يسبح في بركة الكبرياء الآسنة ، سفينة شحن ، يتقدمه كرشه المنتفخ ، شاهد قبيح للدناءة ودسومة الطعام ، تحفه الجلاوزة من كل صوب ، يوزع النظرات الساذجة بنفس ثور هائج ، وينظر من فوق باسقة الغباء، ولا يدرك أن الناس لا ترفع رؤوسها إلى أعلى إلا في الدعاء، أو حين تراقب القمر أو النجوم….تيّهني هذا المشهد في أثير عقليَ المنهد ، وضميري التعب من شدة ما يرى ويسمع ، حتى بات السمع والبصر عالة فيّ، وعاهة مستديمة تستعجل البتر، لأرحب بدنيا الكف والبكم …..
ويستحي القمر ، حين يجد نفسه تائهاً في صحراء الخجل ، وتتبعثر أشلاءه بين حواجب الليل وخدود الظلام ، يبتسم باستحياء فتضيء العتمة وينكشف المستور، بدا لي قروياً ، يدخل سوقاً مزدحماً ، لا يسيطر على رقبته من شدة الالتفات والالتفاف، وتنزلق عنه الاتجاهات في كل مرة، فكل شيء غريب فيه ، يحب أن يكتشفه دفعة واحدة، الناس والأماكن والأشياء ، يسعى نحو التحضر السريع المكتسب بالصدفة ،استاء القمر من تشبيهي ، عفواً سيدي ، وهرب ليستقر في كبد السماء وينكمش استحياءً ، بوجه غاضب طوله شبرين ، صغر حجمه من فرط الحياء ، و انكمش حتى صار هلالاً بحجم إصبع يد طفل ، لا يرى بعين مجردة ، ويختلس الظهور بشكل تدريجي مستغلاً غيابها ، حتى يظهر كاملاً ، تحف جنباته النجوم ، في منتصف ليل الشهر حين تغيب شمسه، في سفر أو عمل خاص بها نحو الشروق ، فهي تتصرف فيما يحلو لها ، و أنا هذا المسكين ، الذي ينحصر بين أربعة جدران من غربة، أقع أحياناً فوق خط استواء الصبر ، تلسعني آهات براكين الاشتياق لإنسانيتي المعذبة من جديد ، وأردد قائلاً:
-” وهل يعيد الله ما فسد…!؟”
يرد ضميري بامتعاض وضجر:
-“لمِٓ لا تسير الحياة بشكلها الطبيعي ، ويغزو الجمال حواشي النفس في التصرف وجميل اللسان والسلوك ، فيها يستقيم كل شيء، ويزهق الباطل من الحق ، ويعطيه القفا ….ويسير كل شيء نحو الزوال تحت احترام الخالق…..!؟”
نفَسٌ ربيعي مر فوق أنفي وشعرت بانتعاش ونشوة مفتوحة الحدود ، تدفئها شعلة من ضوء ذهبي ترسلها الشمس لتحرس تلك النسمات وتغنيها بالدفء ، ويتحرك
غصن فوق رأسي، فأنتبه وهو لا يزال مبعثر فوق قارعة طريق الأمل ، قبح من خيلاء فارغة ، سباق الكذب مع الرياء ،والتملق مع الذل، حتى تتلطخ صفحة اليوم بنتانة الفساد ، وتأخذني نفسي بعيداً عن هذا الأثير الملطخ بالقبح….. تطايرت أنا ، و أمام نفسي ، ذرات من رمل ، وحطت بين أسماء وشهادات ميلاد وتواريخ ختام ، فبحثت عن نفسي الضائعة بينها ، فلم أعرف ، أي منها أنا ، وقلت :
-” يا لهذا القبح…..نخلق من تراب ونعود إليه في أحقر حالة….!؟”
أدركت في الحال ، نحن والأشياء ، أصل واحد ، وأن الله خلق الأرض فقط وما نحن إلا أبناء لها، نحن ذراتها نتحد في الأصل ، ونختلف في الفعل ، يحتل كل منا مرتعاً حسب ما يعطي ، فمن أعطى أخذ ، ومن زرع حصد، بقدر و بشكل ما زرع ، مرتع صالح للصالح ، والقبح للفعل القبيح ….
تذكرت نفسي وساءلتني أنانيتي، وهو تقول:
-” قد تكون نفخة من دخان سيكارة ، أو ذرة من رماد، و أحياناً قطرة دم شهيد أو مظلوم ، بآخر ورقة ذابلة سقطت تواً من شجرة ….!؟”
استوقفتي كينونتي ، وأنا عقب سيكارة تسحقتي الأحذية والأقدام الحافية والمنتعلة ، حتى صرت خبيراً بحجومها ، هززت يدي ورأسي احتقاراً لنفسي ونهايتي ، وتملأ شفتي ابتسامة عمياء من بلادة واندهاش ، وأنا أرى نفسي طافياً فوق بركة من الماء الآسن، مرحلاً نحو أصلي ، وكان المصير محتوماً ، نحو بالوعة المياه الثقيلة حتماً ، قلت بقرارة ذاتي أخاطبها بقهر وذل:
-” ياله من مستقبل ….هذه أنت أيتها النفس البشرية متى تتعظين….-!؟
واستمرت رحلتي في ظلمة الفناء والأصل الموحد ، رفعت راسي لتصيب عيني برميل القمامة من جديد ، وهو محفوف بجلاوزتة وقد حشر كرشه المنتفخ بين شرطي الحماية وباب المركبة السوداء ، فضحكت وقلت مخاطباً ضميري وأنا أغرق بين طوفان المعاني وقهقهات الضحك :
-” وكيف تستقبل الأرض تلك القباحة المنتفخة ….وماذا سيكون هذا المخلوق القبيح ،هنااااااك….؟….مرتعاً في حمام ، أم باباً لبالوعة أم أنبوباً للمياه الآسنة ، أظنّ أن مشبكاً لحفظ الأحذية أنظف مرقد مناسب له، نعم …!…..العدالة السماوية بالمرصاد والعدل ، ترتضي ذلك ، كل في موقعه ، وكل حسب أفعاله …..!؟”
ضحك ضميري حتى انقلب على قفاه وقال:
-” أحسنت القول ،سيدي…ما دام الأصل واحداً، وكل شيء يعود للأصل عند الزوال ، فهذا تناول الكثير من تراب الأرض ، وسرق الأكثر من طينها ، وملأ كرشه المنتفخ هذا ، حراماً آلاف المرات ، ولم ولن يشبع أبداً ، ولا يدري أنه من التراب ،وما يؤول إليه ، غير صخرة للأحذية، أو شاهدة لقبر، أو كومة من رمال يسحقها القاصي والداني….!؟”
ونحن مستغرقين في هذا النقاش وأصل الأشياء ،اقتربت من أذني الصرخات لأم ثكلى بوليد الثالثة ، احمرت عينا ضميري قهرأ ، فوقعت دمعة من عينيه ، وهي تتلألأ ، واتجهت نحو السماء و أنا أتابعها بنواظري وفمي المفغور عجباً ، أشار ضميري بأصبعه نحو السماء، و أجابني عن سؤال على وشك أن أساله :
-” الجنة لهذا فقط ، ليس لما فعل ، بل لما فعلنا به….!؟”