” تلك البهجة السرية ، والآمال المثيرة ، والمسرات، لم يتبقَ منها غير الأوجاع “/ المسرات والأوجاع/ فؤاد التكرلي.
كل عصر نلتقي في المقهى، ونستريح على(حصران)(دكَّتها) ،وجوهنا تقابل الشارع العام ، وشباب البصرة وشاباتها في منتهى التألق والانفتاح . فتيات البصرة ، ومنهن قادمات من مدن عراقية شتى للدراسة في جامعتها ، يتجولن في سوق (المغايز) بحرية وكبرياء وثقة ، سافرات ، مرتديات أحدث الأزياء ، التي اجتاحت العالم حينها. المد في نهر العشار، الذي خلفنا، يرتفع شيئاً فشيئاً وأحيانا يغترف بعضنا منه ماء رائقا لنغسل أيدينا ووجوهنا، وعلى حصرانها/ الخوص/ التي تصنعها نساء أبو الخصيب أو الاهوار،ثمة حوارات متواصلة عن أحدث الإصدارات الثقافية- الأدبية -السياسية، أحاديث ووجهات نظر واجتهادات لا تنقطع أبداً و أحياناً تتقاطع. مع بداية الليل نتوجه لنزهة على شط العرب ومرورنا الأول بـ(السياب) الواقف ،على علوٍ منتصباً. نرفع رؤوسنا نحوه، لنلقي عليه التحية ، دون أن نتوقع جواباً.ثم نكمل المسير إلى آخر الـ(كورنيش). ونتفرق بعد ذلك، والأغلبية منا تتوجه نحو (نادي الفنون) للاستمتاع بمسرة وبهجة حديقته وموائده الغنية ومباهجه البريئة الألقة ، المزينة بتواجد فنانات وفتيات بصريات ، منشغلات بشتى النشاطات الاجتماعية، بهيات ، مبدعات، فاضلات ، برفقة أزواجهن أو أشقائهن أو قريب لهن.أعزاء ينطوون على مختلف الإبداعات و الاهتمامات الإنسانية المختلفة ، في بصرة السبعينيات ومدنيتها ومباهجها البريئة ، المندثرة والمُحَرَمة الآن تماماً. في الساعة الثانية عشرة ظهراً، تعودت دائماً، وأنا في المقهى، على إرسال نظراتي مُتلهفاً ولهان، خارجها ، لأسباب لها علاقة بشغف ورفيف القلب ، ورغباته الجامحة التي لا أقوى على التحكم بها. كنت وأنا استمع لمَنْ يُحدثني ، انظر عبرَ الشارع، منتظراً مرور مَنْ تهواها روحي الشابة الطرية ، في تلك الأيام. متلهفاً لإشارتها المعلومة لديَّ، حسب ظروفها ، وألحق بها مُسرِعاً ،لأشبك يدها اليسرى الطرية ، بيدي اليمنى، فرِحاً ومرتبكاً في ذات اللحظة، ونذوب كالأسرار، عندما نتجول ونثرثر بأمانٍ وولهٍ ، لساعة أو أقل ، في الأزقة الخلفية الضيقة الرطبة، شبه المظلمة ، حتى مع انتصاف النهار، في (العشار). أراهُ ، وأنا أصوب نظري تجاه الشارع ، رائحاً غادياً، أو واقفاً تارةً للحظات، أمام المقهى، وتحت الشمس البصرية، الحادة ، الحارقة ، يتطاير شعره مع الريح ويرسل نَظراته،عبر نظارته الطبية الملونة،كالصقر، وسط المقهى دون أن يجرؤ على دخولها، فأخمن انه ينتظر أن يرفع (عبد الكريم كاصد)، المنحني على كتاب أو مجلة دائماً ، نظره إلى الأعلى ، كي يراه. عندها أُنبه (كريم) لذلك، فيخرج(كريم) ، مسرعاً ،بشوشاً ، فرِحاً، مرحباً بودٍ متواصل به ، ويقوده من يده، بحنانٍ واضحٍ للجلوس ، لكن ، في الصف الأول من (التخوت الخشبية)التي تقع خارج المقهى، ويظلان يتهامسان ،وظهراهما نحونا، دون أن نسمع شيئاً مما يتهامسان به ، كان ذلك الواقف تارة بمواجهة المقهى ظهراً و الرائح الغادي غالباً (محمود البريكان). ذكر كاظم الأحمدي، الثاوي حالياُ في مقبرة وادي السلام بالنجف بأمان وسكينة ، أنه طلب أن تنشر الوزارة (هموم شجرة البمبر)،مجموعته القصصية الأولى. فتم الاشتراط عليه حذف بعض قصصها ، فوافق، وسألناه، مصطفى عبد الله وأنا ، عن ذلك فأجاب: ” وافقتُ. وأضاف بأسف واضح:على مضضٍ..” و لم يحصل إلا على التعضيد ، وكان (75 ) ديناراً فقط ،وهو يعادل نصف كلفة الطبع، وصدرت عن مطبعة الغري الحديثة – النجف- في تموز عام 1975بغلاف صممه