لعل أبرز إشكال فلسفي لم يحسم الجدل فيه هو:طبيعة وهيكلية الفكر السياسي الإسلامي فمنذ انتهاء عصر النبوة تنازعت نظريتان في الفكر السياسي الإسلامي هما نظرية الشورى (انتخاب الناس للحاكم) عند السنة ونظرية النص (التنصيص على الإمامة) عند الشيعة.
وعلى خلفية هذا التنازع انقسم المسلمون الى أهل السلطة من جانب وفريق المعارضة من جانب آخرواستمر السجال الفكري والعقائدي طوال القرون المتعددة ففي منتصف القرن الأول الهجري تحولت السلطة من الشورى الى الوراثة الملكية فأنتهت نظرية الشورى الصورية السنية فعليا.أما عند الشيعة أصحاب نظرية الإمامة ففي عصر النص(عصر وجود الإمام المعصوم)كانت نظرية التعيين الربانية هي التي تحدد الإمام وصلاحياته المطلقة لكن بعد انتهاء عصر الأئمة المعصومين صارت نظرية الدولة الشيعية على مفترق خيارات متعددة:1-خيار اعتبار السلطة وإدارة الدولة والمجتمع من وظائف الإمام المعصوم الغائب وعلى هذا الاساس برزت نظرية الإنتظار ورفض استلام مقاليد السلطة.2-خيار الصلاحيات المحدودة للفقهاء والمحدثين وحملة العلم الديني الشرعي بما يطلق عليه (بالولاية الحسبية المحدودة).3-خيار الصلاحيات المطلقة للولي الفقيه الذي ظهرت أولى بوادرها في عصر المحقق الكركي وطورها النراقي وطبقها الإمام الخميني وامتدت حتى العصر الحاضر.
مصادر الفكر السياسي الإسلامي.
1-القرآن. وهو المصدر الاول والمفترض أن يتفق عليه الجميع لكنه لم ينجو من الإختلاف وسقط في بئر التاويل ووصفوه بانه(حمال أوجه).
2-السنة النبوية.وهي في إصطلاح علماء اصول الفقه ماصدر عن النبي -من غير القرآن-من قول او فعل اوتقرير هذا عند السنة اما عند الشيعة فهي قول أو فعل أو تقرير المعصوم فيدخلون الأئمة الأثنى عشر باعتبارهم امتداد للنبوة.ولم تنجو السنة ايضا من الإختلاف وإذا كان القرآن وقع في بئر التأويل فالسنة غرقت في بحر التحوير حيث لايكاد يتفق مذهبان من مذاهب المسلمين على سنة واحدة.
3-الإجماع.هو: اتفاق أهل الحل والعقد. وعن الحاجبي: “أنه اتفاق المجتهدين من هذه الأمة”. أوهوالإتفاق على معنى النص مع عدم النزاع على حكم غير منصوص.-هذا عند السنة-أما عند الشيعة فالإجماع هو:الذي يكشف ضمنا عن قول المعصوم سواء قل المجمعون أم كثروا وسواء كان دليلا مستقلا مقابل الكتاب والسنة والعقل أم أنه طريق وحاك عن رأي المعصوم فالإجماع بما هو إجماع لا قيمة شرعية له عند الإمامية ما لم يكشف عن قول المعصوم، فيكون الإجماع منزلته منزلة الخبر المتواتر الكاشف بنحو القطع عن قول المعصوم!
4-العقل.عند الشيعة يرجع إليه وإلى قواعده عند فقدان النصوص أو تعارض الأدلة وملخصه : هو إدراك العقل بما هو عقل للحسن والقبح في بعض الأفعال الملازم لإدراكه تطابق العقلاء عليه وذلك ناتج من تأدب العقل بذلك وبما أن الشارع سيد العقلاء فقد حصل إدراك حكم الشارع قطعا وليس ظنأ.والقياس عند السنة هو:حمل فرع على أصل في حكم لعلة جامعة بينهما. هذة هي مصادر الفكر السياسي الإسلامي عند الشيعة والسنة (القرآن والسنة والإجماع والعقل عند الشيعة)و(القرآن والسنة والإجماع والقياس عند السنة).
التأمل الثاني.
تحدثنا في التامل الاول عن تاريخ نشوء المشكلة في الفكر السياسي الإسلامي ومصادر هذا الفكر في الفرقتين الإساسيتين الشيعة والسنة وبيان مابينهما من فروق على مستوى التنظير الفقهي لن نعير أهمية كبيرة لإختلاف الفقهاء حول التفسير الصحيح لهذة المصادر فهو موضوع يحتاج الى دراسة خاصة قد لاتهم إلا المختصين في هذا المجال وسيكون نقدنا موجها الى ماأتفق عليه هؤلاء الفقهاء من قضايا الفكرالسياسي الإسلامي المستنبطة من المصادر المذكورة.وستكون خياراتنا النقدية فلسفية لكنها لاتخفي بعداً سياسيا واجتماعيا تغيريا نهدف إليه، خصوصا في مواجهة الهجوم الشامل والعنيف للأصولية السياسية والاجتماعية الجادة في أسلمة البيئة والفضاء والهواء، المسيطرة على الأجواء العربية والإقليمية الشعبية والرسمية إلى حد بعيد، تجرها نحو صراع وتناقض مع العالم والواقع. في هذا الخضم الهائل من الضغط في مواجهة العقلنة والتجديد والإصلاح كان لزاماعليناالعمل بمنهج تفكيكي قبالة البناء الأيديولوجي المتجذر عبر إرث تاريخي تراكمي حظي بأفضلية الممارسة والتطبيق استعصى على التغير وعاند الإصلاح والتجديد ولن يتحقق تقدم أو تطور نسبي ما لم يتم نقده وتفكيكه بشكل علمي منظم.والمصادر التي نحن بصدد بحثها ودراستها هي الوعاء الذي خرجت منه الأشكال المتعددة لأنظمة الحكم الإسلامي عبر التاريخ وهي التي ستستخدم لإنشاء أشكال جديدة في المستقبل وفقا للتغيرات الجيوسياسية. ومطلبنا الوقوف عند النبع الذي ألهم وأوحى ذلك الكم الكبير من التنوع وتأطير الفضاء الحاوي لأركان وقواعد تلك النظرية ومراحل تطورها ومدارسها وأشكالها العملية وهذا النبع هو المصدر الاول.
