17 نوفمبر، 2024 2:43 م
Search
Close this search box.

ما الكافة المكفوفة ، ومشاهد نحوية أخرى

ما الكافة المكفوفة ، ومشاهد نحوية أخرى

طلب مني الشاعر العراقي الأستاذ سامي العامري في تعليقه على موقع ( النور) إلى التطرق لـ ( ” ما ” الكافة المكفوفة) حين الحديث عن المشاهد النحوية، فكانت هذه المقالة ، والله الموفق .

المشهد الأول :

يقول ابن مالك في ألفيته :

وَوَصْلُ (مَا) بِذِي الْحُرُوفِ مُبْطِلُ ***إعْمَالَهَا ، وَقَدْ يُبَقّى الَعَمَلُ

إذا اتصلت (ما ) غير الموصولة بـ (إن وأخواتها) كفتها عن العمل، إلا ( ليت ) فإنه يجوز فيها الأعمال (والإهمال) فتقول : ( إنما زيد قائم ) ولا يجوز نصب ( زيد) وكذلك أن وكأن ولكن ولعل ، وتقول :
(ليتما زيد قائم) وإن شئت نصبت ( زيداً ) ، فقلت : ( ليتما زيداً قائم ).
ذهب سيبويه إلى أن ( ما ) غير الموصولة إذا اقترنت بهذه الأدوات أبطلت عملها، إلا ليت، فإن إعمالها مع ما جائز، وعللوا ذلك بأن هذه الأدوات قد أعملت لاختصاصها بالأسماء ودخول ( ما ) عليها يزيل هذا الاختصاص، ويهيئها للدخول على جمل الأفعال نحو قوله تعالى: (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) وقوله سبحانه:
(كأنما يساقون إلى الموت) ونحو قول امرئ القيس:
ولكنما أسعى لمجد مؤثل * وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وتسمى ( ما) هذه ما الكافة، أو ما المهيئة، ووجه هاتين التسميتين ظاهر بعد الذي ذكرناه لك من شأنها، وتسمى أيضا ما الزائدة، ولكون ( ما ) هذه لا تزيل اختصاص ( ليت ) بالجمل الاسمية، بل هي باقية معها على اختصاصها بالأسماء، لم تبطل عملها، وقد جاء السماع معضدا لذلك، كما في قول النابغة الذبياني:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا * إلى حمامتنا أو نصفه فقد
فإنه يروى بنصب ( الحمام) ورفعه، فأما النصب فعلى إعمال ليت في اسم الإشارة والحمام بدل منه أو عطف بيان عليه أو نعت له، وأما الرفع فعلى إهمال ليت.
وذهب الزجاج في كتابه ” الجمل ” إلى أن جميع هذه الأدوات بمنزلة واحدة، وأنها إذا اقترنت بها ( ما ) لم يجب إهمالها، بل يجوز فيها الأعمال والاهمال، غير أن الاهمال أكثر في الجميع، أما الأعمال فعلى اختصاصها الأصلي، وأما الاهمال فلما حدث لها من زوال الاختصاص وذكر الزجاج أن ذلك مسموع في الجميع، قال: ” من العرب من يقول : إنما زيدا قائم، ولعلما بكرا جالس، وكذلك أخواتها: ينصب بها، ويلغى ما ” .
وتبعه على ذلك تلميذه الزجاجي، وابن السراج . (1)

والحق أنَّ الزجاج ( ت 316 هـ) ، وتلميذيه ابن السراج ( ت 316 هـ) ، والزجاجي ( ت 337 هـ) هم من المدرسة البصرية التي اندمجت مع المدرسة الكوفية بعد موت المبرد البصري ، وثعلب الكوفي ، فتشكلت المدرسة البغدادية أواخر القرن الثالث الهجري ، وهم من روادها الأوائل ، ولكن بقوا محافظين على حافظتهم السابقة ، وبالتالي إجازة الزجاج لعمل أو إهمال ( إنّ أو إحدى أخواتها ) إذا اقترنت بـ ( ما ) الكافة ليست حالة شاذة بلغة العرب ، وإنما كانت الأقوال شائعة ، لأن المدرسة البصرية لا تقبل بالشاذ ، وإنما القياس على الشاذ من أقوال العرب نهج المدرسة الكوفية .
وقد اجتمعت (ما) المصدرية و (ما) الكافة في قول امرئ القيس:

فلو أنَّ ما أسعى لأدنى معيشةٍ ** كفاني ولمْ أطلبْ، قليل من المالِ
ولكنّما أسعى لمجدٍ مؤثــــلٌٍ **** وقدْ يدركُ المجدَ المؤثلَ أمثالي(2)

فـ (ما) في البيت الاول مصدرية. والتقدير لو ان سعيي. وفي البيت الآخر زائدة كافة، أي ولكنّي أسعى لمجدٍ مؤثلٍ.

