18 ديسمبر، 2024 3:47 م

مائة مليون نسخة من هذا الكتاب!

مائة مليون نسخة من هذا الكتاب!

قرأنا تاريخ العالم أول مرة في كتابٍ أخذناه من شيخ المضمدين في مستشفى البصرة الجمهوري، وكان بعنوان “لمحات من تاريخ العالم”، لمعبود النساء جواهر لال نهرو، الذي استحضر لنا فيه وهو سجين عظام الأولين، وكساهم لحماً وشحماً، حتى بدوا يتحركون ويتكلمون معنا. وقبل أيام قرأتُ إحدى الأطاريح الجامعية فوجدت الاسم جواهر ليل ناهرو، كذا. انتهت رحلتنا في قراءة التاريخ بكتاب نهرو، ولم يأت كتاب آخر بعده حتى جاءنا اليوم هذا الكتاب من بلاد الإنكليز بعنوان “مختصر تاريخ العالم”، للألماني كومبراخ، الذي كتبه عام 1935 لخطيبته، ثم صدر في كل لغات العالم ماعدا الإنكليزية، وكان له رأي في ذلك، إذ ما حاجة الإنكليز سكان الجزر إلى قراءة تاريخ العالم، وهم الذين لا ينظرون إلى غير أنفسهم؟ يقول المؤلف إن أجدادنا وجداتنا هم وصايا متنقلة، يكتبون فيها آلامهم وعذابات زمنهم، وقد أراد في هذا الكتاب النادر أن يجاري الجدات، فيكتب لأطفال ألمانيا شيئاً من التاريخ، وفي برشامة مطوية، يلخص فيها تقدم الناس وانكفائها، من عصر النياردنتال، حتى القنبلة الذرية، فكان لهم هذا الكتاب. والتاريخ عموماً فنٌّ مثل كل الفنون التي خلقها الناس، لا يعتمد على قانون السببية المعروف، وغاية المؤرخ أن يروي القصة التي تنقل تجارب الناس عبر العصور، من جيلٍ إلى جيل. ولهذا فنحن دائماً ما نسأل جداتنا أن يحكين لنا شيئاً من ذكرياتهن- لا أدري إن كانت الجدات العراقيات قد اختفين اليوم، وضاعت كل حكاياهن؟ وفي حديثهن كأنهن يحرقن صفحة مطويةً قديمة، ويرمينها في بئر مظلمة ليس لها من قرار، وتلك هي النار التي تضيء لنا جنبات الماضي كما تضيء وجوه السامعين، وذاك هو التاريخ الذي لا ينظر له الأكاديميون بغير المرآة، وهذا خطأهم كما يقول المؤلف، فهو يشرح مثلاً السبب الذي جعل المصريين القدماء يقدسون القطط، فتعجب من بساطة الرأي ورجاحته، ذلك لأن المقدس شريعة، لا نحتاج إلى مماهاتها بالمرآة. وحينما يأتي المؤلف على ذكر هتلر مثلاً، فإنه لا يقول غير أنه رجل غير صالح، وكفى، ثم سرعان ما يورد نكتة أو طرفة، فنضحك معه على المصير، فهؤلاء من تيمور حتى موسوليني آباؤنا، لا سبيل إلى التبرؤ منهم، فهم الدليل الحي بأننا نصحح أخطاءنا مرة بعد أخرى. لكن هتلر نفسه لم يكن أسوأ حالاً من مارغريت تاتشر، فلماذا نجرح هذا، ونطري ذاك؟اجتاح الونداليون في القرن الخامس الميلادي فرنسة، وإسبانية، حتى وصلوا إلى مكتبة الإسكندرية، فأحرقوها. هذا تاريخ. ثم أحرق التتار مكتبة بغداد، ورموا رماد الكتب في دجلة العوراء، وهذا تاريخ. ثم أحرق إمبراطور الصين مؤلفات كونفشيوس العظيم، وهذا تاريخ. ثم جاء النازي ليحرق الكتب في ساحات برلين العامة، وهذا تاريخ أعداء التاريخ. وما لم نعرف التاريخ، فإننا نظل نعيد ونصقل في أخطائه، وذاك هو جمال العقل.حينما ننهي قراءة هذا الكتاب الممتع، ليس لنا إلاّ أن نقول إن المؤلف هو واحد من أجدادنا العظام.E H Gombrich, A Little History of the World. New Haven and London: Yale University Press