أعلن الرئيس محمود عباس، وبعد خمسة عشر عاماً من إقفال صناديق الاقتراع، وبمرسومٍ رئاسيٍ، إجراء الانتخابات العامة، بدايةً من التشريعي ومن ثم الرئاسي، تتبعها انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، والذي يعتبر الحاضنة لكل أطياف الشعب الفلسطيني.
ثمة تعطشٍ كبيرٍ لدى المواطن الفلسطيني لإجراء انتخابات جديدة، لتغيير النظام السياسي الفلسطيني الذي بدا عليه التهالك بعد سنوات الانقسام والتفرد بالسلطة, حيث بلغت نسبة المسجلين في الانتخابات القادمة أكثر من 93 بالمائة.
بعد الإجراءات الأحادية الجانب، من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل في عهد ترامب، كان لا بد للفصائل الفلسطينية أن تتقدم في الصفوف الأولى لكبح جماح هذا الغول الذي أحدق بالقضية الفلسطينية، فكانت البادرة الأولى للأمناء العامين للفصائل الفلسطينية قاطبة، تمثل بعقد اجتماع لهم في رام الله وبيروت، خرج بتفاهمات تنهي حالة الانقسام الداخلي الفلسطيني، والاتفاق على إجراءات ملموسة لطي هذه الصفحة القاتمة التي امتدت لخمسة عشر عاماً.
خرج الأمناء العامون في مؤتمرهم، بالعديد من التفاهمات، أولها تفعيل المقاومة الشعبية، وتشكيل قيادتها الوطنية الموحدة، إضافة إلى بلورة إستراتيجية وطنية جديدة لمواجهة التحديات القادمة.
إذن هناك بارقة أملٍ خرجت في طريقٍ مظلمٍ مضى عليه سنوات عجاف، فبعد اجتماع أمناء الفصائل، كان لا بد من تطبيق ما تم الاتفاق عليه بالكامل من قبل الفصيلين الكبيرين، والذهاب إلى عدة اجتماعات في اسطنبول تمخض عنه طرفا الانقسام إلى الدعوة لانتخابات شاملة، تشريعية، ورئاسية، وللمجلس الوطني، بالتتالي والترابط.
لكن سرعان ما تعثرت الدعوة بعدما تراجعت حماس عن اتفاق اسطنبول واشترطت إجراء الانتخابات بالتزامن، بدلاً من التتالي والترابط، معبرة عن ذلك في شكها باستعداد حركة فتح للمضي في العملية الانتخابية الثلاث.
ما الذي جرى؟
أعلنت الحركة الإسلامية بشكلٍ مفاجئ، في رسالة من رئيس مكتبها السياسي إلى الأمناء العامين تفيد موافقتها مجدداً على صيغة إجراء الانتخابات بالتتالي والترابط، نزولاً عن رغبة أطراف عربية (قطر)، وإقليمية (تركيا)، ودولية ( روسيا الاتحادية) كما أفصحت رسالة إسماعيل هنية.
قدم الطرفان المنقسمان اتفاق اسطنبول على أنه المدخل لإنهاء الانقسام، عبر اللجوء إلى صناديق الاقتراع لتشكيل مجلس تشريعي تنبثق عنه حكومة وحدة وطنية، تتولى إعادة توحيد المؤسسات بين الضفة وغزة.
صحيحٌ أن الكثير من المطالبات التي قدمتها الفصائل الفلسطينية الأخرى لعقد الانتخابات لم يتم الأخذ بها، كالتحلل من اتفاقية أوسلو وغيرها، من الاشتراطات سنتطرق لها في هذا المقال، إلا أن الأمور جرت في سبيل مواصلة التفاهمات.
بعد أن تراجعت حماس عن شروطها، وجد الحوار طريقه إلى الانعقاد في القاهرة.
ثمة عناصر كثيرة تضافرت لعقد حوار القاهرة، أهمها التطور المهم الذي تمثل في وصول الإدارة الديمقراطية إلى البيت الأبيض، وقد حمل هذا التطور إلى أطراف الانقسام عدة نصائح، منها تجديد شرعية السلطة الفلسطينية عبر انتخاب مجلس تشريعي جديد، ودمج حركة حماس في النظام السياسي الفلسطيني.
ما هي العوامل التي أسهمت في الواقع الجديد:
لعبت أنقرة دوراً مهماً في التقارب بين فتح وحماس، فهي التي استضافت اجتماع اسطنبول، الذي توصل فيه الطرفان إلى الاتفاق على الانتخابات، وهي التي لعبت الدور المهم في الضغط على حماس، للتراجع عن شرط التزامن في الانتخابات، وهي أيضاً التي قدمت النصائح للحركة الإسلامية بضرورة قراءة المتغيرات الدولية (الانتخابات الأمريكية)، والعربية (التطبيع مع إسرائيل والمصالحة الخليجية)، مما يحتم على حماس امتلاك غطاء الشرعية المؤسساتية عبر الاندماج في النظام السياسي الفلسطيني من بوابة الانتخابات الثلاث، أما قطر فقد لعبة أيضاً دوراً بارزا في إقناع حماس للتراجع عن شروطها لعقد الانتخابات، وقدمت لها الضمانات الضرورية ، كما قدمت لها “مكافأة” مجزية بدعم سنوي بقيمة 360 مليون دولار.
