نحن شعب مزدحم!
وتلك مرتبة اجتماعية، وحالة نفسية قلما يدركها الناس.. واستطيع تعريفها بانها: (حالة لا شعورية تمر على المرء وهو وسط الازدحام تجعله لكثرة ما ذاق طعمه المرّ يزداد به تعلقاً، بل ويرتقي في مراتب علاقته به من (الصدمة – الاعتياد – المحبة – العشق).. وصولاً إلى التلاشي والذوبان.
وهذه الحالة التي ربما يعجز حتى فرويد عن تفسيرها تنتج شعباً سريع الغضب، متقلب وحاد المزاج ولكنه في نفس الوقت مطواعاً وقابلاً للاستسلام، مع مزيج من عدم الاهتمام إلا بما يدور حوله، إذ في النهاية لا اهم من انتهاء الازدحام، فانا والطريق والنجاح في الوصول.. ومن بعدي الطوفان!
وأشك مرات عدة في ان نظرية الحلول والاتحاد الكؤود ولدت في احدى شوارع بغداد؟! فهي لا تعبر الا عن ذاتٍ متأزمة كانت عائدة يوماً إلى منزلها فاصطادها هذا الفك المفترس لتقتات الشوارع من زمنها وحياتها حتى التخمة!!
ولكن: لم التشاؤم؟!
فما اقوله من ناحية أخرى يبعث عن البهجة والسرور، فالكثير لا يعرف اي سر يكمن في متعة هذا المشهد الباهر من تكدس السيارات والانفس والارواح.. فانا وسط كل ذلك، تضطرب نفسي حيناً ثم تسكن.. فكأنها روضت على هذا الشقاء، ثم تتشابك الحواس وسط الضجيج والصياح والعراك الممزوج بشتى أنواع الألفاظ المنتقاة بعناية وتلذذ من كتاب (تعلم كيف تدير معركتك وسط الزحام)!!.
واجدني بعدها ادخل في حوارات مع نفسي، وكأني ممسك للكأس العراقية وانظر حائراً في نصفه الممتلئ ثم الفارغ أيهما أختار، فاكتشف بعدها أصلاً أنه لا كأس بيدي واني اكاد اصاب بشيء من الهلوسة والذهان!
وهكذا عودت نفسي ان امسك بالتفاؤل ولو وهماً أو خيالاً، وعمدت الى استثمار الوقوف القسري وسط طوابير السيارات في توليد الأفكار، فأنا اكتب خلاله عشرات العبارات، واتأمل – وانا المختنق الناظر الى منزله وكأنه حلم لا يتحقق الوصول إليه- في تطور الدول وتقلب المجتمعات، فالمشهد اليومي المتكرر يختصر لي وبشكل عملي كتاب ديورانت عن قصة الحضارة، ويجعلني قبالة ما دونه الدكتور علي الوردي عن طبيعة المجتمع العراقي، لأقرأه عياناً في عيون الناس!.
لذلك: ارجوكم ايها المسؤولون التماساً.. لا تفكروا يوماً بحل هذه المشكلة ابداً، فمن هذا الزحام تتشكل هويتنا التي ان فقدناها ضعنا وتهنا في هذه الدروب المتشابكة! وتعلمون ان تيهنا قارب على الاربعين ونحن ما زلنا لا نعلم أي بقرة نذبح حمراء ام صفراء ام خضراء وسط التقاطعات المملوءة بالمعذبين في هذا الأرض العراقية التي يكاد التعطش للحياة يقتلها يومياً دون انتهاء!