إذا كانت المعلومة تدل على المعرفة والوعي، والإدراك بشيء محدد ما، فإن التحليل يمثل عملية تالية تكون هي مادتها الأساسية، وهي نتاج استخدام الإنسان لها في سبيل الوصول إلى فهم أدق وأشمل، وبما يجعلها أكثر فائدة وقدرة على التوظيف، وفي ذلك تتفاوت القدرات والإمكانيات الفردية.
وهكذا، لا يمكن التعامل مع المفردتين بذات القيمة والمكانة والأهمية، إذ تبقى المعلومة ـ التي ثبت صحتها ووثقت بشكل تام ـ الأصل والأساس الذي لا غنى عنه، بل لا قيمة لكل قول دون توفرها.
والأمر يشبه إلى حدٍ كبير الفارق بين النص وبين قراءته، فالتحليل الذي يمثل جهداً بشرياً مهما كان بارعاً لا يعدو أن يكون قراءة لها خصوصيتها وظروفها ودوافعها التي تتمثل بها في نهاية المطاف، وحينها إذا كانت المعلومة ملزمة العلم بالشيء فإن التحليل يؤخذ منه ويرد عليه ولا الزام فيه ولا اطلاق.
ومنذ أن ابتلي العالم ـ مع ظهور القنوات الفضائية وثورة الاتصالات ـ بظاهرة المحللين على اختلاف ميادينهم، والخلط واضح والتأثير كبير لتداخل المعلومة مع التحليل، وغلبة الأفكار والتوجهات الشخصية على الطرح، إذ يجري بشكل واضح وملفت تسويق الكثير من الآراء الفردية الخاصة على انها معلومة ثابتة وحقائق لا تقبل النقاش بينما هي في كثير من الأحيان لا تعدو ان تكون خيالات وأوهام لا قيمة علمية لها مطلقاً.
ويمتد الأمر ليطغي حتى على النتاجات، من مؤلفات اكاديمية أو ثقافية، تتداخل فيها القراءات ويغيب النص في لجّة التسويق المخادع ـ عمداً ام دون عمد ـ عن القارئ الذي يخرج من قراءة ما بين يديه من عمل بتصورات وقناعات هي أبعد ما تكون عن الحقيقة، أو في احسن الأحوال مفسرة بطريقة مغلوطة.
بل نجد هذا التداخل اليوم مثلاً يطغى على كتابة وتدوين المذكرات الشخصية وشهادات الفاعلين على عصورهم التي كانوا جزءاً منها، فيذكر سطر من المعلومة ثم تملأ الورقة بالانطباعات والتخيلات والمواقف، ناهيك عن التشويش على القارئ بوضع تصورات بعدية لحوادث سابقة تفقدها جوّها الخاص بها والظرف الذي وجدت فيها وعاشت في ظله، والبون شاسع جداً بين الأمرين.
أما ما يوصف بالمعلومات السرية فأمرها أعجب من العجب ذاته، ذلك ان البعض ممن امتهن صنع الخيل ورسم الوهم، يلج كل حين ــ بثقة وجرأة بالغة الغرابة ــ الغرف المغلقة لينقل لنا ما وراء الكواليس بل ما يدور بين رؤساء الدول بارتياح كبير وكأنه كان وسطهم ومعهم وهو لم يحظى حتى بفرصة مشاهدة اللقاء؟!.
لقد بتنا بحاجة إلى القليل من احترام العقول! فلا يمكن لأي تحليل أن يكون دقيقاً دون تجرد واستكمال المعلومة، ولا يمكن التعامل مع المعلومة والتحليل بذات المستوى أبداً، ولا يمكن القبول بالتالي بهذه العمليات الجراحية التي تجرى على المعلومات والأخبار والأحداث لتصنع منها شكلاً ثانياً ليس هو كما كان اولاً، ثم تقدم لنا على طبق المخادعة معلومة يراد منّا تبنيها واعتمادها.
ولو تأملنا فيما يحيط بنا اليوم من هذا الكم الهائل من الضخ الإعلامي والكتابي، والتشويش الحاصل في أذهاننا ومعنا الملايين من الناس، لوجدنا ان كثيراً منّه هو نتاج هذا التداخل، وفك الارتباط واجب وضرورة لازمة من أجل اتضاح الرؤية واتساق الفهم وتحقيق التتابع والتسلسل المنطقي دون اغفال واهم أو دمج باكراه.