1-القرآن:تُشتقت كلمة “قرآن” من المصدر “قرأ”، وأصله من “القرء” بمعنى الجمع والضم، يُقال: «قرأت الماء في الحوض»، بمعنى جمعته فيه، يُقال: «ما قرأت الناقة جنينًا»، أي لم يضمَّرحمها ولد. وسمى القرآن قرآنًا لأنه يجمع الآيات والسور ويضم بعضها إلى بعض.
واصطلاحاً:هوكلام الله المنزل علي نبيه محمد المعجز بلفظه المتعبد بتلاوته المنقول بالتواتر المكتوب بين دفتي المصحف من أول سورة الفاتحة إلي آخر الناس.(علوم القرآن،محمد باقر الحكيم،ص19).
يعتير القرآن النص المؤسس الأهم للإسلام وكل مايتعلق به من أحكام على مستوى الفرد والمجتمع بل والأمة جمعاء والأكثر من هذا أدعائه الخاتمية الابدية في التشريع فالحلال حلال فيه الى يوم القيامة والحرام حرام فيه الى يوم القيامة ولايجوز ولايحق لاحد مهما كان ان يغير هذة الاحكام! والمفترض بهكذا إدعاء أن يأتي بارقى وأنقى وأكمل تشريع فهو المثال الذي لايدانيه مثال ولايصل الى مجاراته اي عقل مهما عظم لأن مصدره المطلق الذي لايخطا ولايسهو ولايضل ولاينسى.والنظام السياسي هو الاهم من بين النظم الاخرى لانه أدارة الشان العام للامة بل للإنسانية جمعاء فهل يوجد في القرآن تفصيل للنظام السياسي وشوؤنه؟
كل من تفحص القرآن يعرف على وجه الدقة أن القرآن ليس فية تفصيل للنظام السياسي ولا يتحدث القرآن إلا بالإجمال فيما يتعلق بشؤون الحكم والحكومة والدولة. إذ لا توجد سوى خطوط عامة أو من الأفضل القول بضعة مبادئ تتعلق بطاعة الحاكم وممارسة الشورى وتحقيق العدالة. ولا يوجد هناك ما يتعلق بانتخاب أو تعيين الحاكم ومواصفاته والشؤون الإدارية وتشكيل الحكومة.بل حتى مصطلح الدولة مستخدم في القرآن(كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) (الحشر:7) بمعناه اللغوي وليس السياسي إن لفظة (دولة) مشتق من الفعل (دالَ) أي انقلب من حال إلى حال، و(دالت له الدولة) أي صارت إليه، والدولة (بفتح الدال أو بضمها) تعني ما يتداول مرة لهذا ومرة لذاك، فتطلق على المال والغلبة. كما ورد في القرآن معنى التداول والمداولة حيث جاء (وتلك الأيام نداولها بين الناس) (آل عمران: 140).
يقول محمد عابد الجابري : ((إنه لا يكفي أن يقال إن الحكم في الإسلام مبني على ((الشورى)) وعلى ((العدل)) وعلى ((الإخاء)) …الخ. فجميع الديانات وجميع المذاهب السياسية والاجتماعية ترفع شعارات من هذا النوع لسبب بسيط هو انها شعارات تعبر عن قيم إنسانية خالدة ومثل عليا يتطلع البشر جميعاً في كل وقت إلى تحقيقها))( 1).
ويرى محمد سعيد العشماوي “انه لا توجد آية واحدة في القرآن الكريم توجه المسلمين إلى أية حكومة سياسية معينة ، أو حتى تشير إلى النظام السياسي، فإذا كانت الخلافة أو الإمامة أوالامارة(أو أي شكل للحكومة)من صميم العقيدة الاسلامية لكان من الضروري أن ينص القرآن على ذلك “( 2).
ويذهب إلى هذا الرأي عبد الإله بلقزيز إذ يقول : ((لكنه (أي القرآن) لم يقدم تشريعاً خاصاً للمسألة السياسية يرسم إطار السياسة والسلطان ويحدد وظائفها ، ويرسي قواعدهما على نصوص وتعاليم صريحة التعريف والتعيين))(3 ).وللحديث بقية-يتبع.
………………………………………………….
(1 ) محمد عابد الجابري،الدين والدولة وتطبيق الشريعة،ط3 ، (بيروت،مركز دراسات الوحدة العربية،2009) ، ص73.
( 2) محمد سعيد العشماوي ، الإسلام السياسي ، (القاهرة ، دار سينا للنشر ، 1986) ، ص89.
( 3) عبد الإله بلقزيز ، تكوين المجال السياسي الإسلامي ، النبوّة والسياسة ، ط1 ، (بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2005) ، ص46.