأس المال لأنه زواج باطل.
وفي تقديري ، أن الحل ممكن ، يجب أن نضع من الضوابط مايجعلنا قادرين على كشف مصادر تمويل الصحف . وهنا يأتي دور نقابة الصحفيين لأن أي تلوث يمس ثوب صاحبة الجلالة العراقية يسيء لمجموع الصحفيين في نهاية المطاف . ولاأدري كيف ستستطيع نقابة الصحفيين أن تسد هذه الثغرات ، وهل في قانون النقابة مايكفي أم يحتاج إلى إجراءات وربما تشريعات أخرى لمواجهة ذلك.
يدخل في هذا النطاق أيضاً تلك الصحف التي تدخل العراق من دون حسيب أو رقيب ، فإنه ينبغي أن يكون لنقابة الصحفيين موقف في ذلك لأنه لايعقل أن تحاسب النقابة على أخطاء صحف لم تشارك حتى بالمشورة في إصدارها ، كما أن نقابة الصحفيين يجب أن يكون لها دور أساسي في ترخيص إصدار الصحف .
إن الصحافة غير المتوازنة والتي يعتريها الارتباك والاختلال لابد وأن يكون لها انعكاساتها السلبية على مقومات المجتمع ونسيج خلاياه . فأدوات الصحافة هي أدوات ثقافية تساعد على دعم المواقف أو التأثير فيها وعلى توحيد مناهج السلوك وتحقيق التكامل الاجتماعي ، وهو المحرك والمعبر عن حاجات المواطن وطموحاته وآماله ، وهو المنهل الذي يستقي منه المواطن الآراء والأفكار ، كما أنه الرابط بين الأفراد والموحي لهم بشعور الانتساب إلى مجتمع واحد ، ناهيك عن أنه الوسيلة لتحول الأفكار إلى أعمال والأحاسيس والماهيات إلى واقع عملي حي.
كما أن الصحافة لايمكن أن تزدهر وتثري المجتمع مالم يتم تعزيز العلاقة الجدلية الحميمية بينها وبين المواطن ، وذلك بتوفير الظروف المواتية لتدفق المعلومات بموضوعية وتجرد تحت مظلة الديمقراطية التي تكفل للمواطن حق الكلمة المسؤولة النابعة من القيمة الرفيعة للعقل البشري والمترفعة عن الانحياز والانفعال أو التشنج أو التوجه العدواني.
وحيث أن الصحافة في الأصل هي حاجة وليست سلعة ، فإنه لابد من الاعتراف بأن الصحافة عندنا مازالت قاصرة عن النفاد إلى رحم المجتمع بمناحيه المختلفة ، والمأمول منها التطلع إلى التعامل مع عقول الناس ووجدانهم بما يمكن أن ترقى بهم نحو القيم العليا والطموحات النبيلة والاهتمام بصقل مشاعرهم وأحاسيسهم واستفزاز طاقات المواطن الإبداعية والخلاّقة.
وفي الوقت الذي يتوجب فيه الإقدام ، على الصحافة أن تفسح المجال للتلاقح المعرفي في المجالات المختلفة ، فإن الصحافة أيضاً مخولة بحماية الهوية الثقافية الوطنية وإحباط أية محاولات داخلية أو خارجية لفرض قيم مستوردة ناشزة وغريبة وضارة بالصالح العام ومستقبل المجتمع.
إن العديد من القضايا التي تطرح عبر الكتابات الصحفية التي تنشر في صحفنا، تصيبنا بالدهشة والاستغراب والمرارة لهذا الواقع الأليم الذي وصلنا إليه . فالمعلومات وتحليلها مبتورة ، والحقائق ناقصة ، والأحداث مشوهة ، والمصادر معادية بما يثير الشبهات حول الأهداف المتوخاة مما يبث الرعب والقلق والخوف على مستقبل هذا الوطن وهذا الشعب.
ولما كان الكاتب الصحفي والمحلل والباحث هم أساس العملية الصحفية ، وهم القادة والعاملون على تكوين الرأي العام وتوجيه المجتمع من خلاله ، فإن موقعهم الهام ينبع من أهمية المهمة الوطنية الملقاة على عاتقهم وعظم المسؤولية التي يتحملونها في مجتمعهم ، أرداو ذلك أم لا . فهم من هذا المنطق في دائرة الضوء ، وكلامهم المسموع والمقروء أمانة ، وآراؤهم وتحليلاتهم ترصد ويتم التفاعل معاً ، سلباً أو إيجاباً ، والناس المستهلكون لبضاعتهم – إن جاز التعبير – أذكياء بحس وطني مرهف رغم بساطتهم وطيبتهم التي تصل إلى درجة السذاجة العفوية في بعض الأحيان . من هنا ، فلامجال للخداع ولي رقبة الحقائق والتناقض والتحايل على الناس في عقلهم ووعيهم ، بل والأهم ، إن هذا ليس من شيمنا وأخلاقنا ، ويتناقض تماماً مع مصالح الوطن والشعب.
