23 ديسمبر، 2024 5:19 م

من لنينغراد، مليون قبلة إلى الفلوجة!

من لنينغراد، مليون قبلة إلى الفلوجة!

في كل زمان ومكان، يدخل الغزاة، فينالون من كرامتنا نحن البشر. تنال أحذيتهم من نزهات عوائلنا، وينال غباؤهم من عفّة بناتنا. الأنذال ينالون من الحرية، والحرمان ينال من الأطفال. جاءوا متوجين بالظلام. ما أصعب الموت، وما أسهله. ينال الرصاص الغادر من أجمل الوجوه، ويسرق الحقد آلامنا، لكن قوانا العراقية قد عادت إلينا، وسوف ننال من الشر. المعجزة هي أن نكون متحدين، ونتمكن من إزالة رماد الأعداء. علينا أن نهدر بالغضب، وننهض حاملين الحديد والنار حفاظاً على صور الأبرياء الذين سينتصرون بإذن الله.
جاءت الساعة كي نتحاب ونتحد كي نحاسبهم، ونهزمهم باسم الأمل المدفون في عروقنا، باسم كل الذين إستشهدوا، وذبحوا لأنهم لم يرضوا بالظلام.
وهذا الرعب الذي يحاصرنا اليوم في الفلوجة يذكرنا برعبٍ آخر، حاصر مدينة أخرى قريبة منا على هذا الكوكب الصغير. ألف يوم من الرعب بدأ في التاسع من أيلول عام 1941 حينما دخل النازي مدينة لنينغراد من خاصرتها اليسرى. ولينينغراد هي بطرسبورغ سابقاً ولاحقاً، وهي أيضاً بتروغراد، فقد تناوبت على هذه المدينة الاسماء كما تناوب على أكلها الطغاة. وما أن دخلت بساطيل النازي المدينة حتى دخل الجوع والبرد القارس. بدأ الناس بأكل الخيول، ثم الكلاب، ثم القطط والجرذان، بينما كان ستالين وخدينه الأعمى بيريا يعدمان خيرة القادة العسكريين الروس بتهمة الخيانة. وصلت درجة الحرارة إلى أربعين تحت الصفر، وكان عدد الأهالي الذين ماتوا من الجوع والبرد في الشوارع بعدد الجنود الذين إستشهدوا في ساحات القتال. مليونا شهيد وقتيل في المدينة.
من هنا تبدأ حكايتنا اليوم، وهي حكاية لا يرويها لنا كالعادة جنرالات الحروب بخوذهم العالية، وصلبانهم المعقوفة على الشر، بل يرويها الشعب نفسه، شيبه وشبانه الذين قالوا لا للموت، ووقفوا متحدين، رافعين صوتهم الإنساني الخالد في الموسيقى بدلاً من أزيز الرصاص و هدير المدافع.
حالما دخل النازي من الغرب، ووقف منتشياً على أعتاب المدينة كالطاووس، سار الموسيقار الكبير شوستاكوفيش من موسكو إلى مدينته العزيزة لنينغراد حاملاً معه المسودة الأولى لسمفونيته السابعة التي أصبحت في ما بعد رمزاً خالداً لدفاع المدينة البطولي ضد الشر، وكان يريد لها أن تصف الأيام القادمة حينما تنفض المدينة عن نفسها الغبار الاسود لا محالة. بدأ مائة عازف بالتجمع في دار الإذاعة التي يلف جدرانها الموت والبرد، وسرعان ما إنضم إليهم بعض العازفين الجنود الذين جاءوا متطوعين من ساحات القتال. ها قد أصبحت الموسيقى عنواناً لقدرة الشعب الروسي على دحر الطغاة والنيل من عصابة الكفر السوداء المتمثلة بالمريض هتلر وزبانيته. بدأ الأهالي بترتيب أيامهم السود إستعداداً للروح، تلك الروح التي ظلت جذوتها متقدة جيلاً بعد جيل، وزمناً بعد زمن. وكانوا يقولون نحارب،  فيحترمنا الله، ونشدو بأغانينا فيحبنا. دخلت صبية يافعة مع أمها إلى دكانٍ في المدينة تريد إصلاح آلتها الموسيقية المعطلة، وحينما أرادت الأم أن تدفع الأجرة، طلب منها أن تجلب له قطة صغيرة يأكلها بدلاً من المال. الجوع كافر. والحقيقة إن هذا الرجل اليوم هو نحن، أخونا في الشدة، لكنه من زمن آخر، ومن بلد آخر، لا فرق.
بدأت الأصوات تسمع في دار الإذاعة، وكانت في البداية ضعيفة متفرقة، وبين الحين والحين يسقط عازف أرضاً مغمياً عليه من الجوع والبرد. دخل عازف متأخراً، فسأله الموسيقار عن السبب، قال إنه كان يدفن زوجته، فرد عليه الموسيقار الكبير: تأكديا صديقي أنها المرة الأخيرة التي تدفن فيها أحداً. إتحدت هذه المجموعة البائسة على حب المدينة، وسرعان ما إنتظمت الأصوات، وتعالت كالهدير. إنه صوت الحياة، صوت الشعب الذي يكتب أيامه بدمه. تلك هي أغانينا، وهذه موسيقانا، وهذا هو شعبنا الذي لا يحني ظهره معتدٍ غاشم.
إنه الإنتصار الساحق. وقف الناس في ليل مدينتهم البهيم، رافعين الأكف إلى السماء، ولأول مرة عادت الدموع إلى العيون تلمع بنجوم النصر. وكان كل ما يريدونه هو ما نريده اليوم في الفلوجة. أن تضئ السعادة قرارة العيون والقلوب. وأن تعم العدالة رمال الفلوجة كلها، وأن ترتفع عالياً كلمات الفلوجيين الأحرار التي تجعلنا كلنا نعيش بها، فهي كلماتنا البريئة، منها الدفء، ومنها الثقة، ومنها الحب، ومنها العدل، ومنها الحرية. كلمة زهور البراري في الفلوجة كلها، بقراها وضواحيها المفتوحة على السماء والشمس.
أسماء كل الفلوجيين
أسماء كل الفلوجيات
بفضلهم زادت معرفتنا بأنفسنا
وعلينا أن نحبهم ذلك أن أملنا بالأيام ما زال حياً
ذلك لأنهم يلقون الموت في النار، ويلقون السلاسل والأسوار في النار.
نار الفلوجيين تندلع اليوم في كل الأجساد
نارهم أخت الفجر، تندلع في كل الايادي، وفي كل الأصوات. بها نتقدم، فنحرق كل صحارى الجهل والعبودية.
وسيأتي اليوم الذي نداعب فيه نار الفلوجيين. برداً وسلاماً على كل العراقيين. في صباحٍ مجيد، وفي عالمٍ جديد.
مليون قبلة للفلوجة