المشهد الثاني :

و إليك اتصال (ما) الكافة المكفوفة بالأفعال والأسماء:
أولاً – منها أفعال اتصلت بآخرها : (ما) الكافة : أي: التي تكف غيرها عن العمل، وتمنع ما اتصلت به أن يؤثر في معمولٍ ، مثل :
طالما – كثر ما – قلما، نحو
– طالما أوفيت بوعدك.
– وكثر ما حمدت لك الوفاء.
– وقلما يخلف النبيل وعده.

الإعراب:
أ – يعرب كل واحد فعلًاً ماضيًاً مكفوفًاً عن العمل – أيّ: ممنوعًاً – بسبب وجود (ما) التي كفته، وقد يقال في الإعراب : طالما – أو كثر ما – أو: قلما – ( كافة ومكفوفة) بمعنى : أن كل كلمة من الاثنتين كفت الأخرى، ومنعتها من العمل، فهي كافة لغيرها، ومكفوفة بغيرها.

ب – هناك رأي أفضل؛ يعرب الفعل ماضيًا، ويعرب (ما) مصدرية، والمصدر المنسب منها ومن صلتها في محل رفع فاعل الفعل الماضي؛ فالتقدير:
– طال إيفاؤك بوعدك –
– وكثر حمدي لك الوفاء –
– وقل إخلاف النبيل وعده –
فاعل؛ فلا داعي لإخراج هذه الأفعال من نطاق ذلك الأصل. وإلا لماذا نسميه فعلاً؟ وهل يوجد فعلٌ بدون فاعل ؟!!!

ج – نستعمل: (قلما) في أغلب الأساليب لإثبات الشيء القليل؛ كهذا المثال المذكور بعد ، وقد تستعمل في بعض الأساليب للنفي المحض؛ فتكون حرفاً نافيًاً – لا فعلًاً – مثل : (ما) النافية، و(لا) النافية نحو:
قلما يسلم السفيه من المكاره. أي: ما يسلم … ولا بد في استعمالها حرف نفي من وجود قرينة تدل على هذا ، والأحسن ترك هذا الاستعمال القليل – بالرغم من جوازه – قراره من اللبس
ولأن العلة التي يذكرونها لكف الفعل في مثل: ( قلما)، وعدم احتياجه للفاعل – وهي كما جاء في المعنى – شبهه في معناه للحرف: (رُبَّ) علة واهية.(3)
واللغة العربية ليست مجرد أسماء وأفعال وحروف و إعراب ، تأتي اللغة على ألسنة العرب الفصحاء البلغاء سليقة و بلاغة ، وتراثاً موروثاً ، عليهم أن يقولوا ، وعلينا أن نحلل ونعلل ونرث ما ورثوه من الذين يحتجَّ بكلامهم .

ملاحظة :

وعلى اعتبار (ما) كافة، يجب وصلها بالفعل الذي قبلها في الكتابة؛ فتشبك بآخره، أما على اعتبارها مصدرية فيجب فصلها في الكتابة.

