18 ديسمبر، 2024 6:09 م

الشمس تذرف دموعها الغسقية عند مجيئي الى هذه البقعة التي لم أتبينها بعد ولكن الأطلال والهياكل المبعثرة أمامي كانت بمثابة نغزة في قلبي جعلتني أشك شيئا فشيئا . وفجأة رأيت من حولي صبية يتراكظون في اتجاهات عشوائية كأنهم مذعورون من شبح يلاحقهم في أذهانهم !.

وبعد ان اختفى هؤلاء الصبية عن ناظري شعرت بأن هواءا فاسدا يمر من أمامي كأنه قادم من قبو مظلم سكنته أجساد متعفنة .

واهتديت فجأة الى كل هذه المشاهد التي همست لي أخيرا بأن هذه البقعة هي مدينتي التي هجرتها بلا شك ,لكنها اليوم لم تعد جميلة كما عهدتها حيث كانت أضوائها البراقة, وشجيراتها المنتشرة على طول الطرقات التي تبعث أوكسجينها النقي الذي يدخل نفوس المارة ويزيل عنها القيح المتراكم كل يوم , وحيث العصافير الرشيقة التي لم تنقطع يوما عن إصدار ألحانها التي أشبه بفلوت ذهبي يتوسد السماء كل صباح ومساء .

أما اليوم فلم يعد لهذا الجمال معنً سوى ذكريات تبخرت بين ثنايا الأطلال- والأرصفة القديمة تدور بينها لأجل العودة بهيئة الحاضر! . فما الذي جرى إذن في هذه المدينة ….! , لم أعد أرى أحدا غير الأطفال الفارين فجميع أبواب المدينة كانت موصدة أمامي ولم أسمع وراءها غير أصوات الصمت الثقيل .

أما المزارع فكان منظرها أشبه بأرضٍ رمادية جردها الجراد من كل خضرتها .

طرقت هذه الأبواب الموصدة عل أحدٍ يخرج إلي ولكن لم يخرج أحد … بالرغم من أنني أسمع أصوات خافتة ربما كانت هواجس تتخلل هذا الصمت الثقيل ؟!.

وهكذا بعد ان يئست من الطرق الطويل كان علي ان أواصل سيري في النهاية لأتبين الحقيقة – أعني حقيقة مدينتي هل هي تعرضت لكارثة طبيعية مثلا ؟, أم ان قنبلة ذرية سقطت على أرضها ؟….. الخ .

هل هذا معقول ؟؟, هل تحولت مدينتي الى مدينة من الأشباح ؟, أم ان “المجذومين” جاؤوا ليسكنوها انتظارا لساعات أجلهم في هذه العزلة ؟!.

لم أجد إجابات شافية لأسئلتي الكثيرة … لكن بالرغم من حيرتي إلا أني لم أفقد الأمل تجاه الحقيقة وان كان ثمن معرفتها جنوني أو وسواسي !.

لكني لم أعثر على تلك الحقيقة بعد .

رغم ان عبء الصدمة كان قد أثقل كاهلي اليوم , إلا اني عدت بذاكرتي المخبوءة الى الوراء رويدا رويدا فتذكرت أشياء كثيرة لم أدركها منذ البدء تذكرت عن الكثير من أناسها الذين كان الانحلال الخلقي يسير بين عروقهم ,وتذكرت كم كان الوجهاء يفرضون أتاواتهم عنوة على الكادحين والمسحوقين الذين كانوا لا يتجاوزون غير القلة القليلة المستضعفة , فالجميع هناك ركب موج الشياطين عن رضا وقناعة .

وتذكرت أيضا الجماعة التي كانت تحكم المدينة و الذين كانوا يطلقون على أنفسهم (الآباء الروحيين) كيف كانوا يستغلون رسائل السماء المنوطة بهم ليمزقوها في دهليزهم ويستبدلوها برسائل خطوها بسخام أياديهم ليعلنوها فيما بعد دينا جديدا على الأشهاد !.

وتذكرت أيضا كم من روح بريئة زهقت وصلبت على جذوع النخل لأن هذا لم يسدد ما عليه في الوقت المطلوب , وذاك متهم بكذا وكذا … فالجميع هناك عليهم ان يطيعوا وهم مغمضي العيون وإلا سيكون مصيرهم على جذوع النخل (الفرعونية) !.

بلى كانت مدينتي بلا شك أجمل مدن الدنيا لكن النفوس مسختها بهذا الوجه الدميم الذي أراه اليوم فلم يعد لمقام الحق والعدل مكانا فيها , أما “المؤمنين” فاضطروا فيما بعد الى الركوع لغير إلههم ليبايعوا هذا الدين الجديد وإلا سيظلون كادحين ومسحوقين طوال حياتهم .

لذا لم استغرب عن ما حل اليوم بمدينتي التي أضحت كامرأة عجوز تسعل كل لحظة دون توقف .

أما اليوم فأمست مدينة مهجورة كأنها ولدت من رحم اللعنات لأن ما أقدم عليه الوجهاء والآباء وحاشياتهم لم يكن غافلا عنه من في السماء , فلا يمكن للديدان ان تغالي بشرورها مدى الحياة لأن الأقدار المخبوءة ستسحقها حتما فكيف اذا كانت ديدان متمردة ؟!.

وليت مدينتي تعود من حيث رونقها السابق ولكن هيهات أيتها الأقدار فما علي اليوم غير ان استسلم لحلمي الذي أتمنى ان لا يطيل في منامي ويسرح بروحي نحو العالم المجهول الذي أخشى ان يبعدني عن الحقيقة التي وجدتها اليوم ! .