23 ديسمبر، 2024 1:45 ص

الساعة تقارب الخامسة مساء ً، لم تزلْ الشمسُ تتوسط السماء درجة الحرارة لهذا النهار قاربت أن تصل إلى الثلاثين مئوية، هكذا درجة حرارة تعتبر من الأيام الحرارة جداً في أجواء مملكة السويد، أنه أحد أيام صيف السويد الطويلة؛ مغيب الشمس في مثل هذه الأيام يكون بحدود الساعة الحادية عشر ليلاً.
حزمنا أمتعتنا في حقيبة يد صغيرة، بعد أن قضينا نهار يوم طويل مشمس، على ساحلِ البحرِ، ساعات ممتعة هادئة هانئة ،بين الماء والخضراء والوجوه الحسان، والهواء النقي العليل والرمال الساحلية النظيفة الساخنة، بعيداً عن (القيل والقال) وعن نشرات أخبار رجال الأعمال وغسيل الأموال ومفتعلي القتال وقادة الدجل والاحتيال وسراق أموال اليتامى والعيال( الأطفال).
كان من المقرر أن نبقى حتى الساعة الثامنة مساءً، لكن اتصال هاتفي على الهاتف النقال( الموبايل)، يخبرُ زوجتي أن قريب ٌ لنا يود زيارتنا مع عائلته هذا المساء، استقلينا الحافلة ـ الباص ـ رقم (32) الذي يوصلنا الى مركز محطة قطارات مالمو، وهي المنطقة التي سوف نقوم بتبديل الحافلة برقم (5) التي تقلنا إلى البيتِ في منطقة (روزنكورد)!
على حافةِ الرصيف في موقفِ توقف الحافة أخذنا مكان وقوفنا، عشرات من الناس تتجمهر خلفنا؛ موقف الباصات أمام محطة القطارات في(مالمو) مزدحم بالركاب دائماً، فهو مركز مهم للقادمين والمغادرين ومحطة لتبديل مسار الحافلات لاتجاهات مختلفة؛ لم تتأخر الحافلة (الباص) كثيراً حوالي أربعة دقائق طوال فترة انتظارنا؛ أن الوقوف والتفرج في منطقة الانتظار أمام محطة القطار والنظر لحشود الناس وهي تمر من إمامك مسرعةً تارةً ، متأنية ، متسامرة، مودعة أو مستقبلة ، بحد ذاتها غاية المتعة، ورائعة وقد لا تتكرر!
مرت بجانبنا مجموعة من الفتيات الشقراوات بملابس الصيف الساحرة الزاهية تزين رؤؤسهن أكاليل بديعة من الزهور البرية، ضحكاتهن وقهقهاتهن المرحة تملأ المكان بهجة وحبوراً.
توقفت الحافة أمامنا، دخلنا مسرعين، أخذنا مقعدين متجاورين قرب الباب الذي يتوسط الشاحنة ، أمامي في جوف الحافة المكان المخصص لكبار السن وأصحاب الاحتياجات الخاصة ، ولكراسيهم ،وكذلك لعربات الأطفال.
في ذروة التزاحم والصعود والنزول يدخل رجل وهو يرفع بكلتا يدية كيس كبير مليء بالعلب الفارغة، يضعه على عجلةٍ في المكان المخصص لعربات الاطفال، ويخرج مسرعاً ليلتقط من مقابل الباب كيساً اخراً اكبر حجماً من الأول، أصوات القناني الفارغة ترن وهو يدخله ليضعه بجانب شقيقه – الكيس الأول- ؛ ينهمك بحركات متسارعة وهو يحاول ضم ورصف(الكيسين) على بعضهما بكلتا يديه وساقيه.
الكيسان اخذا مساحة واسعة تجاوزت على جميع المكان المخصص لجلوس المعوقين وكبار السن وعربات الأطفال، حجمها كبيرٌ جداً بالقياس لمساحةِ المكان، كل كيسٌ يزيد ارتفاعه على المتر والربع وقطره كذلك!
