19 ديسمبر، 2024 11:12 م

نرجسية الشباب ودور وسائل التواصل الاجتماعي

نرجسية الشباب ودور وسائل التواصل الاجتماعي

على الطاولة المجاورة في المقهى الذي كنت اعمل فيه هذا الصباح قضت شابة ساعة كاملة تتحدث بشغف وحماس الى صاحبتها الاكبر منها عمرا عن نفسها وعن علاقاتها الرومانسية وعن اهلها . وحتما اذا استمع المرء الى ذلك يخرج بالانطباع ان هذه الفتاة كانت تعتقد انها مركز هذا الكون واحلامها كانت بشكل بارز مذهلة ومهمة.
هل هذا هو حقا حال الشباب او الشباب الذين ولدوا بعد 1980 او ما يعرف بشباب الالفيات ؟ وهل تغيرت شخصيات الشباب عن الشباب في الاجيال السابقة لتصبح اكثر نرجسية واكثر انانية بعد ما اججتها الفرص اللامتناهية من تطوير الذات وظهور ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي مصحوبة بثقافة تركز على اهمية الاعتداد بالذات بشكل اكبر من التأكيد على التعلم .
في هذا الموضوع ينقسم المعنيون بعلم النفس قسمين . البعض يعتقد ان هناك ادلة دامغة تقول ان الشباب اليوم اصبحوا يعتقدون انهم شباب متميزون ولكن القسم الاخر من علماء النفس يعتقدون عكس ذلك . وفي هذه الاثناء تظهر ادلة مشجعة اكثر لتبين الاتجاهات الايجابية في كيفية ان شخصياتنا تبدو تتغير عبر الزمن شبها للطريقة التي يزداد فيها الذكاء الانساني بمرور الزمن عبر الاجيال .
ومن ابرز الاصوات التي تتبنى الراي القائل ان شباب اليوم اكثر نرجسية و اكثر اعتدادا بالذات من الاجيال السابقة هي عالمة النفس جين توينيج من جامعة ولاية سان دييغو الامريكية التي منذ حوالي 15 سنة وهي تدرس هذا النوع التغير .
تعتقد توينيج ان زيادة نرجسية ترجع جذورها الى ازدياد التركيز على فردية الانسان خلال العقود الاخيرة مثل قيام اولياء الامور والمجتمع ككل اليوم بإعطاء قيمة اكبر للإنجازات الفردية للشباب خلال اداء وجباتهم المدنية.
والنظرية المحتملة الاخرى هي ان الامر سيبقى متعلقا ” بحركة احترام الذات” وهي الفكرة القائلة ان العديد من مشاكل المجتمع ابتداء من الادمان على المخدرات الى العنف يمكن ارجاعها الى اشخاص لديهم تدني باحترام الذات واسفاه ان اعداد لا تحصى من الدراسات اظهرت ان ذلك غير صحيح وفي الحقيقة ان الاسطورة رقم 33 في كتاب ” الاساطير الكبرى الخمسون في علم النفس الشعبي ” هي ان التدني في احترام الذات هو السبب الرئيسي في المشاكل النفسية. ومع ذلك بفضل هذه الحركة وخاصة خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي بذلت الجهود لحماية الشباب من التغذية الراجعة السلبية مثل الحصول على الدرجات الضعيفة خوفا من ان تؤثر هذه التغذية على احترام الذات. وفي نفس الوقت تم الاهتمام بحب الذات وكون الشاب شخص خاص .
جيسي سينغل احد المختصين في هذا المجال كتب حول كيفية انتشار حركة احترام الذات في المدارس الامريكية التي تبنت تمارين من امثال لعبة كرة كووش وهي ان يقوم طفل برمي الكرة الى طفل اخر وبعدها تبدو المجاملات مثلا اعجبني قميصك او انت رائع في كرة القدم. فيسود شعور طيب بين الاطفال منتقلا من طفل الى اخر.
وانطلاقا من هذه التوجهات والميول الثقافية يبدو انه مما لاشك فيه الامر معقول وهو ان شباب اليوم قد تعلموا ان يروا انفسهم موهوبين ويسعون للحصول على الاعجاب من الاخرين.
الجزء الاكبر من دراسة جين توينيج يعتمد على ما يسمى “جرد الشخصية النرجسية ” وهو مقياس يطلب من المستجوبين اختيار 40 زوجا من النقاط التي تصف الذات احدها نرجسية النبرة مثل ( سأكون ناجحا) والثانية غير نرجسية مثل ( لا يهمني النجاح كثيرا).