ثانياً – (إن) واخواتها : حروف مشبهة بالفعل تدخل على الجمل الاسمية تنصب المبتدأ ، ويسمى اسمها ، وتبقي الخبر مرفوعاً بها ، ويسمى خبرها – على مذهب الكوفيين يجوز أن تنصب الجزأين سنأخذها في مشهد مستقل – ولكن تشذُّ القاعدة ، عند دخول ( ما) الكافة المكفوفة عليها ، ويبقى المبتدأ والخبر في حالتي رفع:
: تجعل (إن) لاتقوم بعملها مثال ذلك
قول الله تعالى : ” إنما المؤمنون أخوة
إن هنا لم تقم بعملها بسسب دخول (ما ) التى يطلق عليها اسم ما الكافة المكفوفة وسميت بذلك لانها ليس لها تأثير على إعراب الجمله فهى مكفوفة عن العمل أى عاجزة ولا تقوم بعمل وليس لها أثر إعرابى.
وكذا كافة لأنها منعت (إن ) عن العمل فأصبحت الجملة مكونة من مبتدأ وخبر وكأن
إنما ) ليس لها وجود فى مجال الإعراب.)
لكن أثرها فعال فى معنى الجملة ، كذا لها بالغ الأثر على الناحية البلاغية ، فما أجمل ثراء لغتنا العربية فالحرف له أثر على الإعراب وعلى البلاغة وعلى المعنى المجمل.

إعراب :
” إنما المؤمنون إخوة ”
إنّما : كافة ومكفوفة.
المؤمنون : مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الواو ؛ لأنه جمع مذكر سالم إخوة : خبر مرفوع وعلامة رفعه الضمة.

المشهد الثالث :

و جاء في (خزانة الأدب بتصرف
(ما ) الزائدة نوعان كافة وغير كافة :
الكافة ثلاثة أنواع :
أولاً – ا الكافة عن عمل الرفع ولا تتصل إلا بثلاثة أفعال قل وكثر وطال وعلة ذلك شبههن برب ولا يدخلن حينئذ إلا على جملة فعلية صرح بفعلها كقوله :
قلما يبرح اللبيب إلى ما ***يورث المجد داعيا أو مجيبا
البيت من بحر الخفيف لم تذكر مراجعه قائله ، والشاهد فيه قوله: (قلما يبرح اللبيب) ؛ حيث أعمل يبرح عمل كان وقد تقدم عليه فعل دال على النفي وهو قلما. وإنما كان فيه معنى النفي؛ لأن قلما خلع منه معنى التقليل وصير بمعنى ما النافية.
فأما قول المرار:
صددت فأطولت الصدود وقلما***وصال على طول الصدود يدوم

فقال سيبويه ضرورة فقيل وجه الضرورة أن حقها أن يليها الفعل صريحا
والشاعر أولاها فعلا مقدرا وأن وصال مرتفع بيدوم محذوفا مفسرا بالمذكور وقيل وجهها أنه قدم الفاعل ورده ابن السيد بأن البصريين لا يجيزون تقديم الفاعل في شعر ولا نثر وقيل وجهها أنه أناب الجملة الاسمية عن الفعلية.

ثانياً – الكافة عن عمل النصب والرفع وهي المتصلة بإن وأخواتها – ذكرناها سالفاً – نحو:
(إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ)
لفظ الجلالة مبتدأ وإله خبر وإنما كافة ومكفوفة (واحِدٌ) صفة والجملة مستأنفة.
( إن ما توعدون لآت ) ( وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ) ( إن ما عند الله هو خير لكم ) ( أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات ) ( واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسة ) .
فـ ( ما) في ذلك كله اسم باتفاق والحرف عامل .

أمّا : (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ)
فـ (إِنَّما): كافة ومكفوفة.
حَرَّمَ: فعل ماض والفاعل هو.
عَلَيْكُمُ: جار ومجرور متعلقان بحرم.
الْمَيْتَةَ: مفعول به.
ومن رفع الْمَيْتَةَ ،وهو أبو رجاء العطاردي، فـ (ما) اسم موصول ، والعائد محذوف تقديره هو .
وكذلك : (إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ)
إ(ن) حرف مشبه بالفعل (ما) الموصولية اسمها والجملة مستأنفة لا محل لها (صَنَعُوا) ماض وفاعله والجملة صلة لا محل لها (كَيْدُ) خبر إن (ساحِرٍ) مضاف إليه.
فمن رفع كيد فـ ( إن) عاملة و(ما) موصولة والعائد محذوف لكنه محتمل للاسمي والحرفي أي إن الدي صنعوه أو إن صنعهم.
ومن نصب وهو ابن مسعود والربيع بن خيثم فـ ( ما) كافة ، وجزم النحويون بأن ما كافة في (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)
ولا يمتنع أن تكون بمعنى الذي والعلماء خبر والعائد مستتر في يخشى.
فالفاعل هنا : (العلماءُ) فهم أهل الخشية والخوف من الله ، واسم الجلالة (الله) : مفعول مقدم.
وفائدة تقديم المفعول هنا : حصر الفاعلية ، أي أن الله تعالى لا يخشاه إلا العلماءُ ، ولو قُدم الفاعل لاختلف المعنى ولصار : لا يخشى العلماءُ إلا اللهَ ، وهذا غير صحيح فقد وُجد من العلماء من يخشون غير الله ، لذلك وجهة الكلام يجب أن تكون دقيقة ، ولله في خلقه شؤون !!

