مضى على ثورة الرابع عشر من تموز لعام ألفٍ وتسعمائة وثمان وخمسين ,ستة عقود وعام ,
وقد فاضت الدماء من أول يوم لها ومضت إلى يومنا هذا , وكان السلوك في ذلك اليوم مناهضا لمعاني الحياة والأعراف الإجتماعية والدينية والأخلاقية.
إذ تكلل صباحها بقتل عشوائي وإبادة لا مبرر لها للأسرة الملكية , وصاحبها تعليق جثث وسحل وغيرها من السلوكيات المقيتة , التي أثمرت عبر الأيام عن أعظم مما حدث وكان.
وغاب عن القائمين بها , أن قتل رمز الوطن وملكه , يعد جريمة تأريخية بحق الأجيال , فأرست تقليدا لا تعرفه الدول المجاورة , وهو أن ينتهي الرئيس أيا كان في مأساة مروعة , وهذا ما حصل لقادة الثورة أنفسهم وبعد بضعة سنوات .
ومضت التفاعلات الدامية القاسية تتابع , وبدأت أيضا , موجات الهجرة إلى الخارج هربا من شر السلطة والسلطان.
وتداعى الإقتصاد وإحتدمت الصراعات , وتشابكت الأحزاب , وإقتتلت من أجل الكرسي الطغياني العتيد.
فمنذ الثورة ونحن نعيش زمن الإستبداد والقهر والتنكيل والتشريد.
وبُنيت في البلاد أبشع السجون والمعتقلات , لتعذيب وإعدام أبناء الشعب من المعارضين السياسبين وأصحاب الرأي والفكر والمنتمين لغير حزب السلطة , والذين يريدون الخير للوطن وينتقدون الكراسي , أو يشيرون إلى أخطائها وسلوكياتها الضارة بالوطن.
فالثورة لم تعلمنا إحترام الرأي وحب الوطن وتأكيد قيمة المواطنة والتحمل والتفاعل والإبداع والبناء , وحرية القول والمشاركة في صناعة الوطن المتقدم السعيد.
ومن وقتها ولحد الآن , أعدم وقتل وتعذّب من أبناء الوطن , ما لم يحصل في بلد مثله عبر التأريخ البشري , ولو حسبنا نسبة الذين أعدموا وقتلوا وعذبوا وشردوا بالقياس إلى نفوس البلاد , خلال النصف قرن الماضي لتعجبنا من هول النسبة.
وحبذا لو نعرف الأعداد ونقارنها بأعداد ما قبل الثورة.
فمنذ تأسيس الدولة وحتى ذلك اليوم لم يُعدم إلا بضعة أفراد., أما بعد الثورة فأن الأعداد قد تجاوزت مئات الآلاف بكثير جدا.
ولازالت مسيرة الدم تتدفق وشلالات الكراهية والبغضاء والتحزبية والمذهبية والطائفية في أقبح حالاتها وأسوأ صورها.
فهل فتحت ثورة الرابع عشر من تموز بوابة الجحيم , وأرست تقاليد الخراب والضياع والخسران والتناحر الوطني؟!
ويتساءل المرء , لماذا لم تتعلم من الثورات التي سبقتها إن كانت حقا ثورة تقدم ورقاء؟
إن الثورة بناء وبناء ثم بناء , كما حصل في ثورات القرن العشرين الأخرى وثورة الصين مثلا , بينما جاءت ثورة الرابع عشر من تموز , وكأنها تهدف إلى سفك أعظم ما تستطيعه من دماء أبناء الشعب , فأدخلتهم في دائرة مفرغة من الصراعات الخاسرة والمرعبة.
وخطيئتُها الكبرى أنها فعلت ما فعلت بأركان الحكم , ومارست لعبة الأحزاب الشرسة , فأرست تقاليد الكراهية والحقد والإنتقام , ووضعت الكرسي فوق الوطن والشعب ومصلحة البلاد والعباد, فحصدنا ما زرعت.
ولا زلنا نعاني من تلك البذور المنحرفة , التي أينعت في مسيرات الحزن والمآسي والخراب.
وما نعانيه وسنبقى , إنما هو إمتداد ليومها الدامي الذي إرتعبت منه أرض بغداد وضواحيها , لأنه قد عبّر عن إنحراف سلوكي سياسي خطير قد تواصل , فأودى بمسيرة أجيالٍ من الناس في حضيض الويلات.
ومن حينها والأنظمة تسير على ذات الخطى والمناهج التي إتخذتها تلك الثورة المريرة النتائج , والتي رسمت مصير ما بعدها من التفاعلات الخاسرة , لأنها سنّت سنةً سيئة , وها نحن نعيش في ذروتها ونتلظى فوق لهيب الآهات والحسرات.
هذا تساؤل وقراءة لمسيرة من الجراحات والصراعات التي أوقدتها الثورة , وربما يستطيع جيلها والذين عايشوها أن يفيدونا ويوضحون لنا بعض الأجوبة على تساؤلات كثيرة نقف أمامها بغرابة وذهول.
وأبسطها لماذا الثورات في الدنيا كلها تبني وتعمّر وتؤسس لوحدة وطنية وتفاعلات إيجابية , إلا هذه الثورة وما بعدها , فأنها أدخلت الوطن والأجيال في نفق الخراب والضياع , وإختصرت الوطن والشعب في كرسي الحكم البغيض وحزب السلطة.
ومَن ينتمي إلى غير جيلها يريد أن يعرف ويفهم , لأن ما تحقق في البلاد لا يشير إلى ثورة , وإنما إلا عاصفة من الأحقاد والكراهية والإنتقام والتحزبية والطائفية والمذهبية , والرفض المشين للمبادئ والقيم ومعايير الأخلاق والأصول , التي تبُنى عليها المجتمعات وتؤسَس الأوطان.
لقد تربينا على شعارات الثورات المباركة , وبعد أن وعينا أخذنا نتساءل عن البركات التي منحتها الثورات للشعب؟
أتمنى من جيل الثورة أن يفيدنا ويوضح لنا لكي نفهم ونتعلم!!
فهل عاش الوطن بعد الملكية عقودا من الإنقلابات العسكرية والحزبية المدمرة , أم أنه فعلا تذوّق طعم الثورات المعاصرة؟
ترى هل ينفع السؤال والفهم والمعرفة في زمن التشويش والتشويه الخلاق؟!!