يذهب الرجل مسرعاً الى المكان المخصص لقطع التذاكر قرب سائق الحافة ،يأشر بطاقة دخوله ويعود مسرعاً ليقف جنبَ أكياسهِ المنتفخة، وهو يحاول مرة ثانية ان يلمهما الى بعضهما أكثر كيلا تأخذ حيزاً كبيراً، ولكي يستطيع السيطرة عليها.
وقف رجل الأكياس وهو يرمق المكان والركاب بنظراتٍ قلقة متفحصة، كان ظاهراً عليه التعب والإرهاق، أخذ نفساً عميقاً فيما راحت يداه تحاول أن تعدل من وضع نظارته الطبية، أنه شاب تجاوز الثلاثين من العمر ،متوسط القامة يميل للسمنة ، شعر رأسه قصير بلحية سوداء تركها تنبت لعدة أيام، صيف الشمس قد بانت على وجهه الأسمر فزادته أكثر حمرةً وسمرة، كانت ملابسه غير متناسقة الألوان البلوزـ التي شيرت – أحمر وعلامة كبيرة بيضاء شعار للشركة الرياضية الشهيرة (اديداس) مطبوعة على الصدر، (الشورت) بني – قهوائي – داكن ويحتذي (صندلاً) أسود!
شابة بملابس الصيف الجذابة، ونظارات شمسيّة، تدفع عربة طفل، تدخل العربة بصعوبة بجوف الحافلة لم تجد مكاناً لها في المكان المخصص لعربات الاطفال، ترمق رجل الأكياس بنظرة مستفسرة حائرة، يرمقها بنفس النظرة ويدير لها ظهره، عيون الجميع تراقب المشهد، امرأة في المكان المقابل للأكياس ، مخصص جانب منه ايضاً لعربات الاطفال والمعوقين وأصحاب الاحتياجات الخاصة تنادي عليها أن تأخذ محلها، تستجيب لطلبها بابتسامة رقيقة وهي تومئ برأسها علامة على الموافقةِ والشكر!
رجل الأكياس يقف متاملاً جوف الحافلة، فيما رائحةُ عرق ٍ نفاثةٍ تنبعثُ من جسمهِ وملابسهِ، تخالطها رائحة ( البيرة) التي تفوح من العلبِ ( القواطي) الفارغة تنتشر في محيطِ المكان.
رجل الأكياس يدور برأسه ويسمّر نظراته من خلف نظارته الطبية إلى مقعد فارغ واحد، قريباً منه، جنبَ أمرآةٍ طاعنة بالسن ِ بشعر اشيب قصير وملابس فضفاضة ملونة زاهية، بلمحةِ بصرٍ وبخطوةٍ سريعة يجلس بالمكان، فيما بقيت عيناه مشدودة إلى الاكياس،المرأة العجور التي بجواره تكوّر نفسها مبتعدة ً في اقصى الكرسي وهي ترمق الرجل بنظرة فيها كثير من الحيرة والحذر.
تتحرك الحافلة، يُخرج رجل الأكياس هاتفه النقال من جيبهِ، يفتح (الموبايل) ويختار أحد الأرقام، ويبدأ بالحديث:
ـ ألو ، ألو، ألو
ـ نعم.
ـ أنا (جمال) معاك، أسمعني أني الآن في الباص رقم (5) أتحرك الباص، بحدود ربع ساعة سوف اكون في موقف الباص في (راملز فيك) اريدك تنتظرني هناك، أعاد اسم المنطقة ( راملز فيك) مرة ثانية بصوتٍ أعلى.
توقفت الحافلة في المنطقة الثالثة بعد المحطة بجانبِ بناية ( كونشرت هوست)، شابة شقراء فارعة الطول بعيون زرقاء ،تنزل من الحافلة .
