18 ديسمبر، 2024 6:59 م

ليس بيزيدٍ ، ولا بقومه يحيا الإنسان

ليس بيزيدٍ ، ولا بقومه يحيا الإنسان

في تأريخ البشرية أحداثٌ ووقائع تسبق الزمان الذي وقعت فيه. فقبل آلاف السنين جلس أميرٌ هنديٌ في ظل شجرة يحتمي من حرارة الشمس اللاهبة، وأقسم على نفسه أن لا يغادر حتى يسمو بروحه على دورة الحياة والموت. خرج على الهنود البؤساء يقول إنما نحنُ اليومَ خلاصة أفكارنا بالأمس، وإن أفكار اليوم تصنع حياتنا في الغد، وما حياتنا غير صنيعة لعقولنا. إذا ما تكلم أحدكم كلاماً فاسداً، أو جاء بأمر مثله، فسيلحقه العذاب كما تلحق عجلة العربة هذه الحيوان الذي يجرها. واليوم نرى الملايين في مشارق الأرض ومغاربها تنظر إلى ما جاء به السدهارتا غوتاما بوذا على أنه النموذج الخالص للسمو في الحياة على الذل والمهانة. ثم حدث بعد ذلك بمئات السنين، أن خرج علينا شابٌ يهودي، ابن نجار من الناصرة، وصار يسفه سلطة الرومان، ويطلب العدل للناس. فاخترعوا له آلةً جديدة، هي غايةً في البساطة. سمّروه عليها، وصلبوه ، وكان إثنان من اللصوص ينظران إلى الحادثة بابتسامٍ وبلاهة، ولم يدر بعقليهما المريضين قط أن يومهما ذاك سيخلد في ضمائر البلايين ممن سيأتون بعدهما، وإن الصليب سيبقى رمزاً تفتدي به السماء البشرية المعذبة من الذنوب.
ثم بعدها بسنين، خرج شابٌ من الحجاز ليقتل هو وأصحابه السبعون في مكان بعيدٍ يقال له كربلا، ولم تكن تلك الدماء الزكية التي روت رمال الصحراء العربية العطشى هي الدماء الأولى، ولا الأخيرة في التاريخ، كما أن الواقعة نفسها لم تكن معركة من المعارك التي عرفها الناس، ولا حتى مجزرة من المجازر العديدة التي يذكرها التاريخ من قبل، إنما هي حدثٌ كوني، مثلها مثل صلب السيد المسيح، ومثل تسامي بوذا على الدرن، حتى أصبحت عاماً بعد عامٍ رمزاً لطبيعة الوجود نفسه.
الخطيئةُ قائمةٌ لا محالة، ولا بد من الفداء. أما الجودُ بالنفس، فغاية ما بعدها غاية.
العذابُ قائمٌ، ولا بد من تجاوزه، والسمو عليه.
الظلمُ قائم، وعلى الإنسانية المعذبة أن تقول لا للظلم.
مطلبنا العدالة يا صاحب الأكوان.
صارت تعاليم بوذا حياةً جديدة في العرفان، وصار الصلبُ حياةً جديدة في الدين. أما نحنُ اليوم، فلا يهمنا كثيراً ما جرى لسيدنا الحسين في العاشر من محرمٍ عام ستمائة وثمانين، بل ما يهمنا حقاً ما نفعله نحن اليوم. ألا ترون ما يجرى في طوزخرماتو مثلاً؟
 ما جرى في ذلك اليوم البعيد يفسر لنا القوة الروحية التي تعطي لكل مكانٍ في الكون القداسة والسمو، وتعطي لكل يوم القداسة في الزمان. ألم يقولوا كلُّ يومٍ عاشوراء، وكل مكانٍ كربلاء؟ علينا أن لا ننسى المطلب الكوني الذي قام به الحدث، وأن لا ننسى القدرة على النهوض، وأن لا ننسى تلك الجذوة الخالدة التي تعطي لكل إنسان منا صفة البطولة في العيش، كل إنسانٍ لو أراد.
كان من الممكن جداً أن يقتل سيدنا الحسين غدراً في شارع مظلمٍ من شوارع المدينة أو مكة، لكن أبت إرادة السماء إلاّ أن تختار المسرح بنفسها، وتوزع الشخصيات والشخوص بنفسها. مسرحٌ تراجيديٌ نادر، مغلقٌ على نفسه، يخلو من المتفرجين. تلك هي العبرة لملايين المتفرجين الذين سيأتون فيما بعد، حينما تسدل الستارة وتطفأُ الأضواء، وذلك كي يبدأ نورٌ جديدٌ خالدٌ على الأيام، وعصرٌ جديد.
أين السماءُ من كل ذلك؟ لماذا لم يفتدَ الحسينُ كما أفتدى الخليلُ إبراهيم؟
لا، كانت السماءُ حاضرةً، إنما الغائبةُ هي “الإنسانيّةُ” المعذبة، وهي التي ستحمل على أكتافها وزر الخيانة، ذلك لأنها لم تقل على الأرض ما أوحت به السماء: لا للظلم.. لا للجور.. العدل، العدل أيها الناس.
ألفُ حسينٍ، وحسين
بعده بآلاف السنين، خرج شابٌ آخر ملتحٍ في الطرف الآخر البعيد من الدنيا ليقول بأعلى صوته إن كوبا ليست مجرد جزيرة صغيرة عائمة في المحيط، يتنازع عليها الروس والأمريكان. كوبا هي الوطن، والشعب، والتاريخ، فأبت إرادة السماء إلاّ أن تهدي إلينا، نحن المعذبين في الأرض، مثلاً آخر في السمو والبطولة الناصعة.
أخذ جيفارا الجود بالنفس من اسم سيده الإمام الحسين، فاستحقا الخلود، شاء من شاء