وتظهر دراسة توينيج ان النتائج بين طلاب الكليات الامريكيين قد ارتفعت خلال الزمن . فعلى سبيل المثال وجدت الباحثة وزملائها بانه في دفعة خريجي 2009 ا ثلثين من الخريجين تقريبا اصبحوا اكثر نرجسية من دفعة 1982
وخلصت توينيج في 2013 الى القول ” في الوقت الحالي تدعم الدلائل بوضوح الراي القائل ان شباب اليوم ( الشباب المولدين بعد 1980) اذا ما قورنوا مع شباب الجيل السابق على الاقل انهم جيل نرجسي اكثر من الجيل السابق.
ولايتفق معها الاخرون مثل جيفري ارنيت من جامعة كلارك وريستر . حيث يقول ان طلبة الكليات الامريكيون نادرا ما يمثلون الشباب اجملا كما يشك في ما اذا مقياس جرد الشخصية النرجسية قادر على قياس النرجسية . فعلى سبيل المثال الخيار النرجسي المفترض على مقياس الجرد يمكن احيانا يكون مقياسا للثقة الجيدة او الضارة (لا يميز بينهما) فقد اشار الى امثلة ( انا متأكد ) مقابل (ارغب ان اكون اكثر تأكد) .
يقول ارنيت بعد ان يذكر الحقيقة التي تقول ان الشباب اكثر احتمال ان يقوموا بالعمل الطوعي واكثر تسامحا من ناحية التعدد يقول ان رأيه هذا يعاكس بشكل مباشر رأي توينيج القائل ان البالغين اليوم ليس اقل نرجسية بل انهم جيل كريم بشكل استثنائي و له وعود كبيرة في تحسين وتطوير عالمنا هذا .
وفي الحقيقة هناك المزيد من الدلائل التي تشير الى صحة ما قاله. خذ الدراسة ستنشر قريبا في جورنال ” العلم النفسي” حيث يقارن الخبير برنيت روبرتس وزملائه النتائج بخصوص النرجسية مقياس الجرد النرجسي بين عدة دفعات من الخريجين (5000) طالب وطالبة الذين اكملوا كليات في ثلاث جامعات امريكية في فترات منفصلة التسعينات والألفيات واوائل العقد الثاني مت القرن21 . بعكس معظم البحوث السابقة لم يدرس روبرتس النرجسية مباشرة ولكن ايضا صفات الذات من الزهو والانتساب الكريم والقدوة
وهذا ما يفسر الحقيقة القائلة ان الطلبة من مختلف الاجيال ربما يفهمون اسئلة الاختبار بشكل مختلف الا ان الباحثين قسموا المعطيات ووجدوا نفس الانماط وهي ان النرجسية بدأت بالتناقص بين الشباب منذ التسعينيات
وفي بيان صحفي اضاف روبرتس ان الاجيال السابقة ربما قد نسوا نرجسيتهم وقت الشباب فإنها تتلاشى مع تقدم العمر. البشر لكل منهم ذاكرة فيها عيوب فنحن لا نتذكر اننا كنا ايضا نعتقد اننا انانيون عندما كنا في ذلك العمر.
وهذا يتوافق مع دراسة جديدة نشرت للتو في نيوزيلندا التي لم تجد أي دليل على ارتفاع نسبة سمو الانتساب وهو جانب من جوانب النرجسية بين شباب الالفيات . وبشكل محير كما لمحت الدراسة الى ان الشعور العالي بسمو الانتساب بين الشباب هي نتيجة غير موروثة من الاجيال السابقة بكلمات اخرى اننا نشعر اقل انتسابا كلما تقدم بنا العمر. .
من جانبهم تقتنع توينيج وزملائها ان النرجسية في تصاعد . ومن بين اشياء اخرى اكتشفوا ان المزيد من الاغاني الشعبية تحتوي على المزيد من الكلمات التي تركز على الذات مقارنة ما حدث في افضل اغاني الثمانينيات كما يكثر في الكتب الحديثة الكثير من المفردات التي تمجد الفردية مثل ” انا خاص” منذ سنة 1960. كما تتكهن هي وزملائها ان مثل هذه الثقافة نفسها قد تكون مسؤولة عن اختفاء التسميات والاسماء العامة أي التقليدية عند الاباء
هذه المناظرات الاكاديمية تستعر انطلاقا من تزايد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي و(السلفي) و اعادة التحديث ما يقوم به ويشعر ويفكر به المرء بشكل مستمر ومن الصعب تجنب خلاصة القول ان هذا التغير التكنلوجي والثقافي يؤدي الى تزايد في النرجسية