ثالثاً – الكافة عن عمل الجر وتتصل بأحرف وظروف:
أ- فالأحرف أحدها (رُبَّ) وأكثر ما تدخل حينئذ على الماضي كقول ملك الحيرة جذيمة الأبرش (المديد):
رُبَّما أوفيت في علمٍ***ترفعن ثوبي شمالاتُ
وهو من شواهد سيبويه ،والشمالات: جمع الشمال من الرياح.(4)

على أن توكيد (ترفع) بالنون الخفيفة ضرورة، وإنّما حسن التوكيد زيادة (ما) في (رُبَّ)، ووقوع (ترفع) في حيز (رُبّما) ، قال سيبويه بعد إنشاد البيت للضرورة : وزعم يونس أنهم يقولون: ُربّما تقولن ذاك، وأكثر ما تقولن ذاك..
والضرورة من أنّ التكثير والتقليل إنما يكونان فيما عرف حدّه والمستقبل مجهول.
قال الرماني في ( رُبَما يود الذين كفروا…) إنما جاز لأن المستقبل معلوم عند الله تعالى كالماضي وقيل هو على حكاية حال ماضية مجازا مثل ( ونفخ في الصور ).

ولا يمتنع دخولها على الجملة الاسمية:
يقول أبو دؤاد الإيادي؛ جارية بن الحجاج، شاعر جاهلي:
رُبَّما الجاملُ المؤبلُ فيهمُ
ربَّ: حرف جر شبيه بالزائد، يفيد التقليل.
وما: كافة لـ (رُبَّ) عن العمل ، وهي نكرة موصوفة بجملة حذف مبتدؤها أي رب شيء هو الجامل.
الجامل: مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة. المؤبلُ
المؤبلُ : صفة للجامل مرفوع بالضمة .
فيهم :خبر المبتدأ.
وجه الاستشهاد: دخول (رُبَّ) المكفوفة بـ(ما) على الجملة الاسمية؛ وحكم دخولها على الجمل الاسمية الجواز مع الندرة.(5).

ب – الثاني الكاف نحو كن كما أنت وقوله
( … كما سيف عمرو لم تخنه مضاربة )
قيل ومنه ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) وقيل ما موصولة والتقدير كالذي هو آلهة لهم وقيل لا تكف الكاف بما وإن ما في ذلك مصدرية موصولة بالجملة الاسمية
ج – الثالث الباء كقوله
فلئن صرت لا تحير جوابا … لبما قد ترى وأنت خطيب
ذكره ابن مالك وأن ما الكافة أحدثت مع الباء معنى التقليل كما
د – الرابع من كقول أبي حية:
( وإنا لمما نضرب الكبش ضربة … )
قاله ابن الشجري والظاهر أن ما مصدرية وان المعنى مثله في ( خلق الإنسان من عجل ).

2 – وأما الظروف فأحدها (بعد) كقوله:
أعلاقة أم الوليد بعدما ***أفنان رأسك كالثغام المخلس
المخلس بكسر اللام المختلط رطبه بيابسه.
وقيل ما مصدرية وهو الظاهر لأن فيه إبقاء بعد على أصلها من الإضافة ولأنها لو لم تكن مضافة لنونت.
والثاني (بين) كقوله:
بينما نحن بالأراك معا *** إذ أتى راكب على جملة
وقيل (ما ) زائدة و(بين) مضافة إلى الجملة وقيل زائدة و(بين) مضافة إلى زمن محذوف مضاف إلى الجملة أي بين أوقات نحن بالأراك والأقوال الثلاثة تجري في (بين) مع الألف في نحو قوله:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا *** إذا نحن فيهم سوقة ليس ننصف (6)
تكون الألف كافة عن الإضافة. والثاني: أنها زائدة وبين مضافة إلى الجملة. والثالث: أنها زائدة وبين مضافة إلى الزمن المذ.

