23 ديسمبر، 2024 3:07 م

من ارشيف طبيبة : مريضتي الشاذة

من ارشيف طبيبة : مريضتي الشاذة

كان قد مضى على ممارستي للطب سنة ونصف تقريبا…عندما تم نقلي الى إحدى المستشفيات النفسية في بغداد…كان الوقت في بداية فصل الصيف..وقد ارتدت الحدائق حللا خضراء وملونة….اتذكر الحدائق بشكل خاص لان تلك المستشفى كانت تمتلك حديقة جميلة..يخرج المرضى للتنزه فيها كل صباح.
جرى تعييني في قسم الامراض النفسية للنساء…وطوال بقائي في المستشفى لم يكن يسمح لي بزيارة قسم الرجال الذي يقع في بناية قديمة مجاورة…وذلك لصعوبة ضمان سلامتي الشخصية لو ذهبت الى هناك….
ابتدأت يومي الأول في العمل وأنا وجلة …فتلك
كانت ممارستي الأولى للطب النفسي..وكنت اخشى بحق انهيار احدى المريضات في فترة مناوبتي واضطراري الى رؤية عملية الصدمة الكهربائية التي كنت قد درستها في الجامعة…لكن ولحسن الحظ..كانت الردهة تعج بمريضات هادئات نسبيا..ومعظمهن كن ضحايا للحروب والكوارث التي عصفت بالعراق…فمنهن يتيمات..وارامل وثكالى….وانا بطبيعتي عاطفية جدا…فتوطدت اواصر من الثقة المتبادلة بيني وبينهن خلال الشهر الأول من الدوام…
ذات صباح….كنت قد وصلت مبكرة الى المستشفى..ولم يكن اي من الأطباء قد حضر بعد..حتى الخفراء كانوا مايزالون نياما….حاولت تمضية الوقت بالقراءة في كتاب الدليل العراقي للأدوية الطبية….وقد كان يعم الردهات سكون غريب..حتى المريضات .. هدأن وخلدن الى النوم…
استفز خلوتي صوت سيارة الاسعاف وهي تقف في
باب المشفى…وتلاها اصوات همهمة بعيدة …لم يكن استلام المرضى من اختصاصي…فقد كنت التقي بهم بعد ان يتم ادخالهم للردهة واستقرارهم نسبيا….وقفت في شباك غرفتي وانا استغرب من تجمهر كل هؤلاء الاشخاص حول سيارة الاسعاف..فلم يكن وصول مريضة منهارة عصبيا او مريض مدمن على الكحول من الامور الغريبة في مستشفانا…..ساد لغط بين المعينات…اقتربت منهن وسألت عن الوضع…فكان الجواب بأن المريضة التي وصلت للتو كانت شبه عارية وهي جميلة جدا…وقد تجمهرت ممرضات المستشفى حولها لأقناعها بإرتداء عباءة سوداء بسيطة فوق جسدها العاري بينما تعالى الصفير والصراخ من شبابيك ردهة الرجال…..
بعد ساعات…كنت متحمسة جدا للقاء تلك المريضة…ومعرفة اسرارها….جلست معها في غرفة
هادئة…كنت احرص دوما على ترك مسافة لابأس بها بيني وبين المريضات الجدد…كما حرصت ان يكون مكاني اقرب منها الى الباب…خشية حصول اي انهيار مفاجئ وتطلب المساعدة من ممرضات الردهة…
كانت (س)….إمرأة في ريعان الشباب 27 عاما تقريبا….وهي فعلا جميلة…طويلة القامة..ممتلئة نسبيا…وحمراء الشعر…..كانت عيناها السوداوين تطالعاني بتحد…ولكن بعد ان جالت في وجهي ولمست ابتسامتي المشجعة والمرحبة بها..هدأت قليلا….وحل محل تلك النظرات الوقحة ..نظرات منكسرة خجلى….
فتحت الملف المرفق مع المريضة ..وقرأت على اوراق احالتها من مستشفى اخر ..كلمة واحده…كتبت وختمت ثم ارسلت المريضة على عجل وكأنها مصابة بالطاعون….كانت الكلمة هي …شاذة جنسيا….
راقبت س.. تعابير وجهي وانا اقرأ تلك الكلمات وحاولت ان تستقرئ الانطباع الذي بدا علي…ولكني تعلمت منذ الجامعة ضرورة كتمان المشاعر ومحاولة منع الانفعالات البشرية من الظهور على الوجه امام المرضى….اقفلت الملف…وطلبت اليها ان تتحدث…تتحدث وحسب بأي شئ …حتى لو تغني فقط…..
لا ادري كيف تمكنت من كسب ثقتها…فشرعت تخبرني بقصتها…..
كانت س…فتاة اعتيادية….مثلنا… لديها احلامها وطموحاتها وحتى شقاوتها المراهقة اللذيذة…..احبت س في عمر السابعة عشرة ابن الجيران الساكن امامهم…وبادلها المشاعر….وتعاهدا على الارتباط بعد اكمال دراستهما….بل انهما اتفقا على دخول نفس الجامعة….ولكن القدر كان بالمرصاد…
تقدم لخطبة س…تاجر ثري في الاربعين من عمره
وهو صديق شقيقها….كان والدها مريضا وكبيرا بالسن…وقد ترك مقاليد الامور كلها لأبنه البكر….فلم يكن امام س.. سوى الاستسلام لرغبة شقيقها والموافقة على هذه الصفقة التجارية بإسم الزواج……
كان زوج س…ذئبا بشريا….متوحشا…وهي لم تكن سوى حمامة وديعة…..كان رجلا مريضا بأنواع مختلفة من الشذوذ الجنسي…حيث كان يطالبها بممارسات غير طبيعية….ويضربها بقسوة لو رفضت….ثم اخذ الامر يتطور الى علاقات مع نساء مشبوهات وامام عينها احيانا…لم تتمكن من تحمل المزيد فهربت من منزله ذات ليلة…متوجهة الى اخيها وطالبة حمايته…فما كان منه الا ان ضربها بقسوة..وطلب اليها العودة الى بيت زوجها…ولما رفضت…سجنها في الطابق العلوي.. قائلا بأنه لن يتحمل وجود اخت مطلقة في حياته وعليها ان تبقى
سجينة المنزل الى ان تموت او تتزوج….في تلك الاثناء عاد حبيبها القديم للظهور في حياتها…واستبشرت هي خيرا…فقد يكون المخلص الذي سينقذها من اسرها…..ولكن…..اكتشفت وبالتجربة انه لا يرغب بالزواج منها…بل اطفاء حاجته الجنسية وحسب من إمرأة جميلة…..زاد حقدها على المجتمع وزادت عزلتها كان شقيقها لايسمح لها بالتحرك خارج المنزل الا بصحبة مجموعة من القريبات لضمان عدم اللقاء بأي رجل….شعرت بالحنق على المجتمع وعلى اخيها وعلى كل الرجال المتمثلين بزوجها وحبيبها……فكان ان سقطت في وحل الشذوذ الجنسي……..قالت لي بعد نهاية حديثنا بأنها سعيدة بشذوذها…لأنها الطريقة     .
الوحيدة التي تعاقب بها اخاها وعائلتها….وكل المجتمع ……..
كتبت قصتها على الملف….وختمتها
بكلمة…ضحية……ثم نقلت في اليوم التالي الى مستشفى اخر…..ولم اسمع عن س مجددا….