وعليه ، فإن الكاتب مطالب بالانسجام مع نفسه خلال عرضه أو تحليله لقضية عامة تهم الشعب والوطن، فلامجال للتناقض والتشويش ، فالقارئ في بلادنا وهو يعيش حياة مليئة بالمفاجآت والتناقضات والإحباطات ، بحاجة إلى من يساعده بأمانة على تحسس موقعه وأداء دوره الطبيعي المشروع في صنع القرار وبلورة الرأي حول مايجري حوله وتحمل المسؤولية الوطنية الملقاة على عاتقة ضمن محيطه الاجتماعي الواسع الذي ينتمي إليه ويعيش آلامه وآماله …
كما إنه من الطبيعي جداً أن تختلف الاجتهادات وتتعدد الآراء والرؤى حول الأمور والقضايا العادية المطروحة ، فكيف إذا كانت هذه القضايا بمثل قضايانا العراقية الراهنة وبمجموعة الحلول المقترحة الآن بخصوصها ، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي تعيشها بلادنا ، والتي يرتبط بها مستقبل أجيالنا القادمة بأبعادها المختلفة ومايرافق ذلك من ضغوط وإشكالات ، مسؤولة عن تبديدها.
لكن الأهم أن نمارس العملية الديمقراطية في تعاملنا مع هذا الاختلاف في الاجتهاد وتعدد الآراء من منطلق أن لاأحد يمتلك الحقيقة المطلقة ، والحقيقة تولد من خلال الحوار واختلاف الآراء وتلاقح الأفكار وتداخلها وتمازجها وصولاً إلى القواسم المشتركة التي تصب في مصلحة الوطن والشعب ، وتقلل ماأمكن من الخسائر والأضرار.
وفي هذا الإطار ، فإن مسؤولية الكاتب/الصحفي ، أن يساعد المواطن/القارئ على التفكير والتحليل واتخاذ القرار المستقل دون إملاء أو إيحاء ، والذي ينسجم مع ضميره وحسه الوطني ومصلحة شعبه من خلال كشف الحقائق حول الموضوع المثار ، كونه أكثر إطلاعاً وإلماماً بالمعلومات وتفاصيلها من الإنسان العادي الذي يعيش وللأسف في حالة قلق وتناقض وتوتر ، بسبب جهله بحقائق مايجري . فمن المسؤول عن هذا التعتيم ، بل والتضليل في بعض الأحيان؟ ألا يتحمل الكتاب والمحللون والسياسيون مسؤولية هذا الواقع الشاذ؟
لقد سئم العراقي تقلبات العديد من الكتاب وتناقضاتهم وهلاميتهم وانتقالهم المشين من حضن إلى حضن ومن معسكر إلى نقيضه كون ذلك يمثل احتقاراً لعقله وذاكرته ، وضحكاً عليه وخداعاً له وانتقاصاً من كرامته وإنسانيته . وإذا مااستمر الوضع على ماهو عليه فإن هذا المواطن سيفقد ثقته بكتابه وصحافته ليبقى فريسة للإشاعات والدعاية المعادية ، ومايرافق ذلك من انفعالات وتحركات عشوائية مدمرة أو يأس واستسلام وتبعية.
إن صحافتنا بأشكالها المختلفة والكتاب جزء منها ، مطالبون بإعادة رسم السياسات والاستراتيجيات الصحفية وماينسجم معها من ممارسات عملية ليس لجيلنا فحسب بل وتحضير الأجيال القادمة بما يكفل تفجير طاقاتها الكامنة وانعتاق وتحرير أفكارها وتوفير المناخ المناسب لعملية إبداعها خدمة لأهدافها النبيلة في بناء صرح التقدم والتطور الحضاري جنباً إلى جنب مع الشعوب والأمم المتقدمة . كل ذلك ضمن أجواء من الحرية والديمقراطية المسؤولة واحترام الفكر واختلاف الرأي وتقديس إنسانية وكرامة الإنسان بعيداً عن الوصاية والإرهاب الفكري ، وهذا بطبيعة الحال ينسجم مع ديننا وتاريخنا وقيمنا التي تركت بصماتها على التطور الحضاري والإنساني.
إن ماحدث بعد 9 / نيسان لصحافتنا ينبغي ألاّ تجعل منه مذبحة للصحافة كلها، وإذا كان البعض قد أخطا في ممارسة الحرية فلايعني ذلك أن نغلق أبوابها ، فإذا كان للحرية سلبيات وإيجابيات فيجب أن نحاسب من أخطأ في ممارسة هذا الحق وأن نشجع بكل الوسائل من يمارس هذا الحق بمسؤولية وأمانة ضمير.
إن حرية الصحافة من مفاخر العراق الآن مهما كانت مساحة التجاوزات ويجب أن يكون علاج سلبيات حرية الصحافة بمزيد من الحريات وليس أي إجراء آخر.
إنها دعوة متواضعة بوقفة صادقة مع الذات ومراجعة أمينة لواقعنا المر لمواكبة الركب الحضاري الذي لامكان فيه للجهلة والمتخلفين والضعفاء والسفهاء .. فهل نعي هذا التحدي المعرفي/الحضاري الحاصل الآن؟ وهل ستتحمل صحافتنا مسؤوليتها بأمانة واقتدار؟
إنها أسئلة بحاجة إلى إجابات تترجم في الواقع العلمي إبداعاً وانعتاقاً للفكر وتفجيراً لطاقات العقل ، وإمكانات المجتمع ، وتحريراً للرأي ، واحتراماً لكرامة العراقي وإنسانيته وحقه المشروع في المشاركة وصياغة واقعه ومستقبله.
إن الرؤى الاستشرافية للمستقبل تؤكد أنه يقع على كاهل صحافتنا مهمات جسيمة وصعبة نتمنى لصحافتنا أن تتحمل مهماتها تلك بمسؤولية واقتدار والتزام.