استطراد عن البيت الشاهد:
جاء في كتاب (مجاني الأدب….) لما نزل سعد بن أبي وقاص الحيرة قيل له: ههنا عجوزٌ من بنات الملوك يقال لها (الحرقة) بنت النعمان بن المنذر. وكانت من أجل عقائل العرب. وكانت إذا خرجت إلى بيعتها نشرت عليها ألف قطيفة خزٍ وديباج ومعها ألف وصيفٍ. فأرسل إليها سعد فجاءت كالشن البالي. فقالت: يا سعد كنا ملوك هذا المصر قبلك. يجبى إلينا خراجه ويطيعنا أهله مدةً من المدد. حتى صار بنا صائح الدهر فشتت ملأنا. والدهر ذو نوائب وصروفٍ. فلو رأيتنا في أيامنا لأرعدت فرائصك فرقاً منا. فقال لها سعدٌ: ما أنعم ما تنعمتم به. قال: سعة الدنيا علينا وكثرة الأصوات إذا دعونا. ثم أنشأت تقول :
وبينا نسوس الناس والأمر أمرنا *** إذا نحن فيهم سوقةٌ ليس ننصفُ
فتبــــاً لدنيــــا لا يدوم نعيمــــها *** تقلـــــب تـــاراتٍ بنـــــا وتصــــرفُ
ثم قالت: يا سعد إنه لم يكن أهل بيتٍ بخيرٍ إلا والدهر يعقبهم حسرةً حتى أمر الله على الفريقين. فأكرمها سعد وأمر بردها .(7) انتهى الاستطراد !!!

الظرفان الثالث والرابع حيث وإذ ويضمنان حينئذ معنى إن الشرطية فيجزمان فعلين.

 

المشهد الرابع :

جاء في كتابي ( نشأة النحو العربي ومسيرته الكوفية) بتصرف :

إن العروضيين والنحويين واللغويين قد توقفوا على الأستشهاد بالشاذ بعد استقرار مدرستي البصرة والكوفة ، ومن ثم المدرسة البغدادية ، وسادت مدرسة البصرة بشكل شبه تام، لاعتمادها القياس المتعقل حتى لا تضيع اللغة وتتشتت . إلى أنّ المتنبي سار على المذهب الكوفي بعد الإسقرار مرات ومرات ولم يبالِ ِ، فمثلاً ترك صرف (حمدون) و (حارث) في بيته الآتي، وأهل البصرة عندهم غير جائز:
وحَمدانُ حمدونٌ وَحمدونُ حارثٌ ***وَحارِثُ لُقْمانٌ وَلُقْمَانُ رَاشِدُ
والجواهري في عصرنا حين خاطب (متنبيه) ، منع (محسّد ) من الصرف، وهذا غير جائز عند البصريين:

ومن قبل ِألف ٍعوى ألفٌ فما انتفضتْ*** أبا محسّدَ بالشتم ِ الأعاريبُ

سار على المذهب الكوفي .
نعم أهل البصرة يجوزون صرف الممنوع من الصرف للضرورة الشعرية، ولكن العكس عندهم غير جائز، والجواهري تعداهم كالمتنبي وأخذ بمذهب أهله !!
والأكثر من ذلك الجواهري آتى بالعجب العجاب حيث اعتمد على قوم (رؤبة العجاج) الذين ينصبون الجزأين بـ (إنّ) وأخواتها على حد قول (ابن سلام)، وذلك في مطلع قصيدة له :

نحن الكبار ليتنا أطفالا *** ولمْ نزلزل بعضنا زلزالا(8)
( أطفال ) خبر ( ليت) ، وعلى المذهب البصري الذي نسير عليه ) يجب أن تكون الكلمة مرفوعة ، ولكن جاء بها منصوبة على لغة قوم رؤبة بن العجاج الكوفيين ( فخذ من تميم).

