-28-
جلجامش لم يصدق موت انكيدو، الحي يُصاب بالمفاجأة حين يموت احد افراد عائلته، القائد الجبان يتحمل فناء شعبه بالكامل قبل ان يقبل القائد أن يُصاب بجرح في اظفره!!، الموت لايصفع القادة راشديا على وجوههم او جلاقا على مؤخراتهم النووية الا حين يأخذ الموتُ عزيزا على قلوبهم…القادة والسادة والطغاة والظالمون يؤمنون بالمثل القائل( إصواب البغيرك شدخ!!)…الموت ضروري للايمان …بالحياة…
جلجامش أصيب بانفصام الشخصية،أصبحت لديه شخصيتان،جلجامش العظيم…وجلجامش الفطير، كان اول شخصية أوروكية تثور على نفسها…من جلجامش ابتدأت مسيرة الامراض النفسية…جلجامش هو فايروس الحضارة الذي أصاب الشعب بالعدوى…كل فرد من شعب اوروك هو قائد بالفطرة، هو القاتل والضحية، والقاضي والجلاد.. بنفس العظام الا ….ان لديه جلود الجميع!!، هو الثائر والخانع والشريف والحرامي والهادي والمضل بنفس اللحظة..الآلهة ابتليت به…وهو ابتلي بها..جلجامش الأمير يقف امام وجهه الفطير في المرآة …الأثنان يجترّان الحياة في اوروك…والشعب العظيم ليس بيده أيَّ شيء للتغيير غير ان يلعب بقلاقيله!!…
جلجامش الأمير يقف خارج المرآة وهو يرتدي الملابس الملوكية ويضع التاج فوق هامته، ولم ينس أن يضع مسدسا في جانبه الأيمن ومسدسا في الجانب الايسر.. بينما جلجامش الفطير في داخل المرآة يلبس دشداشة شاكر ويضع شطفة فوق راسه، يخاطب جلجامشُ الأمير جلجامشَ الفطير:
-الشعب عليه ان يعرف انه كان على حافة الانهيار لولا وجودي على قمة السلطة، حظهم الحسن انني كنت أقودهم، على الجميع ان يشكرونني..من الطفل الصغير الى الشيخ الكبير..وجودي ضروري للحياة في اوروك، انا الثالث بعد الهواء والماء..انا الملك..
جلجامش الفطير يقول له بلغته الحالمة:
-ليس هناك شجرة بانتظاري…انا الظل الذي يبحث عن جسد..انا الدمعة التي تبحث عن نبع عينها في الوجود، انا بقية الطين في هذا الجسد الظالم…الملك ياجلجامش ان تكون انت مملوكا لغيرك، لا أن تكون ملكاً على غيرك..وجودك ليس في غياب غيرك، بل غيابك في وجوده…ان تكون ظلاً لجسدك خير من ان تكون جسداً لظلك!..
– ماهذه الفلسفة الفارغة في الوقت الإضافي للشوط الثاني في الحياة؟ الجميع يريد تحقيق هدف وانت تتفلسف على خط المرمى وبين قدميك الكرة؟ هل تريدني ان اغني لك (يعجبني اشوفك لاعب اسمك يملي الملاعب…تهجم نوبه وترجع نوبه غالي وفكرك يم الطوبه…العب يحبيبي)..
– ياجلجامش…الحياة ملعب لتفوز على الشعب، لك ان تكون لاعباً او متفرجاً، ليس بإمكان الجميع ان يكون لاعبا أو متفرجاً في نفس الوقت، الحكمة لاتاتيك على الدوام، انتهز فرصة وجود الحكمة حتى لاتصنع انقلابا عسكريا على نفسك..الفجيعة الكبرى التي لم تكتشفها انت او ربما اكتشفتها ولم تهتم بها، ان الشعب يعيش على ساحل الحياة بينما انت تغوص في داخل البحر، تستهويك فكرة الفارس كما تستهوي الشعوب فكرة القائد والفارس..برغم انكم لا فرسان ولاقادة و اكبر خوات كَحبة…كل شعب يجلد ذاته هو نفسه من يصنع فكرة المنقذ ليخلص نفسه من وهم القيادة، الشعب تبع لقائده، الشعب هو من يرشح القائد ليقوده ثم ينقلب عليه فيقتله ويسحله…القائد والشعب لايستطيعان تقبل الواقع، فيقوم الاثنان بصنع الوهم ليكون الأول ملكا والآخر عبداً، انتهت فكرة وجود البطل والقائد حين قام مواطن اوروكي اسمه اطويرش بتسقيطكم داخل أنفسكم، وتبعه الشعب بشتمكم وتسقيطكم في داخله…الشعب لايملك ان ينتقد نفسه، بل يشتمكم ويسحب الثقة عنكم من اجل ان يعيد بعض ثقته القلقة بنفسه…ثم يرشح اخرين ليسقطهم بنفس الطريقة ونفس خطة اللعب..3-4-3…الشعب ينفخ الطغاة مثل بالون ممتليء بغاز التفاهة…حتى اذا صعد الى الاعالي…يمد نفس الشعب ادعيتهم الشبيهة برؤوس الدنابيس ليثقبوا البالون…فيهوى الى الأرض …ثم يعمد نفس الشعب الذي نفخه الى سحله على الأرض وهم يسمونه الشهيد القائد!!..