وفي مقالة لها (توينيج)في النيويورك تايمز في 2013 اعطت تسمية لوسائل التواصل الاجتماعي وهي ” الوسائل الممكنة للنرجسية” ولكنها اعترفت ليس هناك ما يكفي من الدلائل لتبين ان هذه الوسائل تسبب في الواقع النرجسية هناك ادلة متراكمة تقول ان النرجسية اكثر ما يحتمل انها وراء نشر( السلفي) على بعض هذه الوسائل ولكن هذا لا يعني ان نشر( السلفي ) يجعل المرء نرجسي. وفي الحقيقة هناك دلائل تقول كلما ازدادت بهجة المرء ويبدأ واثقا ودودا ووديا كلما ازداد احتمال نشاطه ليكون على وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن ماذا حول احتمال تحول شخصياتنا في هذا الوقت بطرق ايجابية . في الحقيقة هناك ما يبشر بالخير. .
ومن المعروف ان العلماء يعرفون منذ سنين ان البشر يصبحون اكثر ذكاء بمقدار 3 مرات كل عقد من الزمن.
ويعرف هذا بتأثير( فلن) نسبة الى جيمس فلن وهو اكاديمي من نيوزيلندا وكان اول من جاء بهذه الفكرة . حيث ادت سنين من التحسينات التراكمية الى اضافة زيادات في مقدار ذكاء المرء من ثلاثينيات القرن الماضي وحتى الان . والاسباب في ذلك تتراوح بين انخفاض نسبة الامراض المعدية الى تحسن التدريس ولكن العلماء الان يتساءلون فيما اذا هناك تأثير مشابه كان يساهم في صياغة الصفات الشخصية ايضا.
وتقترح دراسة فنلندية نشرت هذه السنة ان هذا الامر يمكن ان يكون صحيح . حيث حلل مجموعة من الباحثين يقودهم ماركوس جوكيلا من جامعة هلسنكي حللوا معطيات لنصف مليون مجند عسكري مولودين ما بين 1962-و 1976 جمعت هذه المعطيات عندما كانت اعمارهم 18 او 19 سنة . وذكر فريق جوكيلا
بمرور الزمن الدفعات المتعاقبة كانت لها صفات اكثر انفتاحا مثل كونهم اجتماعيين وحييوين ومراعين لشعور الاخرين ومطيعين ويحبون الانجاز.
وبشكل محير وجدوا ايضا دلائل على زيادة الثقة بالنفس . وقد يتناغم هذا مع البحث الذي يركز على زيادة النرجسية اعتمادا على فيما اذا هذه الثقة يمكن ان ينظر اليها كأمر صحي او غير صحي وهذا ما لا تقوله المعطيات الفنلندية.
يبدو صحيحا ان الشباب اليوم انهم اكثر ثقة من شباب الاجيال السابقة. اذلك مؤشر للثقة صحي او علامة من علامات النرجسية البحوث القادمة قد تبت في ذلك.

أحدث المقالات

أحدث المقالات