23 ديسمبر، 2024 6:51 م

“ممر الضوء”.. البعد عن الخسائر الفائضة

“ممر الضوء”.. البعد عن الخسائر الفائضة

القاص “ودود حميد”، بدأ النشر في عام 1965 ، عندما كان سجيناً في نقرة السلمان ، وقد هَرّبَ قصصه،حينها، إلى بعض الصحف والمجلات العراقية و العربية، و نشرتها باسمه ، دون أن يعبأ بما سيتسبب له هذا الأمر من قبل إدارة السجن أو سلطات الرقابة الحكومية. قصص (ودود حميد) في”ممر الضوء”- شركة الغدير للطباعة والنشر المحدودة- تعتمد الحبكة المنضبطة والسرد المتزن، الذي ينأى فيه عن الإرباك والارتباك ، والخسائر اللغوية الفائضة. ويتضح ذلك من خلال تطور أدواته القصصية، والتي بدأت بالتأثر بأجواء ومؤثرات، القص العراقي – العربي الواقعي الخمسيني والتراجم عن اللغات العالمية التي كانت تضخها دور النشر العربية – اليسارية بالذات . شغف(ودود حميد) بالواقعية الانتقادية، التي ميزت غالبية نتاج تلك المرحلة، ويعود ذلك لمهيمنة توجهه السياسي. و مع تطور رؤاه ، ونظرته المنفتحة حياتياً ، اخذ يتجه في قصصه، بشكل وطرائق فنية مغايرة لبداياته تلك، وخاصة في القسم الأخير، والذي ميز (ممر الضوء).نستطيع أن نعد ( ممر الضوء) مختارات قصصية كتبها القاص(ودود حميد) في مرحل متعددة من حياته التي تنقل فيها بين السجون والمعتقلات. ونلاحظ ذلك من خلال تواريخ وأماكن كتاباته لتلك القصص والتي تتوزع على أماكن عراقية عدة منها، العمارة والموصل والبصرة ونقرة السلمان. مجموعة ( ممر الضوء) قسمت على ثلاثة أقسام الأول بعنوان (البدايات) وتضمن ثلاث قصص: بابا والقطار، والصبي الشجاع، والرجل والصحراء، والثاني بعنوان( ما بعد الرحيل) واحتوى على قصص: مكمن السر ، ورحيل النغم، وهستيريا الشك، وشيزوفرينيا، أما الثالث فـ( تواصل) واحتوى على أربع قصص: ممر الضوء ، و قسمها بعد بدايتها (75 -68 )على مجموعة أحلام تبدأ بحلم الرجل الأول وتنتهي بحلم الرجل الخامس(87 -91 ) والخاتمة التي يعلن الراوي في نهايتها” بعد المكوث زمناً ، تأكدت آن الأحلام التي راودت النائمين في البراري: أضحت حقيقة”(ص93 )،ويلاحظ في غالبية هذه الأحلام إن القاص يعمد لعدم ديمومتها بل يقطعها من خلال تدخل السارد العليم/ القاص هنا/ الذي

