ظهر واختفى عنوان(منزل الساعات) وسطع عنوان ثان (ساعات كالخيول) قصة قصيرة للمبدع الكبير القاص محمد خضير وهي من القصص التي لا تشيخ كتبها القاص في منتصف سبعينات القرن الماضي واحتلت صفحة كاملة في صحيفة(طريق الشعب) يومها، وحين أعود لها بين الحين والآخر أشعرها مثل السجادة الكاشان.
(*)
(منزل الساعات)..وصلتني هذه الرواية ومكتوب في الصفحة الثانية سنة طباعتها 2025 ونحن الآن في تشرين الأول 2024 وهي من مطبوعات دار (ملهمون) للطباعة والنشر، ترجمة أنور الشيخ، وتحرير : ريم البياتي. وللمؤلفة رواية ثانية وهي بين يديّ :(حديقة الأسرار المفقودة). وهذه السلسلة الروائية البديعة ،نتاج تعاون فريد من نوعه بين ثلاثة مؤلفين حائزين على جوائز، أديل جيراس، وليندا نيو بيري، وآن تورنبول، وجميعهم يكتبون عن منزل واحد خاص جدّا . الفتيات والنساء الاستثنائيات اللواتي عشن هناك عبر التاريخ..
(قبل كتابة الرواية)
منشأ هذه الرواية صدمة الرؤية، ثم الموائمة بين المخيلة والواقع. في متحف مويز هول، انبهرت الروائية هويل بالمجموعة الضخمة من الساعات التي تعود مليكتها لرجل واحد، وهي تتأمل غابة من الساعات صارت تفكر بشخصية مالكها.. بعد نهاية الرواية، خارج النص/ داخل الموضوع وتحت عنوان( ملهمي على كتابة منزل الساعات المائة) تخبرنا( كثيراً ما أتساءل ما الذي ألهم غيرشوم لجمع كل هذه الساعات؟).. بعد السؤال تهبط الفكرة بصيغة كينونة بلا ملامح( بدأت تتبادر إلى ذهني فكرة قصة ٍ عن جامع مهووس للساعات) .. هنا (جامع للساعات ) وقبل سنوات بعيدة شاهدته مرتين فيلم (جامع الفراشات) في سينما الحمراء الشتوي في مدينتي البصرة ثم قرأت الفيلم رواية ً، من تأليف الروائي جون فاولز، ترجمة عبد الحميد فهمي الجمال/ 1992 / دار الهلال.. نعود لمؤلفة (منزل الساعات) وهي تتساءل خياليا( ماذا لو أن المالك المهووس بالساعات في قصتي دفع لرجل وابنته لإبقاء الساعات تدق وتدق بأي ثمن؟) مالك الساعات وجامع الفراشات يختلفان طبقيا ويتشابها نوعا ما على المستوى العصابي.
(*)
شرط العمل يوضحه مالك الساعات لأب هيلينا (من المهم الحفاظ على مجموعة ساعاتي، والحرص على حُسن انضباط عملها على الدوام)
ثم اضاف المالك ( لا ينبغي السماح لأي ساعة ٍ أن تتوقف … أبداً.. هل تدرك النتيجة؟) لا يخلو العمل من دقة قاسية وملل ومغامرة لأب هيلينا الذي يوضح شروط العمل لأبنته (وظيفتي هنا تتمثل في تشغيل الساعات… أي إبقائها تدق، والتأكد من أنها تعمل بشكل جيد.. فإذا ما توقفت أية ساعة ٍ منها أو تضررت بأي شكل من الأشكال… كان علينا تسليم… جميع ممتلكاتنا كتعويض… أو نخسرُ متاعنا إذا ما توقفت إحدى الساعات أو تعطلت) شروط في غاية القسوة، تهدد مصير عائلة مدير الساعات وحارسها.. الذي يشتغل عند الثري السيد ويستكوت. وهناك شروط أخرى في هذا العقد منها الحرص (على بقاء هذا الاتفاق سرا) بين الحارس والمالك ، وبالنسبة هيلينا ووالدها إذا شاهدا أشياءً غير متوقعة في هذا المنزل عليهما أن يصمتا تماماً !! مهنة قاسية الشروط ومنزل غريب ومجازفة قد تؤدي إلى هلاك مستقبل عائلة حارس الساعات. والبنت في حيرى من أمر أبيها ما الذي يجعل أباها يوافق على هكذا مهنة؟ فهي كانت ترافق والدها في زيارته لتلك المنازل(يقوم بصيانة الساعات النفيسة في أرقى نواحي لندن).. السؤال الجوهري هو حين سأل والد هيلنا أحد موظفي القصر (لماذا رحل آخر رقيب للساعات؟) يكون الجواب دبلوماسيا (طرحتُ هذا السؤال على السيد ويستكوف في مراسلاتي، لكنني لم أتلق منه رداً)
