ذات يوم في ثمانيات القرن العشرين كنت أتابع حوارا تلفازيا مع الكاتب المصرية الدكتور يوسف إدريس رحمه الله , فسأله المحاور عن السياسات العربية , فكان جوابه: “مفيش سياسة”!!
وبقيت العبارة تتردد في ذاكرتي كلما تأملت ما يجري في بلاد العُرب أوطاني , فأجد أن الجواب الجامع لكل ما يحصل من أحداث وتداعيات وإنهيارات عاصفة يكمن في “مفيش سياسة”!!
فالواقع العربي بما فيه وعليه يعاني من غياب السياسة وفقدان السياسيين , والذين يديرون الأمور ما هم إلا تلاميذ وأدوات مسخرة بأيادي الآخرين من ذوي المصالح والأطماع والقدرات الإستعبادية والإمتهانية والإستحواثية على الثروات والشعوب.
فأين السياسة في كل قضية وحدث ومواجهة وتحدي؟!
إن مشكلة العرب يمكن إختصارها بغياب السياسيين والسياسة , فمفهوم السياسة أن تجلس على كرسي الحكم والمسؤولية وحسب , وفجأة تكتسب صفة السياسي , وتمضي في أخذ البلاد والعباد من مهلكة إلى مهلكة , فأنت العارف الفاهم العلامة والعادل المنصف والثائر
ضد الظلم , وما تقوم به مباح , إذ يحق لك ما لا يحق لغيرك من الرعية والأتباع.
ويكون المُسمى سياسيا كالديك المتسلط على الدجاج أو كالكبش المتفرد بالقطيع , وذلك هو ديدن ساستنا وحكامنا في كل زمان ومكان , وعلى البلدان والناس تدور دوائر جسام.
فلو تفحصنا أي قضية أو تحدٍ منذ بدايات القرن العشرين وحتى يومنا هذا , سيتبين لنا غياب السلوك السياسي بمفاهيمه ونظرياته وقوانينه المعاصرة , ولهذا ما تمكن العرب من حل أية مشكلة داخلية أو إقليمية , ودائما يستنجدون ويتوسلون بالقوى الخارجية لحل مشاكلهم
, ويُظهرون سذاجتهم بتناسيهم أن أية قوة أخرى لا تفكر إلا بمصالحا , أما العرب فمصالحهم ضمائر مستترة أو أسماء مبنية على المجهول , وبسبب فقدان النباهة الوطنية والغيرة المصلحية أصاب العرب الذل والهوان , وأصبحوا في القرن الحادي والعشرين يمثلون أدوار
الأخوة الأعداء.
تلك حقيقة دامغة تلخصها عبارة “مفيش سياسة” يا عرب , فتعلموا من الآخرين كيف تكون السياسة , وما هي علومها وفنونها ومهاراتها , قبل أن تتوهمونها وتتصورونها وتظنون بأنكم ساسة وما أنتم إلا أسماء مجرورة , ومنصوبة بعلامات التسخير لإنجاز مصالح الفاعل
بكم والقابض على مصيركم!!
فهل عرفت الكراسي العربية معنى السياسة؟!!
أما القيادة فحدث ولا حرج!!