يفصح عن نهايتها كما في حلم الرجل الثالث و الخامس. وثمة قصص أخرى في هذا المنحى منها تراكمات الرؤى المنطفئة، والنبتة والاغتصاب(ص95 -115 ) . غالبية قصص (ودود حميد) ، وقائع فعلية جرت له شخصياً، واستطاع، في عمومها، الارتقاء إلى المستوى المعاش فعلياً و المقبول فنياً. كما عمد لاستثمار بعض تجاربه الحياتية المريرة وثائقياً. في قسم من مجموعة(ممر الضوء)، توثيق للحياة اليومية، في سجن نقرة السلمان، و تلك الرحلة التي حدثت بعد إعصار الثامن من شباط 1963 والتي يمكن أن تسمى رحلة “رتل الموت البصري”، المشابه لرحلة “قطار الموت” المعروفة.غير إن رحلة “رتل الموت البصري” كونها كانت في الهامش المهمل ، لم تأخذ حيزاً إعلامياً- سياسياً يرتقي لما كانت عليه فعلياً ، إذ تم خلالها الاستيلاء، بالإكراه ،على أكثر من عشرين باصاً خشبياً ، بعضها مختص بنقل الحيوانات ، من أرياف البصرة إلى مركزها، و استخدمت في نقل (052-503) موقوفاً كانوا محتجزين في أقبية الحرس القومي ، و بعد انتفاضة معسكر الرشيد في الثالث من شهر تموز 1963، نقلوا ، من البصرة، دون طعام أو ماء، واستمرت الرحلة (54) ساعة متواصلة ، واجه فيها المنقولون،العطش والجوع والإنهاك، وتيه رتل السيارات،ليلا، في صحراء (السماوة) ، وكانت تتحكم بمصائرهم وحوش بشرية، مدججة بأسلحتها،”استرلنك وبورسعيد”،وعلاماتهم الموشاة بـ(ح – ق) ، وكذلك محاولة الضواري الصحراوية ، وهي تشم رائحة اللحم البشري الحي فتتشهاه، وسعت ليلاً للفتك ببعض الموقوفين المقيدين. القاص وثق في قصة (الرجل والصحراء- ص47) رحلة زميله ،السجين معه، (صلاح الدين احمد) الهارب من نقرة السلمان، بسبب الحكم عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت واقتراب تنفيذ الحكم ، فلا يمنعه ليل صحراء نقرة السلمان،ومخاطره ،تشبثاً بفرصة الحياة، أن يشق طريقه في الظلام بإرادة قوية وتحدي الموت الهارب منه،والذي يتربص به، سواء بقي في السجن أو غادره تجاه الصحراء :”لابد أن يصل.. وشد على كل عضلة في جسمه لينهض، لكنه لم يكن قادراً على الإحساس بشيء،كل جزء منه في طريقه إلى الموت..إلا الذكريات.. فهي دائماً تعود في آخر المطاف، الطفولة ببراءتها والفتوة بشجاعتها..النضال بتضحياته، الشجاعة بصلابتها، والحب بوفائه..كل شيء يمرّ عليه وكل شيء يذهب رويداً، رويداً، رويداً ..؟!.
أإلى هنا ايها الرجل..؟!
أعادها، محاولاً أن يبتسم ساخراً من الموت، لكن الغشاوة تكاثفت أمام بصره،تياراً اسودَ، وانتهى آخر حسّ بالحياة داخل كيانه المنتهي، توقف وجيب القلب.. والشمس مضت في مسارها عبر الأفق.. وسجى الليل..ثم جاء يوم آخر”.( ص45 ). عمد القاص على تنقية شخصيات قصصه،من أدران اجتماعية سائدة، في الحياة العراقية، ويبدو انه على تماس وثيق مع شخصياته القصصية، حتى انه يعقد معها صداقة ومعرفة، لحين الانتهاء من الشكل النهائي لها و يتركها بعد ذلك لاستجابة القارئ، حيادياً كان أو متعاطفاً . يعتمد القاص في بعض قصص (ممر الضوء) على التسجيلية والوثائقية كما في قصص،بابا والقطار(ص7 ) ، والصبي الشجاع(ص16 ) ،والاغتصاب(ص 115 ) ، ولم يعمد إلى الانفراد ببطل واحد، رغم أهميته، بل حاول أن يدمجه داخل كتلة بشرية، أكثر عمومية، مع إنها غير متجانسة سلوكياً ، بصفتها العامة، مع انتمائها الفكري الواحد، والذي يجب ،منطقيا، أن يوحدها، وخاصة، في المصائر المفجعة التي تحيطها. يبدو طموح القاص في قصصه ، محاولة لتجسيد الحراك الذي تخضع له الحياة الإنسانية، بالترافق الوطيد في الاستفادة القصوى من التجارب الشخصية- العامة. لقد سعى القاص في (ممر الضوء) إلى اعتماد الوضوح وبثه في مكونات سرده القصصي بطرائق حاذقة وتوجهات فنية نحو القناعة الراسخة لديه في تفوق اللحظات الحيوية معتمداً على الاستجابة القرائية التي طوعها في حالات من الانهماك السردي بحساسية متمرسة على إمكانيات كشف الشخصية القصصية من قبل المتلقي بالتزامن مع وضوح أمكنة وأزمنة الأحداث التي تتناولها قصصه، وحاول بناء سردي يتشكل في الغالب بطريقة درامية ، معتمدا تقنية السارد الواحد/العليم/ الذي يروي عما (حدثَ) ، عبر سلسة من الوقائع التي حدثت (فعلاً) في زمن ومكان محددين،و السارد ، محيط بكلية مشهد القص من خلال التلاعب بالزمن ، وتراكم الأحداث ، مستخدماً عناصر التشويق ، وملاحقة المتغيرات المحيطة بمكونات المشهد القصصي. و نلاحظ تأخر القاص(ودود حميد) في إصدار مجموعته القصصية الأولى، و إن هذا التأخر ليس في صالح سيرته الثقافية- الأدبية، كونه بدأ النشر منذ عام 1965،وكان يمكن أن ينشر أكثر من مجموعة قصصية ، خاصةً وهو على تماس مع المشهد الثقافي ويواصل نشر نتاجاته القصصية وتعقيباته الثقافية في الصحف والمجلات البصرية والعراقية والعربية. وله أكثر من مجموعة قصصية مخطوطة، جاهزة للنشر منها (التجربة والتيه). القاص “ودود حميد”من مؤسسي جماعة(12قصة) بصرية
بحلقتيها، التي صدرتا في عامي 1971-1972، ومنعت السلطات الرقابية ، مواصلة صدورهما.