(متغيرات صادمة)
حين تصعد هيلينا، وتفتح باب غرفتها تنصدم فالقماشة التي تغطي قفص ببغاءها، قد أزيلت وطويت بعناية فوق وسادتها!! من فعل ذلك؟ وحين يعلو صوت النقر من داخل القفص، ركعت هيلينا بقلب يرتجف هلعا رأيت الببغاء أوريت(ينقر شيئا مربوطاً في القضبان، شيئا لم يكن ولا ريب موجودا عندما تركته) !! من ربط الببغاء أوريت بالمرآة البيضاوية بشريط أصفر حريري باهظ الثمن. والمتغير الثالث (أنبعث من ألواح الأرضية صرير متوارٍ عن الأنظار، فغمر جلدها وخزاً) في هذه الحال شعرت هيلينا أنها( تحت المراقبة، وكانت متأكدة من ذلك) .. هذه الحالة تتكرر في الرواية، بتنويعات مختلفة.
(*)
والد هيلينا : مكرس كل وقته لعمله كساعاتي..( في أمسيات لندن الطويلة كان يقضيها أبوها في العمل فلا يعود أحيانا ً إلا بعد ما أن تكون قد هجعت)..والد فلورنسا (معظم وقته في شركة الطباعة الخاصة به وعندما يكون في المنزل … يظل منهمكاً مشتتا بسبب الساعات..) الأبوان رغم التمايز الطبقي بينهما لا يملكن رصيدا ً من الوقت لحنو الأبوةِ
(خارج النص / داخل النص)
بعد صورة غلاف الرواية(فتاة تحتضن ساعة ً وعلى كتفها ببغاء) وعنوان الرواية، يستقبل القارئ هذا الهدب النصي( عليك مغادرة منزل الساعات ذاك في الحال. إياك وانتظار توقف الساعات).. هنا علينا تأمل المفردات الثلاثة (عليك..) (في الحال) (إياك انتظار,,,) هذا النسق الثلاثي تحذير .. أكثر مما هو وصية. يجعل القارئ متأهبا لما سيكون ضمن أحدث الرواية. وهذا المقتبس سيجد القارئ توأمه في ص48 حين تجد البنت الفضولية هيلينا ضمن أحشاء ساعة يدوية هذه القصاصة الصغيرة ( ستتوقف ساعتك أيضاً، وستخسر كل شيء، فارحل قبل فوات الأوان)
)صناعة أسئلة السرد)
هيلينا تتساءل لأنها تمتلك فضولا لزجا، لمّا تدخل القصر المنيف وتسكن هي وأبوها في طابق الخدم تسأل نفسها.. (لماذا ملأ السيد ويستكوف كامل غرفة النوم بتلك المعدات الميكانيكية ؟).. وكلما رأت آلة جناح الطيران ، ملصقة على جدار في القصر سألت نفسها هيلينا( إلى من كانت تلك الرسومات موجهة؟).. وسؤال هيلينا الأهم ( ما القصص التي يمكن لهذه الساعات أن ترويها لو كان بمقدورها التحدث؟) وتسأل هيلينا أبنة صاحب القصر(أتحبين الساعات وساعات الجيب؟) لتنتقل لسؤال أكثر فضولية ً(لماذا إذن تقضين كل وقتك في غرف الساعات؟) ولا تكتفي هيلينا بفضول أسئلتها بل تستعين بوقاحتها فتتجسس على الأصوات التي في الغرف ومنها غرفة صاحب القصر ويستكوت…( وضعت أذنها هذه المرة على الباب الخشبي، الذي أحدث صريراً خفيفا عندما استندت إليه، بدا أنه لا فائدة من التظاهر بالتسكع، والتقاط كلمة هنا وهناك..)