– اذن نحن نستحق ان نقود هذه الشعوب الفاقدة للذاكرة…وهم يستحقون ان يُقادوا من قبلنا..نحن الذين نصنع هالة حضورنا في غيابهم…يريدون ان تكون اوروك منزوعة السلاح…ونحن نريدها ان تكون منزوعة اللباس!!….
– مات أخوك انكيدو…موته مفتتح حقيقي لموتك أيها الملك..لم تستطع ان تمنحه الخلود ولن تستطيع منح نفسك هذا الخلود الصوري…انت ستموت لاحقاً…الذي يقول لك ان الخلود ببقاء اعمالك الكاملة على رصيف شارع المتنبي فانه يضحك عليك..اي حيوات تصطف مثل شواهد القبور في مقبرة شارع المتنبي؟ انت قضيت عشرين سنة في الحكم طاغيا ومغتصبا …فهل تريد من الشعب ان يشتري اعمالك الكاملة بسعر وجبة عشاء لعائلة كاملة؟ هل تريد من الشعب ان يلتهم اعمالك بدلا من رغيف خبز بامكانه اسكات صوت معدته الثوري؟
يخرج جلجامش من سيناريو الحوار بينه وبين جلجامش الفطير، يرسل في طلب نقابة النحاتين، وقال لهم أصنعوا تمثالا لصديقي انكيدو…من هناك..ابتدأت مسيرة التماثيل من جلجامش وحتى آخر نحات لوجوه الحكام في اوروك، ونقل التلفزيون الوطني خطابه المباشر بعد ان وضع مجسّما لصديقه انكيدو امامه قرب المنصة، وكان يحمل مسدسين وكلاشنكوف نص اخمص روسي:
[ اسمعوني أيها الفنانين واصغوا لي، من أجل انكيدو، خلي وصاحبي، أبكي وأنوح نواح الثكلى، أنه الفأس التي في جنبي وقوة ساعدي، والخنجر الذي في حزامي والمجن الذي يدرأ عني، وفرحتي وبهجتي وكسوة عيدي، لقد ظهر شيطان رجيم وسرقه مني، يا خلي وأخي الأصغر، لقد طارت حمار الوحش في التلال، اقتنصت النمور في الصحارى، أنكيدو! يا صاحبي، وأخي الأصغر الذي اقتنص حمار الوحش في النجاد والنمر في الصحاري، تغلبنا معا على الصعاب وارتقينا أعالي الجبال، ومسكنا بالثور السماوي ونحرناه، قهرنا خمبابا الساكن في غابة الأرز،( ينهض جلجامش ويتوجه الى مجسم انكيدو): أي سنة من النوم هذه التي غلبتك وتمكنت منك؟ طواك ظلام الليل فلا تسمعني؟
ولكن أنكيدو لم يرفع عينه…فجس قلبه فلم ينبض..وعندك ذاك برقع صديقه كالعروس، وأخذ يزأر حوله كالأسد، وكاللبؤة التي اختطف منها أشبالها، وصار يروح ويجيء أمام المجسّم وهو ينظر إليه وينتف شعره ويرميه على الأرض، مزق ثيابه الجميلة ورماها كأنها أشياء نجسة…رمى صليتين بالجو …وافرغ مسدسه البراونينك وراءه….( النحاتون انطوهه اللهيب…واحد… واحد… فلت من الاجتماع مع القائد..هيه هيونطة؟…الواحد فلت بجلده…ياقائد… ياانكيدو… ياقلبالوغ…)..
لما عاد جلجامش الى رشده، وجد جثتين لنحاتين…فأمر برفعهما من القاعة مع التأكيد على قطع مشهد الرمي في المؤتمر الصحفي…أعاد طلب وجود النحاتين وصاح بهم: أيها الصفّار والصائغ والجوهري ونحات الأحجار الكريمة اصنعوا لي تمثالا لخلي…
تم نحت تمثالا لصديقه، جاعلا صدره من اللازورد وجسمه من الذهب، ونصب منضدة من الخشب القوي، وإناء من اللازورد مملوءا بالزبد، وقرب ذلك إلى “شمش” وشرع يندب صديقه ويرثيه .