18 ديسمبر، 2024 5:51 م

من يفرح بالموازنة الجديدة؟

من يفرح بالموازنة الجديدة؟

لا أظنّ أنّ عراقياً فاهماً قد طار فرحاً أو امتلاً فخراً لأنّ الحكومة والبرلمان الجديدين قد أقرّا موازنة مالية للعام الحالي، هي ثاني أكبر موازنة في تاريخ البلاد، وثاني أكبر موازنة بين دول الأوبك وثاني أكبر موازنة بين الدول العربية، وتعادل تخصيصاتها ( حوالي 110 مليارات دولار أميركي) تخصيصات الموازنات في ثمانٍ من دول المنطقة لهذا العام، فهذه المعطيات هي ممّا ينطبق عليها قولنا المأثور، نحن العراقيين: يعمل حلاوة بجدر مزروف (قدر مثقوب)!
في سنوات سابقة كانت لنا موازنات فلكية كموازنة العام الحالي ومنها موازنة 2013 التي أفاد منها تنظيم داعش الإرهابي أكثر ممّا انتفع بها الشعب العراقي الذي وقع ثلث مساحة بلاده تحت الاحتلال الداعشي، فيما ملايين منه وجدت نفسها بين ليلة وضحاها خارج الجغرافيا والتاريخ ولو لم تتصدّق بعض الدول عليهم ما كانوا قد وجدوا مخيمات نزوح للّوذ بها، عدا عن أنّ مئات الآلاف، وبخاصة من الإيزيديين والمسيحيين وسواهم، قد فقدوا حيواتهم أو تعرضوا للتعذيب والاغتصاب وفقدان المصير.
العراقيّون الفاهمون لا يشعرون بالفرح والفخر لزيادة تخصيصات الموازنة العامة، ذلك أنهم يعرفون أنّ المعنى الأبرز والأثر الأوضح لزيادة التخصيصات هما زيادة حصة حراميّة المال العام من هذه التخصيصات.
الموازنات السابقة، حتى الكبرى منها، لم تُحدث فرقاً محسوساً في مستوى الخدمات العامة (الكهرباء والماء والصحة التعليم والصرف الصحي والنقل والاتصالات.. الخ) ولم تترك تغييراً ملموساً في الاستثمار، إنْ في الصناعة أو الزراعة أو الري، بل كان عدد المشاريع المُعطّلة يزداد عاماً بعد الآخر! .. الانتفاضات والحركات الاحتجاجية السنوية شواهد دامغة.
أحد أعضاء كتلة “سائرون” البرلمانية تعهّد بعد إقرار الموازنة بأنّ كتلته ستراقب صرف تخصيصاتها “ديناراً ديناراً”! .. صيغة المبالغة هذه أولى علامات عدم الجدّية في التصريح فمن المستحيل تحقيق ذلك.. لا نريد المراقبة لمتابعة صرف كل دينار، فالدينار عملة افتراضية لا قيمة لها في الواقع. أقل فئة منه بقيمة 250 ديناراً التي لا يمكنك الشراء بها غير علكة رديئة النوعية للغاية!
العراقيون يريدون المراقبة على مستوى عشرات ومئات الملايين والمليارات من الدولارات التي ستتدفّق على الوزارات والهيئات والمؤسسات والمحافظات والإدارات العامة. لا مجلس النواب ولا أي هيئة أخرى في الدولة متوافرة على الآلية التي تمكّنها من مراقبة صرف هذه المبالغ الكبرى. ديوان الرقابة المالية هو الوحيد الذي لديه مثّل هذه الآلية، لكنّها معطّلة تماماً .. تقارير الديوان لا تُعلَن ولا تُنشَر إلا بعد فوات الأوان، وتوصياته وقراراته لا يؤخذ بها في الغالب أو دائماَ، فظلّت التقارير وما فيها حبراً على ورق، فيما بقيت مئات ملايين الدولارات المُتلاعب فيها وكشفتها تقارير الديوان مجهولة المصير ( أو بالأحرى منتهية المصير الى جيوب الفاسدين من وزراء، وأكبر منهم، ووكلاء وزارات ورؤساء مؤسسات ومحافظين ومدراء عامين وسفراء، وحتى مدراء نواحٍ وأقضية).
واحد من أكبر الانتهاكات الدستورية التي تقوم بها الحكومات ومجالس النواب سنوياً أنّ الموازنات تُعدّ وتقرّ من دون مراجعة لموازنة العام السابق التي ألزم الدستور بتقدير تقارير تفصيلية عنها ومصير تخصيصاتها قبل إقرار الموازنة الجديدة !
كيف إذن سيراقب لنا نائب “سائرون” وغيره صرف التخصيصات الجديدة ديناراً دينارا؟!