(نقلة سردية نوعية )
في هذا المشهد وهي تتجسس، تحدث نقلة نوعية يتخلص السرد من البطء في سيرورته، (كانت الغرفة مملوءة بالكتب. الكتب الموضوعة فوق الكتب تصطف على الجدران الأربعة حتى السقف تقريبا).. والنقلة الأخرى حين تسأل أبنة صاحب القصر( ما الذي يجعل والدك مهووسا ً بمراقبة دقات الساعات؟).. وهي تبحث ليلا بين الغرف وتدخل غرف الساعات تقصد غرفة ساعات (.. وفتحت كل ساعة في حالة وجود حجرات سرية تخفي المزيد من الرسائل).. ولمّا تسأل ستانلي تصنع نقلة أخرى في فض اشتباكات النص الروائي (لماذا تقوم بالطهي والعناية بالمنزل يا ستانلي؟ لماذا تحاول جاهداً إرضاء السيد ويسكوت، خاصة أنه… لا يقدر جهودك؟)..
(*)
(منزل الساعات).. حركيا تنقسم إلى حركتين: حركة سرد بطيئة تبث مللا في تلقي القارئ حتى منتصف الرواية. ومن منتصف الرواية حتى نهايتها تتسارع حركة الرواية وتبدأ الرواية تفكك للقارئ شفراتها وفي الصفحات الأخيرة تلخص المؤلفة الغموض الأكبر في الرواية وهو (مَن أوقف الساعات؟) كما يحدث في حل اللغز في الروايات البوليسية، خصوصا والرواية تقترض تقنيتها من الرواية البوليسية وهناك البعد التاريخي للرواية فالأحداث تجري في 1905.. وبخصوص هذه السنة هناك رواية أخرى تتناول هذه السنة أيضا
(هيلينا)
في النصف الأول من الرواية كانت هيلينا تحرك سيرورة الرواية بفضولها الذي دفعها للتجسس على مَن البيت وغزارة أسئلتها المزعجة حد التطرف (بقدر ما كانت هيلينا تحب الأسئلة، كان من الصعب طرح هذا السؤال، ولم تكن متأكدة على الإطلاق من رغبتها في معرفة الإجابة/ 119).. ويتعدى الأمر مجال الأسئلة حين تتدخل بشأن عائلة مالكة الساعات مخاطبة ابنته فلورنسا(ربما يجب عليك أيضا ارتداء ملابس بيرتي أمام والدك من المهم أن يعرف مدى افتقادك لأخيك وكيف كانت الأمور في السابق../ 132).. ان ملابس الأخ الميت تكون لها وظيفة ايقاظ ذاكرة الأب المهوس بالساعات.. حسب وجهة نظر الفضولية هيلينا المتطفلة على شأن العائلة الثرية، في الوقت التي تتطفل هيلينا وهي ترصد خروج الأب في منتصف الليل، وتسيء الظن بالرجل. بينما كان الرجل يقصد النهر وتحديدا يجلس في الضفة التي غرق فيها ولده بيرتي.
(فلورنسا)
النصف الثاني من الرواية تصاب فلورنسا بعدوى الأسئلة لكنها أسئلة نوعية مختلفة ذات خصوصية عائلية وتكون النقلات بتفكيك شفرات النص مثلما في الروايات البوليسية.. وتنتهي الرواية بتحرر الببغاء من هيلينا ومن قفصه ولهذا المشهد وظيفة المعادل الموضوعي لتجديد العلائق بين شخوص الرواية.. أما النهاية السعيدة في الرواية فتعيدني لنهايات الأفلام المصرية والمسلسلات العربية..