23 ديسمبر، 2024 3:09 م

لو قُدّر لأهل الجنّة العودة إلى ديارهم، لعادوا إلى العراق!

لو قُدّر لأهل الجنّة العودة إلى ديارهم، لعادوا إلى العراق!

( هذا نص الكلمة التي ألقيت في بوسطن، وصدرت مؤخراً في كتاب خاص، صدر مؤخراً عن جامعة برانديس احتفاء بالأستاذ الكبير إدوار قبلان)يقولُ المثلُ الشعبيّ العراقي “الإرثُ ترابٌ، والأيامُ جدارٌ من الطين”. وفي تلك الأيام، حينما كان البدرُ يضيءُ العالمَ كله، وكانت أقدامنا منه سوداء مظلمة، نقتاتُ على الخراب الذي يأكلنا ونأكله كلّ يوم، كتبتُ إلى أستاذ أمريكي- “يهودي” لا أعرفه، وطلبت منه أن يرسل لي ترجمته الحديثة لكتاب بودلير The Parisian Prowler . كنا نحن العراقيين قد إخترنا أعداءنا في هذا العالم المظلم، وكان الأمريكان ينظرون إلينا على بعد آلاف الأميال، ولا ندري تماماً ماذا يقولون. “سيأتي رعاة البقر على بوارج الحديد والنار، وسيذيبون قلوب العذارى حتى قبل أن يشربن شاي الصباح ..!” هكذا سارت بنا الأيام، لا شيء غير خيط الدم النازل من السماء. وصل كتاب قبلان قبل كل طائرات الشبح والفانتوم الأمريكية، وحتى قبل أن يصل أيِّ من المارينز العتاة. كتب قبلان على الصفحة الأولى، بخطٍّ ناعمٍ جميل يقول أنا أخوك في السلم. في ذلك اليوم عرفت أنني أنا “اليهودي التائه”، وأن هذا العالم خربٌ حتى قبل قصيدة اليوناني كفافي. لابد من أن نعرف المصير، ولا بد من أن نرضى بالخلاص. غايةُ المسلم لا تزيد على الرضا، وها أنا راضٍ تماماً. قال سيدنا عليٌّ أشرفُ الغنى، تركُ المُنى. أنظر أنا وعائلتي الصغيرة إلى السماء الحامية بالحديد المنصهر، وكأننا من سكان الكهوف. الشاعرُ موجودٌ في إنسان الكهوف، ويوجد أيضاً في عصرنا هذا، عصر الإبادة الجماعية حين تتزاوج الخطيئة والطهارة، القبحُ والجمال. هل دار بخلد قبلان حين أرسل الكتاب أنني واحد من الأقوام البعيدة التي اخترعت أول ألف باء في الوجود؟
ألفٌ. ألفا. ثورٌ: الثورُ البابليّ
باءٌ. بيتا. بيتٌ: بيتي الذي يهتزُ لأزيز السماء.
جيمٌ. جاما، جملٌ: يا لَصبر الجِمال التي تحمل الحديدَ، والثلج!
هي الدنيا. أيامٌ ولم نجد ما نقتات به غير الخراب. جاء الرحيل. ثلاث عشرة سنة في الغربة، لولا كلمات قبلان لمت، والبعض من الناس يتقربُ إلى السماءِ بالكلمات. عبرتُ الآلامَ بالكلمات. وها نحنُ، تقاعد الأستاذ إدوارد قبلان في الشهر نفسه الذي تقاعدتُ فيه، وبعد خدمة في التدريس الجامعي تربو على الثلاثين عاماً. الأبقار أول من روّض الجبال، وتأتي الخيول لتتقلد الصولجان. عجيبٌ حال الدنيا.
لكنني ما زلت أرقب العالم وأنتظر الرحيل الأخير. أتساءل عما يفعله قبلان. هل يرتب الآن كتبه وأوراقه من جديد؟ هل غير أسلوب طعامه مثلاً، أو أنه دخل في مغامرةٍ جديدة من مغامرات الحب البريء؟
أخي العزيز قبلان! ها أنا أحييك، وأقبلك على طريقة العراقيين الصادقة في إظهار الود، فأطبعُ قبلةً على جبينك العالي. لقد تبادلنا الأدوار، فأنا الآن “المسلمُ التائه” حقاً، حصانٌ غجري. فلماذا يا أبتِ؟ لماذا أنجبتَ حصانا غجرياً لا يعرفُ أين يموت؟!
لو قُدّرَ لأهلِ الجنّةِ العودة إلى ديارهم، لعادوا إلى العراق! وطنُ الشمس، والنجوم، والأطفال، والكروم، والخوف، والهموم. وطنُ اللهفة، والحنين، والحزن، والنخيل، والبكاء.
رأى البرقَ شرقياً، فحنّ إلى الشرقِ ولو لاح غربيّاً لحنّ إلى الغربِ
فإنّ غرامي بالبروقِ ولمحها وليس غرامي بالأماكنِ والتُربِ
خالص المحبة، مني، ومن زوجتي التي تعرفها، سحر أحمد، ومن بنتيّ العزيزتين، سنا، وسوان.