عينا (جمال) تجول المكان وتتسمر على علبة (كوكا كولا) فارغة متروكة على حافة الرصيف، يقطع مكالمته الهاتفية وينادي على الشابة التي غادرت الحافة:
– ( هلو ، هلو ، هلو )
ما أن ألتفتت الشابة حتى بادرها باللغة العربية ( ناوليني العلبة ) وهو يشير بيده الى العلبة المركونة الفارغة على حافةِ الرصيف.
وقفت المرأةُ مفزوعة ًوهي تتلفت ذات اليمين والشمال، على مصدرِ الصوت وإشارة محدثها، وهو( يأمرها) بصوتٍ مرتفع وباللغة العربيّة أن تناوله العلبة الفارغة، لم تفهم حديثه وإشارته، بدأت عينها ورأسها يدور في المكان والوجوه، بان عليها الانزعاج والاستغراب وصوت (جمال) يُلاحقها وإشارة يده تتجه الى العلبة الفارغة، تركت المكان مقطبةَ الحاجبين وذهبت مسرعةَ الخطى وهي تتلفت مستغربة فاغِرَة فاها.
أغلق الباص أبوابه، وبدأت السيارة تهم بالحركة، ضغط (جمال) على زر المنبه بالتوقف، و بصوتٍ عالٍ قوي نادى على السائقِ، للتوقف وفتح الباب، باللغة السويدية:
stanna öppna dörren –
توقف السائق، وفتح باب الحافة نزل (جمال) من الحافة وإلتقط علبة ( الكوكا كولا) الفارغة، عاد للحافلة مسرعاً ليجدها قد أغلقت أبوابها، طرقَ الباب مراتٍ متتاليةً بقوة وهو يصرخ :
öppna dörren –
الحافلة تحركت و(جمال) يجري بجانبها وهو يطرق بابها بقوة بأحدى يديه، فيما يده الاخرى تقبض بقوة على علبةِ ( الكوكا كولا) الفارغة وتضمها الى صدرهِ، وهو يصرخ:
öppna dörren ،öppna dörren –
الحافلة تسير وبجانبها (جمال) يجري، واصل جريه بسرعة حتى وصل لباب الحافلة المجاور للسائق وهو يصرخ:
öppna dörren –
توقفت الحافلة في منطقة (أشارة المرور الضوئية ) ـ ترفك لايت ـ حمراء، بعد ان قطعت مسافة بحدود (30) متراً،(جمال) يقبض بيده على العلبة وهو يتوسل بالسائق أن يفتح الباب، السائق ينظر اليه باستغراب ولم يستجيب لصراخه !
تطوع أحد الركاب ونادى على السائق أن يفتح له الباب بعد ان شرح له باللغة السويدية ما جرى، فتح السائق الباب.
أندفع ( جمال) بجوف الحافلة وهو يرمق السائق بنظرة عتاب، وعلامات الغضب والتعب مرسومة على وجهه الذي لوحته الشمس والتعب، سار عدة خطوات سريعة بين الركاب، وبسرعة يفتح احد الأكياس ويضع فيه علبة (الكوكا كولا) الفارغة، وابتسامة الظفر والارتياح قد ارتسمت على شفتيه؛ فيما كانت عيون معظم ركاب الحافلة تلاحق وتراقب(جمال) وتتهامس فيما بينها!
مالمو / السويد
3 تشرين الثاني 2016
العلب الفارغة : في مملكة السويد وكذلك في العديد من البلدان الاوربية، توجد علامات على العلب الفارغة، وكذلك القناني الفارغة، التي يمكن ارجاعها واستلام اثمانها، جميع العلب تستحصل قيمتها مقدماً من الزبون المتبضع، ويعاد ارجاعها في اماكن عديدة مخصصة – ماكنة – توجد في معظم الاسواق التجارية، بالإمكان وضع العلب فيها واستلام وصل بقيمتها، كان سعر العلبة الفارغة وقت تدوين الحكاية صيف عام (2007) نصف كرون سويدي، الآن وانا انشر الحكاية عام(2016) قيمتها ( كرون سويدي واحد) وقناني (الكوكا كولا) وبقية المشروبات الغازية الكبيرة بقيمة (2) كرون سويدي.