المشهد الخامس :

1 – الفصل بين المضاف والمضاف إليه :

أورد عبد القادر البغدادي في ( خزانة أدبه) قول الشاعر عبيد الله بن زياد بن سميّة (الرمل)
كم بجودٍ مقرفٍ نال العلا *** وكريمٍ بخله قد وضَعَهْ (9)
كما ترى قد فصل الشاعر بين المضاف (كم) ، والمضاف إليه (مقرفٍ) بالجار والمجرور (بجودٍ ) ، وهذا لا يجوز بالنثر ، وإن ورد بالقرآن الكريم على إحدى القراءات كما سنرى ، فهنا يعتبر ضرورة شعرية نحوية لاستقامة الوزن ، فلا يحقُّ لنا مثلا أن نقول له : لماذا لا تشكل صدر البيت كالآتي لتتخلص من الضرورة : (كم قبيحٍ جودهُ نال العلا) ؟!! ببساطة الشاعر لحظة الإبداع تأتي القصيدة حسب إلهامه ، وذخيرته الثقافية في عقليه الباطن والظاهر.
ويذكر كاتب هذه السطور في كتابه ( نشأة النحو…) : ووافق الأخفش الأوسط البصري الكوفيين في إجازته الفصل بين المضاف والمضاف إليه ، وأورد كاتب السطور الشاهد التالي لابن يعيش في (مفصله) ليثبت موقفه :
فزججتها بمزجةٍ *** زجَّ القلوصَ أبي مزادهْ
المصدر (زجّ) مضاف ، (أبي مزاده) مضاف إليه ، والفاصل بينهما المفعول به (القلوصَ) ، وذلك ضعيف جداً ، إذ لا يجيز البصريون ، ولا يصح عند إمامهم (سيبويه ) إلا الفصل بظرف .(10 )
والأخفش البصري ، وأعني الأوسط ،وهو سعيد بن مسعدة المتوفي 215 هـ – يقال جامل أستاذه شيخ الكوفيين الكسائي ، لمنزلته في دار الخلافة ، ولشخصيته !! – المهم لم يخرج هذا الأخفش على أستاذه سيبويه ، ومدرسته البصرية بهذا فقط ، بل بالعديد من المسائل حتى بلغت مواضع الخلاف مع أصحابه أكثر من أربعة وثلاثين ، (11) وبعض الباحثين يعدونه هو المؤسس للمدرسة البغدادية في النحو ، ولهذا أخذ الرجل الأخفش بقراءة ابن عامر( سورة الأنعام ، آية 137) ” وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ” فنصب ( الأولادَ) ، وخفض ( شركاءِ) ، وهذا فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول . (12) ، والأصل : قَتْلَ شُرَكَائِهُمْ أَوْلَادَهُمْ . و ( أولادَ) مفعول به للمصدر قُتْلَ .
و المتنبي سار على مذهب قومه الكوفيين ، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به (الرياضَ) في بيته :
حملتُ إليه من لساني حديقةً *** سقاها الحجى سقيَ الرياضَ السحائبِ
ربما تجد الأمر غريباً ، ولكن هذا المتنبي ، ويعني (سقاها الحجى سقيَ السحائبِ الرياضَ) .
والحق أشار من بعد ابن مالك في ألفيته إلى ما ذهبنا إليه قائلاً :
فصلَ مضافٍ شبهِ فعلٍ ما نصبْ *** مفعولاً أو ظرفاً أجِزْ ، ولمْ يُعبْ
فصل يمينٍ….
إذن أجاز ابن مالك أن يفصل اختياراً، وليس ضرورة ، بين المضاف الذي هو شبه الفعل ، والمراد المصدر و اسم الفاعل ، وبين المضاف إليه بما نصبه المضاف ، من مفعول به ، أو ظرف ، أو شبهه. وتعدى ذلك قائلاً : ” ولم يعبْ فصلَ يمين ” ، هذا أيضاً على مذهب الكوفيين ، حكى الكسائي ” هذا غلامٌ – واللهِ – زيدٍ ” (13)

المشهد الخامس :

