حين كنا في الاقسام الداخلية خلال الثمانينات كان طلبة بغداد يحسدوننا على اسلوب معيشتنا فيها ليس لأننا اصحاب قرار بعيدا عن آبائنا ويمكننا ان ندير حياتنا بانفسنا وليس لأن الاقسام الداخلية كانت تضم طلبة من كافة انحاء العراق بقومياته وطوائفه المختلفة بل لأنها كانت افضل من منازل بعضنا واغلب الطلبة فيها من ابناء الطبقة المتوسطة فهي واسعة وحديثة ومؤثثة بكل مانحتاجه من متطلبات المعيشة يضاف اليها منحة مالية كنا نستلمها في نهاية كل شهر تفوق حاجتنا الى الانفاق ويسلمها بعضنا الى اهله او يشتري بجزء منها هدايا تسعدهم خلال زيارتنا لهم …
في يوم الابعاء الفائت ، شب حريق في مجمع للاقسام الداخلية التابعة لجامعة بغداد بسبب تماس كهربائي وكانت نتيجة ذلك ان تم انقاذ الطلبة بصعوبة وقاموا بذلك بأنفسهم لأن انتظار انقاذهم كان يمكن ان يحولهم الى جثث محترقة لذا اقدموا على تحطيم النوافذ المغلفة بكتائب حديدية وخرجوا منها وهم في اشد حالات الاختناق بينما لم ينتظر طالبان منهم مبادرة كهذه وفضلوا القاء انفسهم من اعلى البناية فالكسور والرضوض افضل بكثيربالنسبة لهم من الاحتراق !!
لانريد هنا ان نصف طبيعة المعيشة الحالية في الاقسام الداخلية فاغلبنا يعرف انها لاتسع الطلبة وانهم مكدسون فيها كاسماك السردين وكل حجرة صغيرة فيها تضم مايقارب 15 طالبا كما انها لاتحوي اثاثا مناسبا ويعاني الطلبة فيها من الحر صيفا والبرد شتاءا وهؤلاء الطلبة مطالبون بأن يعيشوا كغيرهم ويدرسوا كغيرهم وينفقوا كغيرهم بينما ينحدر اغلبهم من عوائل فقيرة او متوسطة ولايتلقون منحة مالية بل يدفعون سنويا مئة الف دينار مقابل سكناهم فيها عدا التعويضات التي تترتب عليهم مقابل الاضرار التي تصيب مايضمه القسم من اثاث قليلة وبالية …نريد هنا ان نصف الليلة التي عاشها الطلبة المرتعبين بعد هلع الحريق اذ عجز المسؤولون عن ايوائهم بفتح ابواب الجامعة لهم على سبيل المثال ليقضوا الليلة فيها او توفير بناية اخرى لهم او أي حل سريع آخر وهكذا قضى الطلبة ليلتهم في العراء
متلفعين بالاغطية ودون ان يحاول اي مسؤول في الجامعة او الحكومة مساعدتهم او مشاركتهم مأساتهم على الأقل ..ففي الوقت الذي يجب ان يحتضن مسؤولو دولتنا الجديدة شبابنا ويدفعونهم الى الامام لتحقيق احلامهم وطموحاتهم ، نجدهم لايتعاملون معهم بانسانية ولايوفرون لهم مستلزمات النجاح والاخطر من ذلك ان يزورهم معاون رئيس الجامعة لاليطمئن على سلامتهم او لينقذهم من المبيت في العراء بل ليوبخهم ويصرخ بهم :” ماالذي جاء بكم الى بغداد ، لم لاتدرسون في محافظاتكم ؟” …
بغداد هي القلب الكبير الذي احتضننا لسنوات ومنحنا العلم والمعرفة ووضعنا على عتبة الحياة الحقيقية فهل تبخل الآن على شريحة الشباب الذين يمثلون اللبنة الاساسية لبناء الوطن ؟…ام ان المسؤولون في دولتنا الجديدة باتوا يبددون المليارات على شؤونهم الشخصية ومشاريعهم الوهمية ويصدرونها الى دول اخرى بينما يبخلون على شبابها باقسام داخلية مناسبة ومعاملة انسانية وتحفيزمعنوي ؟…انه السؤال الذي اجاب عنه معاون رئيس الجامعة ورئيسها وعمداؤها وتغاضى عنه وزراؤها ومسؤولوها الكبار ..أما الطلبة انفسهم فربما بدأوا يفكرون فعلا بمغادرة حضن بغداد التي اسكنتهم في العراء وربما يفكرون بعدها بمغادرة حضن الوطن الذي لم يعد يتسع لهم !!