الفنان شاكر حمد. أخمن أن العزيز ((أبو ضحى)) غادر هذا العالم ولا سكينة لروحه المتوترة ، تجاه النقاد العراقيين ،موقناً أنهم لم يمنحوه حقه ، مع انه اصدر (5) مجموعات قصصية هي (هموم شجرة البمبر/1975/ القصة التي تحمل اسمها فازت بالجائزة الثالثة في مسابقة إذاعة صوت الجماهير عام 1974 / وطائر الخليج/ 1977 وغناء الفواخت/1980/ وشواهد الأزمنة/1986 / وتراص الأنا/ 1996 / ، وصدرت له كذلك (3 ) روايات عراقية هي: أمس كان غداً/1992/ نجيمات الظهيرة/2001 /تجاه القلب/2007. ودعاني خلال التسعينات لقراءة المخطوطة النهائية للرابعة المعنونة(قصر الأزلزماني)، وكانت مكتوبة بخطه الجميل الأنيق بلونين، إذ خص التداعي باللون الأحمر والسرد باللون الأزرق ، وتشكل مع سابقاتها رباعية، تتناول تأريخ العراق روائياً منذ ما قبل مرحلة 14 تموز 1958 حتى فترة الحصار ، والذي حوله إلى بائع ساعات مستعملة في سوق البصرة القديمة، وله كذلك مخطوطة جاهزة للطبع بعنوان ” اختيارات أولى- قصص مع مقدمة في الكتابة القصصية”كذلك أطلعت عليها. ولعل ما يبعث بعض السكينة في روحه ، ثمة طالبة في جامعة الموصل خصته بأطروحتها لنيل درجة (الماجستير) في النقد الأدبي، وزارته مع والدها في مسكنه ، الذي تتوسط حديقته الصغيرة شجرة “البمبر”، وأجاب على كل الأسئلة التي تساعدها في إكمال أطروحتها عنه ونتاجاته. وتسلم خالد الخميسي،واسمه الحقيقي في الوثائق الرسمية:(عبد الخالق عبد الرزاق) مجموعته القصصية الثانية(الملوثون)،الأولى حملت عنوان(القذر) ، في المقهى ، بعد طبعها في النجف. ووزع ، في منتصف الشارع المقابل للـ(الدَّكة) ،علينا، كاظم الحجاج(أخيرا تحدث شهريار) مجموعته الشعرية الأولى، التي صمم غلافها الملون الفنان “صلاح جياد”. وقد اشترط كاظم ، عدم التوقيع عليها، ما لم يدفع كلٍ منا ثمنها البالغ(200) فلساً مقدماً. وثمة كتب أخرى صدرت لبعض أدباء المدينة منهم: يوسف يعقوب حداد وعبد الرزاق حسين، وكاظم نعمة التميمي ومحمد راضي جعفر وعبد الكريم راضي جعفر وشاكر العاشور ونهال حسن العبيدي، توفت في أوج شبابها ، وزهور دكسن وأمير الحلي وإحسان وفيق السامرائي ..وغيرهم.لا تخلو المدينة من معرض تشكيلي خاص أو جماعي شهرياً في جمعية الاقتصاديين ، التي عرضت جماعة(الظل) معرضها الأول فيها وساهم فيه علي طالب وشاكر حمد ومحمد الزبيدي ومؤيد عبد الصمد وموريس حداد وسلمان البصري وغيرهم .كذلك عرض الفنان هاشم تايه معرضه التشكيلي الأول فيها. وأسس الفنان الراحل ناصر الزبيدي (كاليري) على نفقته الخاصة ، وأقام إبراهيم الجزائري و احمد الجاسم وكامل حسين وأبا ذر سعودي وهاشم تايه معارضهم التشكيلية فيها. قاعة التربية – نهبت تماماً ، وباتت مقراً لحزب سياسي- ديني، ثم أخلاها ذلك الحزب، وبعد أن تم أعمارها حملت اسم” عتبة بن غزوان”- تشهد عروضا مسرحية متواصلة لعدد من الفرق المسرحية و قدم المخرج محمد وهيب ، الذي لعب دوراً مهماً في تنشيط المسرح المدرسي بين الطلاب والطالبات، عروضا مسرحية متعددة على مسرحها ، وادخل لأول مرة على قاعة التربية تقنية (المسرح الدوار) عندما قدم مسرحية (راشمون/ أو الساموراي السبعة ) للياباني (كيرا كاساو) . وقدمت جماعة (كتابات مسرحية) على خشبتها مسرحية (الحقيقة) للكاتب المسرحي عبد الصاحب إبراهيم ، والذي هُجر من وطنه العراق بحجة التبعية ، كذلك قدم المخرج المسرحي جبار صبري العطية(المنجم) لمعين بسيسو، إضافة لكرنفال ( يوم المسرح العالمي) الذي يمتد لأكثر من أسبوع في الهواء الطلق أو على حدائق نادي الفنون. دور العرض السينمائية الشتوية والصيفية ، التي هدمت جميعها الآن ، تقدم عروضاً لأحدث الأفلام العالمية أو العربية. صحف بغداد اليومية و مجلاتها الأسبوعية أو الشهرية لا تخلو من نشر نتاجات أدباء المدينة.” حديقة اتحاد الأدباء في بغداد، على اتساعها لا تستوعب الجمهور-أكثر من نصفه نساء!