الفرزدق يُدخل (الـ ) على الفعل المضارع في بيته :
ما أنتَ بالحكمِ التُرضى حكومته *** ولا الأصيلِ ولا ذي الرأي والجدلِ
هذا الفرزدق الزاهي بموهبته، والمتماهي بأصالته ،وأروم عراقته ، لا يبالي باللغويين والنحويين ، ويقول : علي ّأن أقول ، وعليكم أنْ تحتجوا بشعري ، فذهب هؤلاء العلماء من بعده منقسمين بين من يرى الأمر ضرورة في لحظة النظم ، وبين من يحكم بالاختيار ، لأنهم يقولون ببساطة ، كان يمكنه ، أن يبدل بـ (التُرضى) (المرضي) ، وينتهي الإشكال !!
ولكن يذكر كاتب هذه السطور في كتابه (نشأة النحو …) أنّ الكوفيين كانوا يعدون الألف واللام من الأسماء الموصولة بمعنى الذي ، التي ، الذين ، اللواتي … ، لذلك كان يقول الفرزدق علي أن أقول ، وعليكم أن تحتجوا ، ولا أعرف كيف فات الأمر على بعض علفماء اللغة ، وقالوا كان بإمكانه أن يقول : ( المرضي) ، والحقيقة كان يريد أنْ يقول (الذي تُرضى حكومته ) !! ، وخذْ شاهداً أخر :
من القوم (الرسول) الله منهم *** لهم دانتْ رقاب بني معدِّ
أي بمعنى (من القوم الذين رسول الله منهم) ، وتمتع بمثال ثالث :
مَنْ لا يزال شاكراً على (المعه) *** فهو حر بعيشةٍ ذات سعه (14)
بمعنى ( على الذي معه) ، وقد أجاز ابن مالك في (ألفيته) هذه (الـ) الموصولة ، بقوله :
وصفةٌ صريحةٌ صلة الْ *** وكونها بمعرب الأفعال قلْ ( 15)
هل اقتنعت أنّ الألف واللام كانت تعني الأسماء الموصولة ، أم لا ؟ فلماذا ذهب هؤلاء يشرقون ويغربون ولا يشيرون ولا يبحثون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) – (شرح ابن عقيل – ابن عقيل الهمداني) – ج ١ – الصفحة 373 – 374 .
(2) – ( جامع الدروس العربية ) : الشيخ مصطفى الغلاييني (4 / 60 )
(3) – النحو الوافي : عباس حسن (المتوفى: 1398هـ) الناشر: دار المعارف الطبعة: الطبعة الخامسة عشرة عدد الأجزاءج2 ص 72.
(4) خزانة الأدب: عبد القادر البغدادي – 4 / 216 – الوراق – الموسوعة الشاملة.
(5) وضح المسالك إلى ألفية ابن مالك : عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله ابن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، ابن هشام (المتوفى: 761هـ) – ج 3 ص 62 المحقق: يوسف الشيخ محمد البقاعي – دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
(6) – (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) : جمال الدين أبو محمد عبدالله بن يوسف بن هشام الأنصاري – 1 / 403 – 417 – دار الفكر – بيروت الطبعة السادسة ، 1985 – تحقيق : د.مازن المبارك ومحمد علي حمدالله.
(7) – (مجاني الأدب في حدائق العرب) : رزق الله بن يوسف بن عبد المسيح بن يعقوب شيخو (المتوفى: 1346هـ) – ج 2 ص 30 – 31 – مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت عام النشر: 1913 م
(8) (نشأة النحو العربي …) : كريم مرزة الاسدي – ص 71 – دار الحصاد – 2003 م – دمشق .
(9) (خزانة الأدب ) : عبد القادر البغدادي – 2 / 418 – الوراق – الموسوعة الشاملة .
وراجع (مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ) : الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة – (151 / 42 ) الناشر : موقع الجامعة على الإنترنت .
http://www.iu.edu.sa/Magazine
(10) (نشأة النحو العربي …) : كريم مرزة الاسدي – ص 37 – دار الحصاد – 2003 م – دمشق .
(11) م . ن .
(12) ابن يعيش : ( شرح المفصل )ج 3 / ص 9 – الطباعة المنبرية – مصر – مكتبة المتنبي – القاهرة . زججتها : طعنتها ، القلوص : الناقة الشابة .
(13) راجع : شرح ابن عقيل ج2 ، ص 82 – 83 ، ( نشأة النحو …) ص 37 – 38 ، م. س .
(14) (نشأة النحو العربي ومسيرته الكوفية.. …) : كريم مرزة الاسدي – ص 122 – دار الحصاد – 2003 م – دمشق .
(15) ( شرح ابن عقيل ) : ج 1 – ص 155 .

 

 

أحدث المقالات