18 ديسمبر، 2024 8:43 م

مَن لا يزرع لا يصنع!!

مَن لا يزرع لا يصنع!!

القوة الحقيقية في الزراعة ومنها تنطلق إرادة الحياة وتتفرع دروبها وتتسع تطلعاتها وآفاقها.
فالإنسان لكي يكون قويا عليه أن يأكل ويطعم نفسه , وعندما يكفي حاجته من الطعام يتوفر له الوقت والجهد لإعمال عقله والإنهماك بالإبداع والإبتكار.
فالمجتمعات الجائعة لا يمكنها أن تصنع , والمجتمعات التي تجاوزت تحدي إطعام نفسها إنطلقت في ميادين الصناعة والإبتكارات الرائعة.
ومن هذه المجتمعات الصين التي ذاقت طعم المجاعة وعرفت أوجاعها وأثمانها الباهضة , ولهذا ركزت على الزراعة ومنذ ستينيات القرن العشرين , فرفعت شعار الشعب الذي لا يزرع لا يصنع , فأطعمت بشرها وحررت عقوله من ربقة الإستعباد بالبحث عن الطعام.
وبعد أن شبع الصينيون صاروا من أشطر البشر في التصنيع والإبتكار وحققوا ثورة إقتصادية غير مسبوقة , حتى صارت مجتمعاتنا تستورد منهم حتى الطعام!!
والمجتمع العربي من المجتمعات الجائعة , بمعنى أنه يعتمد على غيره في طعامه , ويعجز عن الوصول إلى الإكتفاء الذاتي وتحقيق هدف إطعام نفسه , وذلك لأن المنطلقات السائدة منذ عصر الثورات العربية في بداية النصف الثاني من القرن العشرين , كانت ذات رؤى منحرفة فحاربت الزراعة ونادت بأن المجتمع الزراعي مجتمع متخلف , وتوهمت بأنها بمعاداتها للزراعة ستتمكن من بناء مجتمع صناعي , فأضاعت المشيتين , فلا هي إعتمدت في إقتصادها على الزراعة ولا إستطاعت أن تصنع ما ينفع , وإنما وصل ببعضها كالعراق البلد الزراعي من الدرجة الأولى إلى إستيراد البصل والخضراوات الأخرى , بعد أن كان يصدر المحاصيل الزراعية , بل أنه إستورد حتى التمر , بينما كان أكبر دولة في الدنيا بزراعة النخيل.
ففي النصف الأول من القرن العشرين . كان العراق يصدر الحنطة والرز والتمر والتبغ وغيرها من المحاصيل الزراعية الأساسية , وبعد زمن الثورات صار يستوردها جميعا وبروح ثورية عالية أجهزت على قدراته الإقتصادية وخصوصا ثرواته الزراعية والحيوانية.
فصارت الزراعة عيبا وإبن الريف عليه أن يهاجر إلى المدينة , والمدينة لا يتوفر فيها ما يكفي من الطعام للذين كانوا ينتجونه وصاروا يستهلكونه , ومضت سياسات تدمير الأرض الزراعية وتحويلها إلى خراب , وكذلك تجريف بساتين النخيل والقضاء على وجودها في مواطنها لأسباب أمنية وعدوانية على الشجر.
ولهذا مر المجتمع بأزمات صعبة قلّ فيها الطعام , وعجزت النخلة عن الإطعام لأنها تعرضت لحملات شرسة من الإعدام الجماعي لوجودها , فإستحالت الأرض الخضراء إلى بوار.
وبتراكم موجات العوز وشحة الطعام وإنشغال الناس بتوفيره , إنحرفت عقولهم وإنشغلت بما يعطلها ويمنعها من التفاعل الإبداعي الإنتاجي اللازم لقوة الحياة وتقدمها وإزدهارها.
كما أنها أجهزت على مرتكزات الصناعة الأولية التي تم وضع حجر الأساس لها في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين , فأزالت وجودها , وصارت عالة على الآخرين , ومنشغلة بويلاتها وبالأنين والحنين إلى الأزمان الغابرات وتمتعت بالعثرات , ونهض من بين ظهرانيتها شياطين معممة وملتحية دينها هواها وربها نزواتها وإمامها أمارة السوء التي فيها , فتفشت الويلات وخيمت التداعيات على واقع مضرج بالخيبات.
فلن تقوم قائمة لمجتمعات لا تزرع وتعجز عن إطاعم نفسها , فكيف بها أن تصنع؟!!