- الذي جاء لحضور الأمسية الشعرية ، التي أحياها شعراء البصرة،من شيوعيين وبعثيين،أبلى فيها الشيوعيين بلاءً منقطع النظير،ظلت تردد صداه الصحافة الثقافية أسابيع عدة ، مما اضطر القيمون على الثقافة في بغداد، وهم يرون هشاشة وتواضع شعرائهم البعثيين إلى الاتصال بمدير دار الثقافة الجماهيرية في البصرة موبخين، فردَّ عليهم ، وهو الشاعر محمد راضي جعفر ، بصراحته المعروفة: هذه بضاعتنا يا رفاق، فأين العجب”؟.(محمد سعدون السباهي/ كوكب المسرات/سيرة ذاتية من يوميات سجين/ص166 /دار آراس للطباعة والنشر- أربيل-2011). ذكر لنا القاص مجيد جاسم العلي انه شرع بطبع مجموعته القصصية الأولى، (فتيات الملح) على نفقته . ذات ليلة ، مجيد وأنا، غادرنا نادي نقابة المعلمين بعد وقت هانئ جميل فيه ، وفي الطريق نحو(أم البروم) سألته عن السبب الذي دعاه ليهدي “فتيات ملحه” إلى(الفاو)؟ فأجابني: إنها مدينتي ومع مغادرتها من قبلي لكن روحي مازالت فيها وأشم كل صباح رائحة حنائها ، وأتمنى أن أعوم بعد الظهر يومياً في بحرها. فأضفت بمزاح : إنها تقع على البحر فربما سيبتلعها بحرها ذات يوم ، فرد مجيد مندهشاً:” أعوذ بالله”!!.وهذا ما حصل فعلاً إذ إن سنوات الحروب قد ابتلعتها وخربتها ، لا بل أزالتها عن موقعها القديم. وعلى(الدكّة) تسلم الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، وهو في طريقه إلى بيروت ،مخطوطة رواية عبد الجليل المياح “الفرس والسماء المربعة”،ومعها المخطوطة الشعرية الأولى لمصطفى عبد الله ، المعنونة “العودة إلى البلاد المحلة”وغلافاهما اللذان صممهما الفنان التشكيلي شاكر حمد، لغرض طبعهما في دار العودة ، لكن احتراق مكاتب دار العودة في بيروت، حال دون ذلك. وعندما طالبَ المياح وعبد الله بالمخطوطتين وغلافيهما، أصر صاحب دار العودة على احتراقهما كلية. منتصف شتاء عام 1981 ، والبصرة تمزقت روحها وفرض عليها التعتيم الإجباري، من أي ضوء كان مع بداية المساء، وتحوم في سمائها غربان الموت ، وتئن شوارعها من ثقل الدبابات وسرفاتها الحديدية ،أو المحملة بناقلاتها ، وسيارات (الزيل) العسكرية تجر المدافع الثقيلة والمعدات الحربية ،محملة بالجنود نحو مصائرهم المجهولة،إلى نيران جبهات الحروب الجنوبية المستعرة، كنت حينها أتجول صباحاً ، وأنا في حالة ذهول تام مما أرى ، مغالباً خوفي من قذيفة حرب قد تسقط قريباً من مكاني، رحت أتجول في ما تبقى من معرض المطبوعات التابع لـ(الدار الوطنية للنشر والتوزيع والإعلان)، في العشار، فشاهدت غلاف مجموعة مصطفى عبد الله والذي صممه شاكر حمد،وهو يحتوي على مختارات شعرية متنوعة للشاعر عبد الوهاب البياتي، بعنوان”كتاب البحر”!!؟. وما أثار دهشتي جداً ، وجود نسخاً قليلة معروضة من مجموعة (الحقائب) لعبد الكريم كاصد ، الهارب برفقة مهدي محمد علي عبر بادية السماوة ، وكانا حينها يقيمان ويعملان ثقافياً في (عـدن) ، بطبعتها الأولى والتي صدرت مستنسخة، بخط الفنان هاشم تايه،عن (دار العودة) في بيروت ، فأردت اقتناءها، مع مختارات (البياتي) تلك. فقالت لي الموظفة ، بعد أن نقبت في أوراقٍ أمامها بحجة البحث عن سعرها:إن( الحقائب) للعرض وليست للبيع !؟. بعد أيام عدت للمعرض ، فوجدت (حقائب) دار العودة ، قد اختفت ، وخشيت جداً الاستفسار عن مصيرها!؟.