أما على صعيد حركة فتح، فقد لعبت القاهرة والأردن، دوراً كبيراً في إقناع الرئيس محمود عباس بضرورة ترتيب البيت الفلسطيني، لاستقبال استحقاقات التطورات الدولية والإقليمية والعربية.
ماذا جرى في حوار القاهرة؟
لم يشهد حوار القاهرة أيُ اختلاف في المضمون، المتمثل بإجراء الانتخابات في وقتها المحدد، خصوصاً ما أبداه طرفا الانقسام من مرونة عالية بينهما، لكن برز موقف من بعض فصائل العمل الوطنية التي لها اشتراطات تمخضت عن اجتماع الأمناء العامين التي يتوجب الالتزام بها، كضرورة الالتزام بقرارات المجلس الوطني، وإلغاء اتفاق أوسلو.
مطالبات لتوفير أجواء إجراء الانتخابات:
أدخل الرئيس محمود عباس تعديلات على النظام القضائي جاءت في غير مكانها وزمانها كما عبرت عنه الجبهة الديمقراطية، وبررت ذلك بأن الشعب على أعتاب انتخابات تشريعية، والتشريعي هو الذي يبت في هذه التعديلات، لذلك طالبت في حوار القاهرة بإلغاء هذه التعديلات، لكن حتى كتابة هذا المقال لم يتم إلغائها. وفي المقابل شكل الرئيس عباس بمرسومٍ رئاسي محكمة خاصة بقضايا الانتخابات، وكان تشكيل المحكمة توافق مطالبات اجتماع القاهرة.
البيان الختامي لحوار القاهرة الأول:
حمل البيان الختامي لحوار القاهرة معظم الاقتراحات والتوصيات التي تقدم بها أطراف الحوار في مداخلاتهم، ما عدا تلك الاقتراحات التي تتعارض والقوانين، كالاقتراح الداعي إلى الفصل بين عضوية المجلس التشريعي، وعضوية المجلس الوطني “نقطة الخلاف هنا أن أعضاء المجلس التشريعي هم مباشرةً أعضاء في المجلس الوطني”.
إن مرجعية العملية الانتخابية تتلخص بوثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى 2006)، ومخرجات اجتماع الأمناء العامين في 3/9/2020، في ذات الوقت، هناك قرارات المجلس الوطني الفلسطيني بدورته ال28 عام (2018)، والتي تحرر القضية الفلسطينية من قيود أوسلو والتزاماته. لذلك قدمت الجبهة الديمقراطية، اقتراحاً في البيان الختامي لحوار القاهرة، بإضافة قرارات المجلس الوطني إلى المرجعية السياسية للانتخابات، لكن حركة حماس اعترضت على الاقتراح بذريعة أن قرارات المجلس الوطني تتحدث عن “انقلاب 2007”. أما حركة فتح فالتزمت الصمت حيال ذلك.
انتهى الأمر عند هذه النقطة الخلافية، بتدخل راعي الحوار المصري، والدعوة إلى استكمال الحوار في جولة جديدة في آذار (مارس) الجاري، تشارك فيها لجنة الانتخابات المركزية، للتوافق على استكمال تشكيل المجلس الوطني ليجمع بين الداخل والشتات ويشكل الإطار التوحيدي التوافقي للكل الفلسطيني، والتوافق على المرجعية السياسية والبرنامج السياسي للمرحلة القادمة.
هل الانتخابات ستكرس الانقسام؟
بعد صدور المرسوم الرئاسي بإجراء الانتخابات، برزت أصوات تفيد بأن فتح وحماس قد اتفقتا مسبقاً على هذه الانتخابات بما يضمن لكل طرف منهما مصالحه الخاصة، وظهرت اتهامات في داخل الحركتين، تفيد بأن ما يجري هو مؤامرة على الإرادة الشعبية، وتكريس للانقسام.
بالأمس دشن ناصر القدوة، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، رؤيته الخاصة، وشكل ملتقى وطني ديمقراطي، خارج الإطار الرسمي لحركة فتح، ستخوض فيها قائمته انتخابات المجلس التشريعي.
يبدو أن الانتخابات بعد أن كانت توافق على المصالح، وتحايل على الإرادة الشعبية أصبحت مطلباً شعبياً يجب أن يُترجم على أرض الواقع، حتى لو لم تنجح الاتفاقات السرية بين حماس وفتح.
هناك مطالبات تضمنها البيان الختامي لحوار القاهرة، مثل تخفيض سن الترشيح للشباب، وتعديل شرط الترشح الخاص بحصول الموظف على قبول الاستقالة، واعتماد نسبة تمثيل المرأة 30%، إضافة إلى ضمانات الحريات الديمقراطية، وإنهاء ملف الاعتقال السياسي والإفراج عن المعتقلين، والجميع ينتظر الترجمة الملموسة لهذه المطالبات الهامة.
يبقى السؤال أخيراً: هل إذا لم تجري الرياح بما تشتهي سفن التفاهمات بين حماس وفتح سنجد أنفسنا أمام تعطيل الانتخابات؟ أم أن القوى الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني ستنجح بالانتصار للإرادة الشعبية، وفرض الالتزام بها عبر ضمان مسار العملية الانتخابية حتى محطتها الأخيرة..